قرأ الجمهور : «قِتَالٍ » بالجَرِّ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه خفضٌ على البدلِ من «الشَّهْرِ » بدلِ الاشتمالِ ؛ إذ القتالُ واقعٌ فيه ، فهو مشتملٌ عليه .
والثاني : أنه خفضٌ على التَّكرير ، قال أبو البقاء{[3304]} : «يريدُ أنَّ التقديرَ : عَنْ قِتَالٍ فيه » . وهو معنى قول الفراء {[3305]} إِلاَّ أَنَّهُ قال : هُوَ مَخْفُوضٌ ب «عَنْ » مُضْمرَةً . وهذا ضعيفٌ جدّاً ؛ لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار . وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين ، والكسائي ، والفراءِ ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل ، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي .
وقوله : لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل ، فمُسَلَّمٌ ، وإن أراد في البدلِ ، فممنوعٌ ، وهذا هو الذي عناه الكسائي .
الثالث : قال أبو عبيدة{[3306]} : «إِنه خفضٌ على الجِوَارِ » .
قال أبو البقاء{[3307]} : «وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ » وقال ابن عطية : «هُوَ خَطَأٌ » . قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ . وجهةُ الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع ، أو منصوب ، من حيثُ اللفظُ والمعنى ، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً ، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض ؛ كقولهم : «هذا جُحْرُ ضَبِّ خَرِبٍ » ، وكان مِنْ حقِّه الرفع ؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر ، لا من صفاتِ الضبِّ ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاء اللهُ تعالى ، و«قِتَالٍ » هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ ، أو منصوبٍ ، وجاورَ مَخفوضاً فخُفِض .
وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً ، أي : فصار تابعاً له ، لم يكنْ خطأً ، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته ؛ فالتبس بالمصطلح عليه .
وقرأ ابن عباس{[3308]} والأَعمش : «عَنْ قِتَالٍ » بإظهارِ «عَنْ » وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك . وقرأ عكرمة{[3309]} : «قتْلٍ فِيهِ ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ » بغير ألف .
وقُرئ{[3310]} شاذّاً : «قِتَالٌ فيه » بالرفع وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مبتدأٌ ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام ، تقديره : أَقِتَالٌ فيه .
والثاني : أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه : أجائزٌ قتالٌ فيه ، فهو فاعلٌ به . وعَبَّر أبو البقاء{[3311]} في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ : إِمَّا مبتدأٌ ، وإِمَّا فاعلٌ ، وإمَّا خبرُ مبتدأ . قالوا : ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا ، وإنَّما كان سؤالهم : هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا ؟ وعلى كِلا هذين الوجهين ، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ ، لأنَّ «سَأَلَ » قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول ، وإن كانت محَطَّ السؤال .
وقوله : «فِيهِ » على قراءةِ خفضِ «قِتَالٍ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه في محلِّ خفضٍ ؛ لأنه صفةٌ ل «قِتَالٍ » .
والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ ؛ لتعلُّقه بقتال ، لكونه مصدراً .
وقال أبو البقاء{[3312]} : كما يتعلَّقُ ب «قِتَالٍ » ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل .
والضميرُ في «يَسْأَلُونك » قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول ، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانُوا مسلمين ، فما قبل هذه الآية { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ } [ البقرة :214 ] { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ } [ البقرة :215 ] حكاية عن المؤمنين ، وما بعدها كذلك وهو قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } [ البقرة :219 ] ، { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى } [ البقرة :220 ] فوجب أن تكون هذه كذلك .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال : ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض ، كلهن في القُرآنِ{[3313]} ، ومنها { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ } .
وقيل : الضمير للكفارِ ؛ سأَلُوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القتال في الشهر الحرام ، فأَخبَرَهُم أنه حرامٌ ؛ فتركوا ، واستحلوا قتالهم فيه فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ ، وعن المسجدِ الحرام ، والكُفرِ به ، أكبرُ من هذا القتالِ . { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال ، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين ، ثم أنزل الله تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } [ البقرة :194 ] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في «الشَّهْرِ الحرام » قيل : للعهد ، وهو رجبٌ ، وقيل : للجنسِ ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ .
قوله : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى : القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ :
إمَّا الوصفُ ، إذا جعلنا قوله : «فيه » صفةً له .
وإمَّا التخصيصُ بالعمل ، إذا جعلناه متعلقاً بقتال ، كما تقدَّم في نظيره .
فإِنْ قيل : قد تقدَّم لفظُ نكرة ، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها ، وكان حقُّها ذلك ، كقوله تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } [ المزمل :15-16 ] لإِنَّه لو لم يكن كذلك ، كان المذكور الثاني غير الأول ، وهذا غيرُ واضحٍ ؛ لإِنَّ الألف كقوله : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح :5 ، 6 ] .
فقال أبو البقاء{[3314]} : «ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه ، حتى يُعادَ بالألف واللامِ ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان ، فعلى هذا «قِتَالٌ » الثاني غيرُ الأولِ ، وهذا غيرُ واضحٍ ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً ، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ . وأَحسنُ منه قولُ بعضهم : إنَّ الثَّاني غير الأولِ ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش ، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ ؛ فليس من الكبائرِ ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا ، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ ، ونصرةُ الكُفْرِ ، فاختير التنكير في هذين اللفظين ؛ لهذه الدقيقة ، ولو جِيءَ بهما معرفتين ، أو بأحدهما مُعرَّفاً ، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ .
روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ : سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن جحش الأَسديّ ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ ، من المهاجرين ؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي ، وعتبة بن غزوان السَّلَمي ، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وسهيل ابن بيضاء ، وعامر بن ربيعة ، وواقد بن عبد الله الحنظليّ ، وخالد بن بُكَير ، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً ، ودفعه إليه ، وقال : سِر على اسم الله ، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين ، فإذا نزلتَ ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك ، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك ، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك ، فسار عبد الله يومين ، ثم نزل وفتح الكتاب ، وإذا فيه «بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم » أمَّا بعد : فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك ؛ حتَّى تنزل بطن نخلة{[3315]} ، فترصُد بها عير قريش ؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ ، فلمَّا نظر في الكتاب ، قال سَمْعاً وطاعة ، ثم قال لأَصحابه ذلك ، وقال : إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم ؛ فمن كان يريد الشهادة ، فلينطلق معي ، ومنْ كرِه ، فليَرْجِع ، ثم مَضَى ، ومَضَى معه أصحابه ، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران ، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يعتقبانه ؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه ، حتى نزل «ببطنِ نَخْلَةَ » بين «مَكَّةَ » و«الطائف » فبينما هم كذلك ، مرت عيرٌ لقريشٍ تحملُ زبيباً ، وأدماً ، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، ونوفلُ بن عبد الله المخزوميَّان ، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هابوهم ، فقال عبد الله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم ، فاحلقُوا رأس رجُلٍ منكم ؛ وليتعرض لهم ، فحلقُوا رأس عُكَاشة ، ثم أَشرفوا عليهم ؛ فقالوا : قومٌ عمَّارٌ ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة . فكانوا يرون أنَّه من جمادى ، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ ، وقالوا : لئن تركتموهم الليلة ؛ ليدخُلنَّ الحرمَ ، فليمنعُنّ به منكم ، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ ، فَرَمَى واقدُ بن عبد الله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ ، فقتله ، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين ، واستأْسَرَ الحكم وعثمان ، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام ، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم ، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين ، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينةِ ، فقالت قريشٌ : لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ ؛ فسفك فيه الدِّماءَ ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ ، وغير ذلك ، فقال أهلُ «مكَّةَ » مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا : يا معشرَ الصَّبَأة ، استحللتُم الشهر الحرام ، وقاتلتم فيه ، فقال عبد الله بن جحش : يا رسول اللهِ : إنَّا قتلنا ابن الحضرمي ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري : أفي رجبٍ أصبناه ، أم في جمادى .
فوقَّف رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - العير ، والأسَارى ؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك ، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة ، وظنُّوا أن قد هلكُوا ، وسُقِط في أيديهم ، وأكثر الناس في ذلك ، فأنزل اللهُ هذه الآية ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العير ، فعزل منه الخمس ، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام ، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال : بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة ، وإنْ لم يَقْدُمَا ، قتلناهُما بهما ، فلمَّا قدما ؛ فاداهما ، فأمَّا الحكم بن كيسان ، فأسلَمَ ، وأقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ ، فقُتِل يوم بئر معونة{[3316]} شهيداً ، وأَمَّا عثمان بن عبد الله ، فرجع إلى مكة ؛ فمات بها كافِراً ، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ{[3317]} ؛ ليدخل الخندقَ ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن ؛ فقال رسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ ، خبيثُ الدِّيَةِ{[3318]} .
اتفق الجمهورُ : على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام ، ثُمَّ اختلفُوا : هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ ؟
فقال ابن جريج : حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم ، ولا في الشَّهرِ الحرامِ ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع{[3319]} وروى جابر قال : لم يكن رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى{[3320]} .
وسُئِلَ سعيد بن المسيب : هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام ؟ قال : نعم{[3321]} .
قال أبو عبيد : والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها{[3322]} ولم أر أحداً من علماء «الشام »{[3323]} ، و«العراق »{[3324]} ينكرُه عليهم ، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز .
وحجته قوله تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة :5 ] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام .
قال ابن الخطيب{[3325]} : والذي عندي أن قوله تعالى : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } نكرة في سياق الإِثبات ، فيتناول فرداً واحداً ، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام ، ولا حاجة إلى النسخ فيه .
أحدهما : أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه ، و«أكبرُ » خبرُ عن الجميع ، قاله الزَّجَّاج ، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه ، وإن كان كبيراً ، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة :44 ] وقوله : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف :2 ] .
وجاز الابتداءُ ب «صَدّ » لأحد ثلاثة أوجهٍ :
إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله : «عَنْ سَبِيلِ الله » .
وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات .
والثاني : أنه عطفٌ على «كبيرٌ » أي : قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ ، قاله الفراء{[3326]} .
قال ابن عطية : وهو خطأٌ ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله : «وكفرٌ به » عطفٌ أيضاً على «كبيرٌ » ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ ، وهو بَيِّنٌ فسادُه .
وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء ، غير لازم له ؛ إذ له أَنْ يقولَ : إِنَّ قولَه «وكفرٌ به » مُبْتَدَأٌ ، وما بعده عَطْفٌ عليه ، و«أكبرُ » خبرٌ عنهما ، أي : مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر ، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ .
وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله ؛ إذ التقدير : وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ .
أحدهما : أنه عطفٌ [ على «صَدّ » على قولنا بأن «صَدًّا » مُبتدأ لا على ] قولنا : بأنه خبرٌ ثانٍ عن «قِتالٍ » ، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً ، وليس كذلك ، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ ، وتقويةُ الكفرِ ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم ، فيكونُ كفراً ، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً ، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط ، أي : وكُفْرُكم .
والثاني : أن يكون مبتدأٌ ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه . والضميرُ في «به » فيه وجهان :
أحدهما : أنه يعودُ على «سبيل » لأنه المحدَّثُ عنه .
والثاني : أنه يعودُ على اللهِ ، والأولُ أظهرُ . و«به » فيه وجهان ، أعني كونه صفةً لكفر ، أو متعلقاً به ، كما تقدَّم في «فيه » .
قوله : «والمسجدِ » مجروراً ، وقرئ{[3327]} شاذاً مرفوعاً . فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ .
أحدها : وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية «وهو الصحيح » - أنه عطفٌ على «سبيلِ الله » أَي : وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ .
وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ «صَدّاً » مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ ، والفعل ، و«أَنْ » موصولة ، وقد جَعَلْتُم «وَالْمَسْجِدِ » عطفاً على «سَبِيلِ » ، فهو من تمام صلته ، وفُصِل بينهما بأجنبيّ ، وهو «وَكُفْرٌ بِهِ » . ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ . فإنْ قيل : يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجَرّ ما لم يتوسع في غيرهما .
قيل : إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم ، لا في الفَصْل .
الثاني : أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في «بِهِ » ، أي : وكفرٌ به ، وبالمسجد ، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين . وأمَّا البصريُّون ؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة ، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة ، وما هو الصَّحيحُ فيها ؟ فنقول وبالله التوفيق : اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب :
أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين- : وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ .
الثاني : أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعةِ مُطْلِقاً ، وهو مذهبُ الكُوفيين ، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين .
والثالث : التَّفصيلُ ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو : «مَرَرْتُ بِكَ نفسِك ، وزيدٍ » ، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً ، وهو قول الجَرميّ ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به ، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس .
أَمَّا السَّماعُ : ففي النَّثْرِ كقولهم : «مَا فِيهَا غَيْرُه ، وفرسِهِ » بجرِّ «فَرَسِهِ » عطفاً على الهاءِ في «غَيْره » . وقوله : { تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء :1 ] في قراءة جماعةٍ كثيرة ، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء ، رووا هذه اللغة ، لكان مقبولاً بالاتِّفاق ، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول .
ومنه : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } [ الحجر :20 ] ف «مَنْ » عطف على «لَكْم » في قوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } [ الحجر :20 ] . وقوله : { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ }
[ النساء :127 ] عطف على : «فيهنّ » ، وفيما يُتلى عَلَيْكُم . أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً ، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس : [ الوافر ]
أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي *** أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا{[3328]}
فَ «سِوَاهَا » عطفٌ على «فِيهَا » ؛ وقولُ الآخر : [ الطويل ]
تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا *** ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ{[3329]}
هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ *** وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ{[3330]}
بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى *** وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ{[3331]}
لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ *** مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ{[3332]}
إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ *** فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا{[3333]}
إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ *** ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا{[3334]}
آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ *** مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ{[3335]}
فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا *** فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ{[3336]}
فكثرةُ ورودِ هذا ، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ ، فجاءوا تارةً بالواو ، وأخرى ب «لا » ، وأخرى ب «أَمْ » ، وأخرى ب «بَلْ » دليلٌ على جوازِه ، وأمَّا ضعفُ الدَّليل : فهو أَنَّهم منعُوا ذلك ؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين ، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ .
ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً ، أعْنِي سواءً كان مرفوع الموضعِ ، أو منصوبه ، أو مجروره ، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ ، أم لا كالتَّنوين .
وأَمَّا القياسُ ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة ، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورُ ، ويُبْدَلُ منه ، فكذلك يُعطفُ عليه{[3337]} .
الثالث : أَنْ يكون معطوفاً على { الشَّهْرِ الْحَرَامِ } ثم بعد هذا طريقان :
أحدهما : أنّ قوله : " قِتَالٌ فِيهِ " مبتدأ ، وقوله { كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ } خبر بعد خبر ، والتَّقدير : إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله .
والطريق الثانِي : أَنْ يكون قوله : { قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } جملة مبتدأ وخبر وقوله : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ } ، فهو مرفوع بالابتداء . وكذا قوله " وكُفْرٌ بِهِ " والخبر محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه ، والتَّقدير : قل : قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره : زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو ، وتقديره : وعمرو منطلق . وطعن البصريُّون في هذا فقالوا : أَمَّا قولكم تقدير الآية : يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام ؛ فهو ضعيف ؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام ، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله ، وهو خطأ بالإجماع .
الثاني : بأنَّه قال بعد ذلك { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ } أي : أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم ، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر ، وهو خطأٌ بالإجماع .
قال ابن الخطيب{[3338]} : وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ : من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام ، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع ؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام ، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال ، وقولهم : على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر ، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم .
وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ .
وقولهم على الثَّاني : يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر .
قلنا : المُراد أهل المسجد : وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه ، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ ، ولا شكّ أن الشيء الَّذي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر ، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً وحده ، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام .
قال أبو البقاء{[3339]} : وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه ، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام .
والثاني : القتال في المسجد الحرام ؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد ، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما ؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى ، فيكون [ قتال ] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله ، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه . وفي الجملةِ ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ ، والتركِيبُ الفصيحُ .
الرابع : أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره : ويصُدُّون عن المسجد ، كما قال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }
[ الفتح :25 ] قاله أبو البقاء{[3340]} ، وجعله جيّداً ، وهذا غيرُ جيّد ؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها ، على خلافٍ في بعضها ، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ ؛ كقوله : [ الطويل : ]
إِذَا قِيلَ : أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ *** أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ{[3341]}
أي : إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه ، أجودها الثاني .
ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً .
وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على " وَكُفْرٌ " على حذف مُضافٍ تقديره " وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ " فحُذِفَت الباءُ ، وأُضِيفَ " كُفْرٌ " إلى المسجد ، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ .
وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ :
أحدها : أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله .
وثانيها : صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام .
وثالثها : صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة .
ولقائل أن يقول : دلّت الرِّوايات على أَنَّ هذه الآية ، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث ، وأما " المَسْجِد الحَرَامِ " فإِنْ عطفناه على الضَّمير في " بِهِ " ؛ كان المعنى : وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ ، والطَّواف به ، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع . وإن عطفناه على " سَبِيلِ اللهِ " كان المعنى : وصدّ عن المسجد الحرام ، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين ، والعاكِفِين ، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ .
قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } عطفٌ على " كُفرٌ " ، أو " صَدٌّ " على حسب الخلافِ المتقدِّم ، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله ، وأُضيفَ إلى مفعوله ، تقديرُه : " وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ " .
والضَّميرُ في " أَهله " و " مِنْهُ " عائدٌ على المَسْجِد وقيل : الضَّمير في " مِنْهُ " عائِدٌ على سبيل الله ، والأَوّل أظهرُ و " منه " متعلِّقٌ بالمصدر .
قوله : " أَكْبَرُ " فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبرٌ عن الثلاثة ، أعني : صَدّاً وكفراً ، وإخراجاً كما تقدَّم ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن يكون خبراً عن المجموع ، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونَ خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ ، كما تقول : " زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ " ، أي : كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ . وهذا هو الظَّاهِرُ . وإِنّما أُفْرِدَ الخبر ؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه : أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ . وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى .
الثاني من الوجهين في " أَكْبر " : أن يكونَ خبراً عن الأَخير ، ويكونُ خبر " وَصَدّ " و " كُفْر " محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره : وصدّ وكُفر أكبر . قال أبو البقاء{[3342]} في هذا الوجه : ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا " كبير " كما قدَّره بعضهم ؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر ، وليس كذلك . وفيما قاله أبو البقاء نظر ؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ : حُذِف خبر " وَصَدّ " و " كُفْر " لدلالة خبر " قِتَالٍ " عليه ، أي : القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً ، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام . ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور .
و " عِنْدَ اللهِ " متعلِّق ب " أَكْبر " ، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف .
والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له ؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح :26 ] وقال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ } [ الأنفال :34 ] فأخبر تعالى : أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء ، وحكم عليها بأنها أكبر ، أي : كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام ، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج ؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام ، فالكفر أعظم من القتل ، أو نقول : كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام ، وهو القتال الَّذي صدر عن عبد الله بن جحش ؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام ، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام ؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً .
قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } ذكروا في الفتنة قولين :
أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين{[3343]} - : أنَّها الكفر ، أي : الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام .
قال ابن الخطيب{[3344]} : وهذا يستقيم على قول الفرَّاء ، وضعيف على قول الزَّجَّاج ؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك ، فإنَّه تعالى قال : " وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ " فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً .
والقول الثاني : أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم ، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال ، وعمَّار ، وصهيب .
قال : محمَّد بن إسحاق{[3345]} : لأن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال : فتنت الذَّهب بالنَّار : إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } [ التغابن :15 ] ، أي : امتحان ؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله ، تفكّر في ولده ؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى : { الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت :1-2 ] ، أي : لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } [ طه :40 ] وقال : { فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ } [ العنكبوت :10 ] وقال : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [ البروج :10 ] والمراد أنهم آذوهم ، وعذبوهم لبقائهم على دينهم . وقال : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ النساء :101 ] ، وقال : { مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } [ الصافات :162 ] وقال : { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ } [ آل عمران :7 ] أي : ابتغاء المحبَّة في الدِّين . وقال : { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ } [ المائدة :49 ] وقال : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } [ يونس :85 ] والمعنى : أن يفتنوا بها عن دينهم ، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر ؛ وقال : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } [ القلم :5-6 ] قيل : المفتون المجنون ؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء ، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة ، فالفتنة أكبر من القتل ؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة ، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه ، وهو قتل ابن الحضرميّ .
روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة : إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام ؛ فعيروهم بالكفر ، وإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام{[3346]} .
وصرح هنا بالمفضول في قوله : { وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف .
قوله : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } هذا فعل لا مصدر له ، قال الواحديّ : ما زال يفصل ولا يقال منه : فاعل ، ولا مفعول ، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عَسَى » ليس له مصدرٌ ، ولا مضارع ، وكذلك ذو ، وما فتِئَ ، وهلمّ ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا . ومعنى «لاَ يَزَالُونَ » : نفي : فإذا دخلت عليه " مَا " كان ذلك نفياً للنَّفي ، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم .
قوله تعالى : { حَتَّى يَرُدُّوكُمْ } حتى حرف جرِّ ، ومعناها يحتمل وجهين :
والثاني : التَّعليل بمعنى كي ، والتَّعليل أحسن ؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل ، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال : " وَحَتّى " معناها التَّعليل كقولك : " فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة " ، أي : يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم " . ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال : " وَ " يَرُدُّوكُم " نصب ب " حَتّى " ؛ لأنَّها غاية مجرّدة . وظاهر قوله : " مَنْصُوبٌ بِحَتّى " أنه لا يضمر " أنْ " لكنَّه لا يريد ذلك ، وإن كان بعضهم يقول بذلك . والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً .
و " يَزَالُونَ " مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم ، وتنصب الخبر ، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ ، أو نهي ، أو دعاء ، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم ، وإلاَّ فسماعاً ، وأحكامها في كتب النَّحو ، ووزنها فعل بكسر العين ، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها : يزيل ، وإن كان الأكثر يزال ، فأمَّا زال التَّامَّة ، فوزنها فعل بالفتح ، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول ، ومعناها التَّحوُّل . و " عَنْ دِينكُمْ " متعلق ب " يردُّوكُم " وقوله : " إِن اسْتَطَاعُوا " شرط جوابه محذوف للدلالة عليه ، أي : إن استطاعوا ذلك ، فلا يزالوا يقاتلونكم ، ومن رأى جواز تقديم الجواب ، جعل " لاَ يَزَالُونَ " جواباً مقدّماً ، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم : " أَنْتَ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ " .
قوله : " مَن يَرْتَدِدْ " " مَنْ " شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء ، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام ، وفي المائدة [ آية54 ] اختلفوا فيه ، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى .
ويرْتَدِدُ يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله : { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً }
[ الكهف :64 ] . قال أبو حيَّان : " وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر ، وجَعَلَ من ذلك قوله : { فَارْتَدَّ بَصِيراً } [ يوسف :96 ] أي : رجَع " وهذا منه سهوٌ ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار ، أم لا ، ولذلك مثلوا بقوله : " فَارْتدَّ بَصِيراً " فمنهم من جعلها بمعنى : " صَارَ " ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً ، وإلاّ فأين المفعولان هنا ؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى : " صَيَّر " ، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ ، فاشتبه عليه ردَّ ب " ارْتَدَّ " وصيَّر ب " صَارَ " .
وقال الواحديُّ{[3347]} : وأظهر التَّضعيف مع الجزم ، ولسكون الحرف الثاني ، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام .
و " منكم " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في " يَرْتَدِدْ " و " من " للتَّبعيض ، تقديره : ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم ، أي : بعضكم . و " عَنْ دِينِه " متعلِّقٌ ب " يَرْتَدد " ، و " فَيَمُتْ " عطفٌ على الشَّرط ، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيب .
" وَهُوَ كَافِرٌ " جملةٌ حاليةٌ من ضمير : " يَمُتْ " ، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها ، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد ، وجيءَ بالحال هنا جملةً ، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً .
وقوله : { فَأُوْلئِكَ } جواب الشَّرط .
قال أبو البقاء{[3348]} : و " مَنْ " في موضع مبتدأ ، والخبر هو الجملة التي هي قوله : { فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ } ، وكان قد سلف له عند قوله : { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة :38 ] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه ، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة ، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها ، ومثله لا يقع في ذلك .
و " حَبِطَ " فيه لغتان : كسر العين - وهي المشهورة - وفتحها ، وبها قرأ{[3349]} أبو السَّمَّال في جميع القرآن ، ورويت عن الحسن أيضاً . والحبوط : أصله الفساد .
قال أهل اللُّغة : أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها ، فتعظم بطونها ، فتهلك . وفي الحديث : " وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً " {[3350]} ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها ؛ فتموت البطن .
ومنه : " حَبِطَ بَطْنُه " ، أي : انتفخ ، ومنه " رَجلٌ حَبَنْطَى " ، أي : منتفخ البطن .
وحمل أوّلاً على لفظ " مَنْ " فأفرد في قوله : " يَرٍْتَدِدْ ، فيمت ، وهو كَافِرٌ " وعلى معناها ثانياً في قوله : " فَأُولَئِكَ " إلى آخره ، فجمع ، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين : أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ ، ثمَّ على المعنى . وقوله " في الدُّنْيَا " متعلِّقٌ ب " حَبِطَتْ " .
وقوله : { وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها . واختلفوا في هذه الجملة : هل هي استئنافيّةٌ ، أي : لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار ، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط ، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط ، أو هي معطوفة على الجواب ؛ فيكون محلُّها الجزم ؟ قولان ، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد ، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط ، والقرب مرجِّحٌ .
قال القرطبيُّ{[3351]} : اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر ؛ فقال جمهور الفقهاء : لا يتعرَّض له ؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ : أنَّه يقتل ؛ بقوله عليه السَّلام : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ{[3352]} " وقال مالكٌ : معناه : من خرج من الإسلام إلى الكفر ، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر ، فلم يعنه الحديث .
فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة . ويتفرَّع عليه بحثان : بحثٌ أصولي ، وبحثٌ فروعي . فالأصوليُّ : أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا : شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة ، فلا يكون الإيمان إيماناً ، إلاَّ إذا مات المؤمن ، ولا يكون الكفر كفراً ، إلاَّ إذا مات الكافر عليه .
وأما البحث الفروعيُّ : فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى ، ثم ارتدّ ، ثمَّ أسلم في الوقت ؛ قال الشافعيُّ : لا إعادة عليه .
وقال أبو حنيفة : يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج ، حجة الشَّافعي قوله تعالى : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط ؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً .
فإن قيل : هذا معارض بقوله تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام :88 ] وقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة :5 ] .
ولا يقال : حمل المطلق على المقيَّد{[3353]} واجبٌ ؛ لأنَّا نقول : ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد ؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين ، وعلقه بشرط ، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده : أنت حرٌّ ؛ إذا جاء يوم الخميس ، ولم يكن في ملكه ، ثم اشتراه ، ثم جاء يوم الخميس ؛ عتق ولو كان باعه ، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل .
ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل ؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد ، فَنِيَ وزَال ، وإعدم المعدوم محال . ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه ؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير : المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق ، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشمٍ وجمهور المتأخرين من المعتزلة ، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي{[3354]} .
وقال المنكرون للإِحباط : هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله ، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط ؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً ، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد ، وأتى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ ، لا يستفيد منه نفعاً ، بل يستفيد منه أعظم المضارّ ، يقال : إنَّه حبط عمله ، أي : بعملٍ باطلٍ ، ليس فيه فائدة ، بل فيه مضرَّةٌ .
أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا ، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به ، ويقاتل إلى أن يظفر به ، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً ، ولا ثناءً حسناً ، وتبين زوجته منه ، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين . ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا ، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين ، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره ؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة ، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة ، فعند القائلين بالإحباط معناه : إنَّ هذه الرِّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة . وعند المنكرين لذلك معناه : أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً ، ونفعاً في الآخرة ، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال : { وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
قال القرطبيُّ{[3355]} : قالت طائفةٌ : يستتاب المرتدُّ ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل .
وقال بعضهم : يُسْتَتَابُ ساعةً واحدةً .
وقال آخرون : يُسْتَتَابُ شهراً .
وقال آخرون : يُسْتَتَابُ ثلاثاً ، على ما روي عن عمر وعثمان ، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم .
وقال الحسن{[3356]} : يُسْتَتَابُ مائة مرَّةٍ ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ .
واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب ، بحديث معاذٍ ، وأبي موسى : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل ، فلمَّا قدم عليه قال : انزل ، وألقى له وسَادَةٌ ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ ، قال : مَا هَذَا ؟ قال : كَانَ يُهُودِياً ، فأسلم ، ثم راجع دينه ، فتهوَّد ، قال : لا أجلس حتّى يُقتل ، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات ، وأمر به فقتل . أخرجه " مُسْلِمٌ " وغيره{[3357]} .