اعلم أنَّه تعالى ، لما ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً .
قوله : " كَالَّذِي " الكاف في محلِّ نصبٍ ، فقيل : نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس . وقي : في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه{[4485]} ، وقيل : حالٌ من فاعل " تُبْطِلُوا " ، أي : لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس .
و " رِئَاءَ " فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره : إنفاقاً رئاء النَّاس ، كذا ذكره مكي{[4486]} .
والثاني : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل رئاء النَّاس ، واستكمل شروط النَّصب .
الثالث : أنه في محلِّ حالٍ ، أي : ينفق مرائياً .
والمصدر هنا مضافٌ للمفعول ، وهو " النَّاس " ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً ، والأصل : " رِئايا " فالهمزة الأولى عين الكلمة ، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة ، لأنها وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ . والمفاعلة في " راءَى " على بابها ، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعماله ؛ حتى يروه الثَّناء عليه ، والتَّعظيم له . وقرأ{[4487]} طلحة - ويروى عن عاصم - : " رِيَاء " بإبدال الهمزة الأولى ياء ، وهو قياس الهمزة تخفيفاً ؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ .
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ } مبتدأٌ وخبرٌ ، ودخلت الفاء ، قال أبو البقاء{[4488]} : " لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا " كما تقدَّم ، والهاء في " فَمَثَلُهُ " فيها قولان :
أظهرهما : أنها تعود على " الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ " ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق ، ثم شبَّه المنافق بالحجر .
والثاني : أنها تعود على المانِّ المؤذي ، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين : بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة ، ومن جمع إلى إفراد .
والصَّفوان : حجرٌ كبيرٌ أملس ، وفيه لغتان :
أشهرهما سكون الفاء ، والثانية فتحها ، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ ، وهي شاذَّةٌ ؛ لأنَّ " فَعَلان " إنَّما يكون في المصادر نحو : النَّزوان ، والغليان ، والصفات نحو : رجلٌ طغيان وتيس عدوان ، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً . واختلف في " صَفْوَان " فقيل : هو جمعٌ مفرده : صفا ، قال أبو البقاء{[4489]} : " وجَمْعُ " فَعَلَ " على " فَعْلاَن " قليلٌ " . وقيل : هو اسم جنس .
قال أبو البقاء{[4490]} : " وهو الأجود ، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله : عَلَيْه " .
وقيل : هو مفردٌ ، واحده " صُفيٌّ " قاله الكسائي ، وأنكره المبرَّد . قال : " لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو : عصيّ في عصا ، وقُفِيّ في قَفَا " . ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال : " صَفْوان مفردٌ ، ويجمع على صِفوان بالكسر " .
قال النَّحاس{[4491]} : " ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً ، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح ، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك " وَرَل " وَوِرْلان ، وأخ وإخوان وكرى وكروان " .
وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّفوان ، والصَّفا ، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ .
وقال بعضهم{[4492]} : الصَّفوان : جمع صفوانة ، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان ، وسعدانة .
وقال بعضهم{[4493]} : الصَّفوان : هو الحجر الأملس ، وهو واحدٌ وجمعٌ .
و { عَلَيْهِ تُرَابٌ } : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ ، وخبرٍ ، وقعت صفةً لصفوان ، ويجوز أن يكون " عَلَيْه " وحده صفةً له ، و " تُرَابٌ " فاعلٌ به ، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله { فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ ماِئَةُ حَبَّةٍ } . [ البقرة :261 ] . والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ ، لا يثنَّى ، ولا يجمع .
وقال المبرِّد : وهو جمع واحدته " ترابة " . وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً : ترابٌ وتَوْرَبٌ ، وتَوْرَابٌ ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء ، ومنه : أرغم الله أنفه أي : ألصقه بالرَّغام وبَرى ، وقرى بالفتح مقصوراً [ كالعصا وكملح وعثير ]{[4494]} وزاد غيره تربة وصعيد .
ويقال : ترب الرَّجل : افتقر . ومنه :{ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد :16 ] كأنَّ جلده لصق به لفقره ، وأترب ، أي : استغنى ، كأنَّ الهمزة للسَّلب ، أو صار ماله كالتُّراب .
قوله : " فَأَصَابَهُ " عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله : " عَلَيْهِ " ، أي : استقرَّ عليه ترابٌ ، فأصابه . والضَّمير يعود على الصَّفوان ، وقيل : على التُّراب . وأمَّا الضَّمير في " فَتَرَكَهُ " فعلى الصفوان فقط . وألف " أصَابَه " من واوٍ ؛ لأنه من صاب يصوب .
والوابل : المطر الشَّديد ، وبلت السَّماء تبل ، والأرض موبولة ، ويقال أيضاً : أوبل ، فهو موبل ، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل ، وأفعل ، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح ، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ . قال النَّضر بن شميلٍ :
أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً ، ثم طشاً ، ثم طَلاًّ ، ورَذاذاً ، ثم نضحاً ، وهو قطرٌ بين قطرين ، ثم هطلاً وتهتاناً ، ثم وابلاً وجوداً . والوبيل : الوخيم ، والوبيلة : حزمة الحطب ، ومنه قيل للغليظة : وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة .
قوله : { فَتَرَكَهُ صَلْداً } كقوله تعالى :{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة :17 ] . والصَّلد : الأجرد الأملس ، ومنه : " صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ " : أي برق ، والصَّلد أيضاً صفة ، يقال : صلد بكسر اللام يصلد بفتحها ، فهو صلد . قال النَّقَّاش : " الصَّلْدُ بلغة هُذَيل " . وقال أبان بن تغلب : " الصَّلْد : اللَّيِّن من الحجارة " وقال علي بن عيسى : " هو من الحجارة ما لا خير فيه ، وكذلك من الأرضين وغيرها ، ومنه : " قِدْرٌ صَلُود " أي : بطيئة الغَلَيان " ، وصلد الزّند : إذا لم يورد ناراً .
قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ } في هذه الجملة قولان :
أحدهما : أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال من " الَّذِي " في قوله : { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ } ، وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى ، لأنَّ المراد بالذي الجنس ، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله : " مَالَهُ " و " لاَ يُؤْمِنُ " ، " فمثلُه " وعلى معناه أخرى . وصار هذا نظير قوله :{ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً } [ البقرة :17 ] ثم قال :{ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ } [ البقرة :17 ] ، وقد تقدَّم .
وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، وأنَّ العكس قبيحٌ ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك . وقيل : الضَّمير في " يَقْدِرُونَ " عائدٌ على المخاطبين بقوله : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم } ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وفيه بعدٌ .
وقيل : يعود على ما يفهم من السِّياق ، أي : لا يقدر المانُّون ، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم . وسمَّى الصّدقة كسباً .
قال أبو البقاء{[4495]} : " وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ " لاَ يَقْدِرُونَ " حالاً من " الَّذِي " ؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله : " فَمَثَلُه " وما بعده " . ولا يلزم ذلك ؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ ، وهو كالاعتراض " .
قال القاضي : إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ ، والأذى ، وأزال كلّ شبهة للمرجئة ، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة ، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت ، فلا يصحُّ أن تبطل ، فالمراد إبطال أجرها ، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى .
واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أوَّلاً : بمن ينفق ماله رئاء النَّاس ، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر ، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ ، والأذى . ثم مثَّله ثانياً : ب " الصَّفْوَانِ " الذي وقع عليه تُرابٌ ، وغبارٌ ، ثم أصابه المطر القويُّ ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً ، فالكافر كالصَّفوان ، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق ، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق .
قال : فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان ، فكذلك المنّ والأذى ، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط .
قال الجبَّائيُّ{[4496]} : وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه أيضاً ؛ لأن من أطاع ، فلو استحقّ ثواب طاعته ، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين{[4497]} ؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال ، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة ، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال ، ولأنَّه حين يعاقبه ، فقد منعه الإثابة ، ومنع الإثابة ظلمٌ ، وهذا العقاب عدل ، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه ، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة ، فيكون ظالماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه ؛ وذلك محال ، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير .
وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله " لاَ تُبْطِلُوا " النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته ، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً ؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى ، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان .
قال ابن الخطيب{[4498]} : ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه :
أولها : أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة ، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي ، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ ، أولى ؛ لأن الدفع أسهل من الرفع{[4499]} .
وثانيها : أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي ، وهو محال ؛ لأنَّ الماضي قد انقضى ، ولم يبق في الحال ، وإعدام المعدوم محالٌ ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال ؛ لأنَّ الموجود في الحال ، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال ، وإعدام ما لم يوجد بعد محال .
وثالثها : أنَّ شرط طريان الطَّارئ ، زوال الباقي ، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ ، لزم الدَّور ، وهو محالٌ .
ورابعها : أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق ، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم من هذا الطَّارئ شيئاً ، أو لا يعدم منه شيئاً ، والأول هو الموازنة ، وهو قول أبي هاشم{[4500]} ، وهو باطلٌ ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان ، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان ، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ .
والثاني ، وهو قول أبي علي الجبَّائي{[4501]} : هو أيضاً باطل ؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق ، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر البتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً ، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب ، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة :7 ] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة ، ولم يظهر له منها أثر ، لا في جلب منفعةٍ ، ولا في دفع مضرةٍ .
خامسها : أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة ، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح ، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات ، وهو باطلٌ بالاتّفاق ، أو لا تزيل شيئاً منها ، وهو المطلوب .
سادسها : أنَّ عقاب الكبيرة ، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم ، فإمَّا أن يقال : بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ ، أو كلها ، والأوَّل باطل ؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للممكن من غير مرجّح ، وهو محالٌ . الثاني باطل ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب ، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً ، حال كونه محتاجاً إليهما معاً ، وهو محالٌ .
سابعها : أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين ؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده : احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق ، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ ، وقصد قتل السّيِّد ، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ ، وقتله ، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح ، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده ، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ ، حيث عرض ماله للسّرقة ، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت ، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة ، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول .
ثامنها : أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم ، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق ، أو لا يكون . والأوَّل محالٌ ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي ، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي ، وهو محالٌ ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [ أثر ] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق ، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول .
وتاسعها : أَنَّ المعتزلة يقولون : إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص ، وذلك محالٌ ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة ، والأعظم لا يُحيط بالأَقلّ .
قال الجبَّائي{[4502]} : لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه ، وإحسانه ، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة ، وقد ربَّاهُ وملكه ، وبلغه إلى النِّهاية [ العظيمة أعظم ]{[4503]} من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه ، فإِذا كانت نعم الله على عباده ، بحيث لا تُضبط عظماً ، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات .
قال ابن الخطيب{[4504]} : وهذا العُذْرُ ضعيفٌ ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده ، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً ، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً ، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة ، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم ، فظهر أَنَّ قولهم على [ خلاف ] قياس العقول .
عاشرها : أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ ، والله أعلمُ .
قوله { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ وَالأَذَى } يحتمل أمرين :
أحدهما : لا تأْتُوا به باطِلاً ، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة .
[ قال القرطبيُّ{[4505]} : إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول ، وحرمان الثوب ] بالإبطال ، والمراد الصَّدقةُ الَّتي يمُنُّ بها ، ويُؤذي لا غيرها ، فالمَنُّ والأَذى في صدقة ؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها .
قال جمهور العلماء في هذه الآية : إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ ، أو يُؤذي بها ، فإِنَّها لا تقبل .
وقيل : إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة ، فهو لا يكتبها .
قال القرطبيُّ{[4506]} : وهذا حسنٌ .
والثاني : أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب ، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى ، فيزيلوا ثوابها ، وضرب لذلك مثلين :
أحدهما : يطابقُ الأَوَّل وهو قوله : { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ } ، إِذْ من المعلوم [ أَنَّ المراد من كونه عمل ] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً ، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً ، ثم يزول ؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود .
والمثال الثاني : وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب ، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة ؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان ، فكذا هاهنا : يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر .
ويمكن أَنْ يجاب عنه : بأَنَّا لا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر ؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة ، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب ؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان ، لم يكن ملتصقاً به ، ولا غائصاً فيه اَلبَتَّة ، بل يكون ذلك الاتِّصال كالانفِصال ، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ ، وفي الحقيقة منفصلٌ ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى ، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ ، وفي الحقيقة ليس كذلك ، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعيف .
قال ابن عبَّاس قوله : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالمَنِّ } على الله بسبب صدقتِكُم ، وبالأذى لذلك السَّائل{[4507]} .
وقال الباقون : بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير{[4508]} { كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ } ؛ لأنَّ المُنافق ، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى ، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً ، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير ، ولا آذاه ، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء .
فصل في " هل تُعطى الصدقة للأقارب "
قال القرطبي{[4509]} : كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه ؛ لئلا يعتاض منهم الحمد ، والثناء ، ويظهر منته عليهم ، ويكافئوه عليها ، فلا تخلص لوجه الله -تعالى- واستحب أن يعطيها الأجانب ، واستحب أيضا أن يولي غيره تفريقها ، إذا لم يكن الإمام عدلا ؛ لئلا تحبط بالمن والأذى ، والشكر ، والثناء ، والمكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التطوع السر ؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد .
الأول : ما تقدم أن العمل الظاهر كالتراب والمانّ والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة كالوابل ، هذا على قولنا ، وأما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل{[4510]} .
الوجه الثاني : قال القفال{[4511]} رحمه الله : إن أعمال العباد يجازون بها يوم القيامة ، فمن عمل بالإخلاص ، فكأنه طرح بذرا في الأرض ، فهو ينمو ، ويتضاعف له ، حتى يحصده في وقته ، ويجده وقت حاجته ، والصفوان محل بذر المنافق ، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء ، ولا يكون فيه قبول للبذر ، والمعنى أن عمل المان ، والمؤذي ، والمنافق كالبذر المطروح في تراب قليل على صفوان ، فإذا أصابه مطر بقي مستودع بذره خاليا ، لا شيء فيه ؛ ألا ترى أنه تعالى : ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة ؟ والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل ، فمن أخلص لله ، كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض ، فهو يجني ثمر غراسه في أوقات حاجته " وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " متضاعفة زائدة .
ثم قال تعالى : { لا يقدرون على شيء مما كسبوا } .
وفيه قولان مبنيان على ما تقدم في الإعراب ، فعلى الأول لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر المُلقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان ، لزوال التراب ، وما فيه من البذر بالمطر ، فلم يقدر أحد على الانتفاع به ، وهذا يقوي تشبيه القفال ، وإن عاد الضمير إلى الذي ينفق ، فإنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام ، ثم قال " والله لا يهدي القوم الكافرين " .
قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا يا رسول الله : وما الشرك الأصغر ؟ قال : " الرياء ، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا ، [ فانظروا ] هل تجدون عندهم جزاء " {[4512]} .
وروى أبو هريرة –رضي الله عنه- : أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حدثه " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية ، فأول من يدعون رجلا جمع القرآن ، ورجلا قتل في سبيل الله ورجلا كثير المال ، فيقول الله للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب ، قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله-تبارك وتعالى- بل أردت أن يقال : فلان قارئ ، وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى له : ألم أوسع عليك حتى [ لم ] أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم ، أتصدق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله-تعالى- بل أردت أن يقال : فلان جواد ، وقد قيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له : في ماذا قتلت ؟ فيقول : يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله : كذبت وتقول الملائكة : كذبت . ويقول الله تعالى بل أردت أي يقال فلان جريء ، وقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على ركبتي ، ثم قال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة{[4513]} .