اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَسۡـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَۖ قُلۡ مَآ أَنفَقۡتُم مِّنۡ خَيۡرٖ فَلِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۗ وَمَا تَفۡعَلُواْ مِنۡ خَيۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (215)

قد تقدَّم أنَّ " ماذا " له استعمالات ستَّةٌ عند قوله :

{ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً } [ البقرة : 26 ] . وهنا يجوز أن تكون " ماذا " بمنزلة اسمٍ واحدٍ ، بمعنى الاستفهام ؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل " يُنْفِقُونَ " ؛ لأنَّ العرب يقولون : " عماذا تَسْأَلُ " بإثبات الألف ، وحذفوها من قولهم : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ } [ النبأ : 1 ] وقوله { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } [ النازعات : 43 ] فلما لم يحذفون الألف من آخر " مَا " ، علمت أنه مع " ذا " بمنزلة اسم واحدٍ ، ولم يحذفوا الألف منه ، لمَّا لم يكن آخر الاسم ، والحذف يلحقها إذا كان آخراً ، إلاَّ أن يكون في شعر ؛ كقوله : [ الوافر ]

عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ *** كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ{[3272]}

قال القرطبي{[3273]} : إن خفَّفت الهمزة ، قلت : يسلونك ، ومنه : ما " يُنْفِقُون " ويجوز أن تكون " ما " مبتدأ و " ذا " خبره ، وهو موصولٌ . و " ينفقون " صلته ، والعائد محذوفٌ ، و " ماذا " معلِّق للسؤال ، فهو في موضع المفعول الثاني ، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله :

{ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } [ البقرة : 211 ] .

قال القرطبي{[3274]} : متى كانت اسماً مركباً ، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر : [ الطويل ]

وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا *** سِوَى أَنْ يَقُولُوا : إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ{[3275]}

فإِنَّ " عَسَى " لا تعمل فيه ، ف " ماذا " في موضع رفعٍ ، وهو مركَّبٌ ؛ إذ لا صلة ل " ذا " .

وجاء " ينفقون " بلفظ الغيبة ؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في " يَسْألونَكَ " ، ويجوز في الكلام " ماذا نُنْفِقُ " كما يجوز : أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى :

{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [ المائدة : 4 ] في المائدة إن شاء الله تعالى .

قوله : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } يجوز في " ما " وجهان :

أظهرهما : أن تكون شرطيّةً ؛ لتوافق ما بعدها ، ف " ما " في محلِّ نصبٍ ، مفعولٌ مقدَّمٌ ، واجبُ التقديم ؛ لأنَّ له صدر الكلام . و " أَنْفَقْتُمْ " في محلِّ جزمٍ بالشرط ، و " مِنْ خَيْرٍ " تقدَّم إعرابه في قوله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] .

وقوله : " فللوالدين " جواب الشرط ، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف ، أي : فمصرفه للوالدين ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، إمَّا مفردٌ ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى . وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط .

والثاني : أن تكون " مَا " موصولة ، و " أَنْفَقْتُمْ " صلتها ، والعائد محذوف ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي أنفقتموه . والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور .

قال أبو البقاءِ{[3276]} في هذا الوجه : " ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفِ " .

فصل في سبب النزول

اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل ، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ البقرة : 243 ] .

قال عطاء ، عن ابن عباسٍ : نزلت الآية في رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إِن لي دِيناراً ، فقال : أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ ، قال : إنّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ لِي آخَر ، قال : أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ ، قال : إنّ لي آخر ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال : إنَّ لِي آخَرَ ، قال : أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ ، قال : إنَّ لي آخَرَ قال : أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله ، وهو أَحْسَنُها{[3277]} " .

وروى الكلبيُّ ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح ، وهو الذي قتل يوم أُحُدٍ ، وكان شيخاً كبيراً هرماً ، وعنده مالٌ عظيمٌ ، فقال ماذا ننفق من أموالنا ؟ وأين نضعها ؟ فنزلت الآيةُ{[3278]} .

فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف ؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أنَّ في الآية حذفاً ، تقديره : ماذا ينفقون ولمن يعطونه ، كما ذكرنا في رواية الكلبيِّ في سبب النزول ، فجاء الجواب عنهما ، فأجاب عن المنفق بقوله : " مِنْ خَيْرٍ " وعن المنفق عليه بقوله : فَلِلْوَالِدَيْنِ " وما بعده .

ثانيها : أن يكون " ماذا " سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ ، تقديره : مصرف ماذا ينفقون ؟

ثالثها : أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف ، ومن الثاني ذكر المنفق ، وكلاهما مرادٌ ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى :

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ } [ البقرة : 171 ] .

رابعها : قال الزمخشريُّ : قد تضمَّن قوله : { مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه ، وهو كلُّ خيرٍ ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف ؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها . قال : [ الكامل ]

إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً *** حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ{[3279]}

خامسها : قال القفَّال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ " ما نُنْفِقُ " : إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية ؛ لأنهم كانوا عالمين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة ، وإذا كان هذا معلوماً عندهم ، لم ينصرف الوهم إلى ذلك ، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف ، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة :70 ، 71 ] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال ، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : " مَا هِيَ " لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة ؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها ، فكذا ها هنا .

وسادسها : يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال ، فقيل لهم : هذا سؤالٌ فاسدٌ ، أي : أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل ، فقال الطبيب : كل في اليومين مرَّتين ، ومعناه ، كل ما شئت ، ولكن بهذا الشرط .

فصل

اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق{[3280]} ، فقدَّم الوالدين{[3281]} ، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من العدم إلى الوجود ، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود ؛ قال تعالى :

{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين ؛ فلذلك قدمهما ، ثم الأقربين ؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره ؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره ، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ .

فإن قيل : إنَّه تعالى ذكر " الْوَالِدَيْنِ " ثمَّ عطف عليه " الأَقْرَبِينَ " والعاطف يقتضي المغايرة ، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين ، فهو خلاف الإجماع ؛ لأنَّه لو وقف على " الأَقْربين " حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ .

فالجواب : أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ ؛ كقوله تعالى :

{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } [ الحجر : 87 ] فعطف القرآن على السبع المثاني ، وهي من القرآن ، وقال - عليه السّلام - " أفضل ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي . . . {[3282]} " فعطف " النَّبِيِّين " على قوله : " أَنَا " وهو من النبيين ، وذلك شائعٌ في لسان العرب ، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى ؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم ، فالطفل اليتيم : قد عدم الكسب ، والمكاسب ، وأشرف على الضياع ، ثم ذكر بعدهم المساكين ؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى ؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم ؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يحتاج ، ويفتقر ، فهذا أصحُّ تركيبٍ ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق ، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل ، أردفه بالاجمال ، فقال : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض ، ولا في السَّماء .

و " ما " هذه شرطيةٌ فقط ؛ لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى . وقرأ{[3283]} عليٌّ رضي الله عنه : " وما يفعلوا " بالياء على الغيبة ، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب ، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه ، أي : وما يفعل الناس .

فصل في المراد بالخير

قال أكثر العلماء : المراد ب " الخَيْر " هو المال ؛ لقوله تعالى :

{ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] ، وقال : { إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ } [ البقرة : 18 ] .

وقيل : المراد بالخير هذا الإنفاق ، وسائر وجوه البرِّ ، والطاعة .

فصل هل الآية منسوخة أم لا ؟

قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المواريث .

وقال أهل التفسير : إنها منسوخة بالزكاة .

قال بعضهم : وكلاهما ضعيفٌ ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها .

أحدها : قال أبو مسلم{[3284]} الأصفهاني : الإنفاق على الوالدين ، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك ، والمراد ب " الأَقْرَبِينَ " الولد ، وولد الولد ، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة ، والميراث يصل بعد الموت ، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ .

وثانيها : أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة ، فالأولى أن ينفقه في هذه الجهات ، فيكون المراد التطوع .

ثالثها : أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية ، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً .

ورابعهما : يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم ، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة ، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ .


[3272]:- تقدم برقم 665.
[3273]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/26.
[3274]:- ينظر: تفسير القرطبي 3/ 26.
[3275]:- البيت لجميل بثينة ينظر ملحق ديوانه ص 243، وخزانة الأدب 6/ 150، 153، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص 1383، ولسان العرب (ومق)، وللمجنون ينظر ديوانه ص 160، والأغاني 2/50، وشرح الأشموني 1/75.
[3276]:-ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/92.
[3277]:-أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة باب: في صلة الرحم (1691) والنسائي (5/62) والشافعي في "مسنده" (226)، وأحمد (2/251، 471) والبيهقي (7/466-467) والحميدي في "مسنده" (1176) والبغوي في "شرح السنة" (6/193) رقم (1685)، وابن حبان رقم (3334 و 3338) والحاكم (1/415) وأبو يعلى (11/ 493) رقم (6616) من طرق عن المقبري عن أبي هريرة وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[3278]:-ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (6/20) من رواية الكلبي عن ابن عباس.
[3279]:- البيت لابن منظور ينظر: اللسان (صنع)، الدر المصون 1/525.
[3280]:- قال الجوهري في الصحاح: "نفق البيع نفاقا، بالفتح، أي: راج، والنفاق بالكسر، فعل المنافق، والنفاق أيضا، جمع النفقة من الدراهم"- ثم قال: "وقد أنفقت الدراهم من النفقة اهـ". وقال المجد في القاموس: "النفقة: ما تنفقه من الدراهم ونحوها" ثم قال: "وأنفق: افتقر، وماله: أفقده، كاستنفقه.اهـ". وقال ابن منظور في لسان العرب: "أنفق المال: صرفه"، وفي التنزيل: "وإذا قيل لهم: أنفقوا مما رزقكم الله"، أي؛ أنفقوا في سبيل الله، وأطعموا، وتصدقوا، واستنفقه: أذهبه، والنفقة. ما أنقف، والجمع، نفاق"- ثم قال: "وقد أنفقت الدراهم، من النفقة. والنفقة: ما أنفقت، واستنفقت على العيال، وعلى نفسك.اهـ". واقتضت حكمة الله-تعالى- في بني آدم، أن يكون الرجل هو القائم بأمر المرأة، والقائد لزمامها؛ وذلك لما منحه الله-تعالى- من القوة، وكمال العقل، والقدرة على تحمل المصاعب، وتجشم الآلام الناشئة عن متاعب الحصول على العيش، وحفظ كيان الأسرة، حتى تظل قائمة في هذا الكون، مؤدية وظيفتها في عمارته، ويشهد لذلك قول الله-تعالى-: {الرجال قوامون على النساء}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". وهذا يدل على أن المرأة يجب أن تكون رهن إشارة زوجها، وطوع أمره، فلا تعصي له أمرا، ولا تمنعه حقا وجب له عليها، وقد أمر-جل شأنه- المرأة بالقرار في بيت زوجها، ومنعها الخروج منه؛ حرصا على المحافظة على حقوق الرجل؛ ومنعا لما قد يفسد نظام العائلة، ويجرها إلى الخسارة. وإن المرأة أمام هذه الأوامر الإلهية، التي يجب عليها أت تمتثلها، وتنقاد إليها. تكون من غير شك عاجزة عن تحصيل قوتها، وتدبير عيشها... وحينئذ فمن ذا الذي يقدم لها من القوت، ما يدفع عنها ألم الجوع، ويحفظ حياتها، ومن الثياب ما تتقي به قيظ الحر، وزمهرير البرد، ومن المسكن ما تأمن فيه على نفسها ومتاعها... فلو لم يوجب الله-جل شأنه- ذلك على الرجل لزوجته، مع ما تقدم من أمرها بملازمة بيته- لأدى إلى هلاكها. هذا في المرأة التي في عصمة الزوج، وأما المطلقة، فإن كانت رجعيّة، فهي في حكم الزوجة؛ لأن له مراجعتها متى شاء، فليست مالكة لأمرها، ولا متمكنة من التكسب، أو التزوج بغيره، ما دامت في العدة، وإن كانت بائنا، ففيها تختلف الأنظار. فمن نظر إلى أنها محتبسة عن الزواج في العدة؛ لعلاقة الزوجية السابقة، أوجب لها النفقة والسكنى، حاملا كانت أو حائلا. ومن نظر إلى أن هذا الاحتباس، إنما هو حق لله- تعالى-، لم يوجب شيئا منهما، حاملا كانت أو حائلا. ومن نظر إلى أن الحامل مشغولة الرحم بماء الزوج، والحائل محتبسة لصيانة مائه، أوجب للأولى السكنى والنفقة؛ لأن اشتغال الرحم بمائه؛ ليس أقل شأنا من اشتغاله باستمتاعه السابق، وأوجب للبائن السكنى؛ لأن بها تتم صيانة الماء المذكور وحفظه ولم يوجب لها النفقة؛ لأن احتباسها ليس لحقه، وإنما هو لحق الله-تعالى-. واصطلاحا: عند الشافعية: قال الشرقاني في حاشيته على "شرح التحرير": النفقة طعام مقدر لزوجة وخادمها على زوج، ولغيرهما من أصل وفرع، ورقيق، وحيوان ما يكفيه. وعند الحنفية: "في تنوير الأبصار مع شرح الدر المختار": هي الطعام، والكسوة، والسكنى، وعرفا: هي الطعام. عند المالكية: في "شرح الخرشي على مختصر خليل": النفقة مطلقا: ما به قوام معتاد حال الآدمي، دون سرف. عند الحنابلة: في "الإقناع والمنتهى": هي كفاية من يمونه، خبزا، وأدما، وكسوة، ومسكنا، وتوابعها.
[3281]:اتفق الأئمة الأربعة على أنه يجب على الولد-ابنا أو بنتا- أن ينفق على أبيه، وأمه المباشرين، ويدل على ذلك الكتاب، والسنة والإجماع، والمعقول. 1-أما الكتاب فمنه: أ- قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا}، ومن الإحسان: الإنفاق عليهما عند حاجتهما. ب-وقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} والإنفاق عليهما عند فقرهما من أحسن الإحسان. جـ- وقوله تعالى: {أن أشكر لي ولوالديك} والشكر للوالدين: المكافأة على بعض ما كان منهما إليه من التربية والبر؛ وذلك بالقيام بأمرهم، وإدرار النفقة عليهما حال عجزهما، وحاجتهما، فكان ذلك واجبا بأمره-سبحانه وتعالى-. د- وقوله تعالى: {ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما} فإنه يدل على النهي عن ترك الإنفاق عند الحاجة؛ لما فيه من إيذاء أعظم من إيذاء التأفيف. وأما السنة فمنها: أ-قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه) رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها. وحسّنه. وهو صريح في أن مال الولد حلال طيب لوالده؛ ومثله الوالدة؛ إذ لا فرق، بل إنها أولى؛ فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على أنها أحق بحسن الصّحبة من الأب، فالتقييد بالرجل لا مفهوم له. ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أولادكم هبة الله لكم يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور، وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها) رواه البيهقي في السنن، والحاكم في المستدرك، عن عائشة –رضي الله عنها-، وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين"، ودلالته على المقصود ظاهرة. وأما الإجماع، فقد حكاه ابن المنذر؛ فقال: "وأجمعوا على أن نفقة الوالدين اللذين لا كسب لهما واجبة في مال الولد". 4-وأما المعقول، فوجهان: أ-القياس على الولد بجامع البعضية، والعتق، ورد الشهادة، بل الوالدان أولى من الأولاد؛ لأن حرمتهما أعظم، والولد بالتعهد، أليق. ب-أنهما تسببا في إحياء الولد، فاستوجبا عليه الإحياء؛ جزاء وفاقا.
[3282]:-أخرجه الترمذي (5/534) كتاب الدعوات باب في دعاء يوم عرفة حديث (3585) من طريق حماد بن أبي حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه وحماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني وليس بالقوي عند أهل الحديث.
[3283]:-انظر الشواذ 20، المحرر الوجيز 1/289، والبحر المحيط 2/151، والدر المصون 1/525.
[3284]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/22.