قد تقدَّم أنَّ " ماذا " له استعمالات ستَّةٌ عند قوله :
{ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] . وهنا يجوز أن تكون " ماذا " بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، بمعنى الاستفهام ؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل " يُنْفِقُونَ " ؛ لأنَّ العرب يقولون : " عماذا تَسْأَلُ " بإثبات الألف ، وحذفوها من قولهم : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } [ النازعات : 43 ] فلما لم يحذفون الألف من آخر " مَا " ، علمت أنه مع " ذا " بمنزلة اسم واحدٍ ، ولم يحذفوا الألف منه ، لمَّا لم يكن آخر الاسم ، والحذف يلحقها إذا كان آخراً ، إلاَّ أن يكون في شعر ؛ كقوله : [ الوافر ]
عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ *** كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ{[3272]}
قال القرطبي{[3273]} : إن خفَّفت الهمزة ، قلت : يسلونك ، ومنه : ما " يُنْفِقُون " ويجوز أن تكون " ما " مبتدأ و " ذا " خبره ، وهو موصولٌ . و " ينفقون " صلته ، والعائد محذوفٌ ، و " ماذا " معلِّق للسؤال ، فهو في موضع المفعول الثاني ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله :
{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] .
قال القرطبي{[3274]} : متى كانت اسماً مركباً ، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر : [ الطويل ]
وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا *** سِوَى أَنْ يَقُولُوا : إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ{[3275]}
فإِنَّ " عَسَى " لا تعمل فيه ، ف " ماذا " في موضع رفعٍ ، وهو مركَّبٌ ؛ إذ لا صلة ل " ذا " .
وجاء " ينفقون " بلفظ الغيبة ؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في " يَسْألونَكَ " ، ويجوز في الكلام " ماذا نُنْفِقُ " كما يجوز : أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] في المائدة إن شاء الله تعالى .
قوله : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوز في " ما " وجهان :
أظهرهما : أن تكون شرطيّةً ؛ لتوافق ما بعدها ، ف " ما " في محلِّ نصبٍ ، مفعولٌ مقدَّمٌ ، واجبُ التقديم ؛ لأنَّ له صدر الكلام . و " أَنْفَقْتُمْ " في محلِّ جزمٍ بالشرط ، و " مِنْ خَيْرٍ " تقدَّم إعرابه في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] .
وقوله : " فللوالدين " جواب الشرط ، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فمصرفه للوالدين ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، إمَّا مفردٌ ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى . وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط .
والثاني : أن تكون " مَا " موصولة ، و " أَنْفَقْتُمْ " صلتها ، والعائد محذوف ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي أنفقتموه . والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور .
قال أبو البقاءِ{[3276]} في هذا الوجه : " ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفِ " .
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل ، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 243 ] .
قال عطاء ، عن ابن عباسٍ : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إِن لي دِيناراً ، فقال : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ ، قال : إنّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ لِي آخَر ، قال : أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ ، قال : إنّ لي آخر ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال : إنَّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ ، قال : إنَّ لي آخَرَ قال : أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله ، وهو أَحْسَنُها{[3277]} " .
وروى الكلبيُّ ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح ، وهو الذي قتل يوم أُحُدٍ ، وكان شيخاً كبيراً هرماً ، وعنده مالٌ عظيمٌ ، فقال ماذا ننفق من أموالنا ؟ وأين نضعها ؟ فنزلت الآيةُ{[3278]} .
فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف ؟
أحدها : أنَّ في الآية حذفاً ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكلبيِّ في سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : " مِنْ خَيْرٍ " وعن المنفق عليه بقوله : فَلِلْوَالِدَيْنِ " وما بعده .
ثانيها : أن يكون " ماذا " سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون ؟
ثالثها : أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مرادٌ ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى :
{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [ البقرة : 171 ] .
رابعها : قال الزمخشريُّ : قد تضمَّن قوله : { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه ، وهو كلُّ خيرٍ ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف ؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها . قال : [ الكامل ]
إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً *** حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ{[3279]}
خامسها : قال القفَّال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ " ما نُنْفِقُ " : إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية ؛ لأنهم كانوا عالمين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا معلوماً عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة :70 ، 71 ] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : " مَا هِيَ " لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة ؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا ها هنا .
وسادسها : يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤالٌ فاسدٌ ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال الطبيب : كل في اليومين مرَّتين ، ومعناه ، كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط .
اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق{[3280]} ، فقدَّم الوالدين{[3281]} ، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من العدم إلى الوجود ، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود ؛ قال تعالى :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين ؛ فلذلك قدمهما ، ثم الأقربين ؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره ؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره ، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ .
فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر " الْوَالِدَيْنِ " ثمَّ عطف عليه " الأَقْرَبِينَ " والعاطف يقتضي المغايرة ، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين ، فهو خلاف الإجماع ؛ لأنَّه لو وقف على " الأَقْربين " حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ .
فالجواب : أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ ؛ كقوله تعالى :
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] فعطف القرآن على السبع المثاني ، وهي من القرآن ، وقال - عليه السّلام - " أفضل ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي . . . {[3282]} " فعطف " النَّبِيِّين " على قوله : " أَنَا " وهو من النبيين ، وذلك شائعٌ في لسان العرب ، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى ؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم ، فالطفل اليتيم : قد عدم الكسب ، والمكاسب ، وأشرف على الضياع ، ثم ذكر بعدهم المساكين ؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى ؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم ؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يحتاج ، ويفتقر ، فهذا أصحُّ تركيبٍ ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق ، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالاجمال ، فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ، ولا في السَّماء .
و " ما " هذه شرطيةٌ فقط ؛ لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى . وقرأ{[3283]} عليٌّ رضي الله عنه : " وما يفعلوا " بالياء على الغيبة ، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب ، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه ، أي : وما يفعل الناس .
قال أكثر العلماء : المراد ب " الخَيْر " هو المال ؛ لقوله تعالى :
{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وقال : { إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } [ البقرة : 18 ] .
وقيل : المراد بالخير هذا الإنفاق ، وسائر وجوه البرِّ ، والطاعة .
قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المواريث .
وقال أهل التفسير : إنها منسوخة بالزكاة .
قال بعضهم : وكلاهما ضعيفٌ ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها .
أحدها : قال أبو مسلم{[3284]} الأصفهاني : الإنفاق على الوالدين ، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك ، والمراد ب " الأَقْرَبِينَ " الولد ، وولد الولد ، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة ، والميراث يصل بعد الموت ، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ .
وثانيها : أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة ، فالأولى أن ينفقه في هذه الجهات ، فيكون المراد التطوع .
ثالثها : أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية ، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً .
ورابعهما : يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم ، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة ، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ .