هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو " أَوْ " وهي هنا للتفضيل ، وقيل : للتخيير بين التعجُّب من شأنهما ، وقرأ{[4335]} سفيان بن حسين " أَوَ " بفتحها ، على أنها واو العطف ، والهمزة قبلها للاستفهام .
وفي قوله : " كَالَّذِي " أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء{[4336]} وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين ، قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : { لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون :84-85 ] ثم قال : { مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون :86-87 ] . فهذا عطف على المعنى ؛ لأنَّ معناه : لمن السَّموات ؟ ! فقيل لله ؛ وقال الشَّاعر : [ الوافر ]
مُعَاوِيَ ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ *** فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا{[4337]}
فحمل على المعنى ، وترك اللفظ ، وتقدير الآية :
هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم ، أو كالذي مرَّ على قريةٍ ، هكذا قال مكيٌّ{[4338]} ، أمَّا العطف على المعنى ، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم ؛ كقوله : [ الطويل ]
تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ *** بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ{[4339]}
وقول الأخر في هذين البيتين : [ الوافر ]
أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ *** وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ{[4340]}
وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ *** بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ
فإنَّ معنى الأول : ليس بمكثِّر ، ولذلك عطف عليه " وَلاَ بِحَقَلَّد " ، ومعنى الثاني : أجِدَّك لست بِرَاءٍ ، ولذلك عطف عليه " وَلاَ مُتَدَارِكٍ " ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه .
الثاني : أنه منصوبٌ على إضمار فعلٍ ، وإليه نحا الزمخشريُّ ، وأبو البقاء{[4341]} ، قال الزمخشريُّ : " أو كالَّذِي : معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي " ، فحذف لدلالة " أَلَمْ تَرَ " عليه ؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ ، وهو حسنٌ ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ ، بخلاف العطف على المعنى .
الثالث : أنَّ الكاف زائدةٌ ؛ كهي في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى :11 ] ، وقول الآخر : [ السريع أو الرجز ]
فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ{[4342]} *** . . .
والتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ . وفيه ضعفٌ ؛ لأنَّ الأصل عدم الزيادة .
والرابع : أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل ، لا حرفٌ ؛ وهو مذهب الأخفش{[4343]} . قال شهاب الدِّين : وهو الصحيح من جهة الدليل ، وإن كان جمهور البصريين على خلافه ، فالتقدير : ألم تر إلى الذي حاجَّ ، أو إلى مثل الذي مرَّ ، وهو معنى حسنٌ . وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم ، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب .
منها : معادلتها في الفاعلية ب " مِثْل " في قوله : [ الطويل ]
وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ *** ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ{[4344]}
ومنها دخول حروف الجر ، والإسناد إليها . وتقدَّم [ الكلام ] في اشتقاق القرية .
قوله : " وهي خَاوِيَةٌ " هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون حالاً من فاعل " مَرَّ " والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها ، والإتيان بها واجبٌ ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه .
الثاني : أنها حالٌ من " قرية " : إمَّا على جعل " عَلَى عُرُوشِهَا " صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً ؛ وهو ضعيف عند سيبويه{[4345]} .
الثالث : أنها حالٌ من " عُرُوشِهَا " مقدَّمةٌ عليه ، تقديره : مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ .
الرابع : أن تكون حالاً من " هَا " المضاف إليها " عُرُوش " قال أبو البقاء{[4346]} : " والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه " انتهى . والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه ، كونه بعض المضاف ؛ لأنَّ " العُرُوشَ " بعض القرية ، فهو قريب من قوله تعالى : { مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر :47 ] .
الخامس : أن تكون الجملة صفةً لقرية ، وهذا ليس بمرتضى عندهم ؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف ، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى : { وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر :4 ] [ فجعل : " وَلَهَا كِتَابٌ " ] صفةً ، قال : " وتَوَسَّطَتِ الواوُ ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف " وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه ، وفي ما تقدَّم ، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً ، بالواقعة حالاً ، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى ، ورتَّب أبو البقاء{[4347]} جعل هذه الجملة صفةً لقرية ، على جواز جعل " عَلَى عُرُوشِهَا " بدلاً من " قَرْيَةٍ " على إعادة حرف الجرِّ ، ورتَّب جعل " وَهِي خَاوِيَةٌ " حالاً من العروش ، أو من القرية ، أو من " ها " المضاف إليها ، على جعل " عَلَى عُرُوشِهَا " صفةٌ للقرية ، وهذا نصُّه ، قد ذكرته ؛ ليتضح لك ، فإنه قال : وقد قيل : هو بدلٌ من القرية تقديره : مرَّ على قريةٍ على عروشها ، أي : مَرَّ على عروش القرية ، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل ، ويجوز أن يكون " عَلَى عُرُوشِهَا " على هذا القول صفةً للقرية ، لا بدلاً ، تقديره : على قرية ساقطةٍ على عروشها ، فعلى هذا لا يجوز أن تكون " وَهِيَ خَاوِيَةٌ " حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية ؛ لأنها قد وصفت ، وأن تكون حالاً من " هَا " المضاف إليه ، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى .
قوله : " عَلَى عُرُوشِهَا " فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون بدلاً من " قرية " بإعادة العامل .
الثاني : أن يكون صفةً ل " قَرْيَةٍ " كما تقدَّم فعلى الأول : يتعلَّق ب " مَرَّ " ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه ، وعلى الثاني : يتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : ساقطةٍ على عروشها .
الثالث : أن يتعلَّق بنفس خاوية ، إذا فسَّرنا " خَاوِيَةٌ " بمعنى متهدِّمة ساقطة .
الرابع : أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى ، وذلك المحذوف قالوا : هو لفظ " ثَابِتَةٌ " ؛ لأنهم فسَّروا " خَاوِيَةٌ " بمعنى : خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها ، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم ، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ ، ولا يتبادر إليه الذهن ، وقيل : " عَلَى " بمعنى " مَعَ " ، أي : مع عروشها ، قالوا : وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية .
وقيل : " عَلَى " بمعنى " عَنْ " أي : خاويةٌ عن عروشها ، جعل " عَلَى " بمعنى " عَنْ " كقوله : { إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ } [ المطففين :2 ] أي : عنهم{[4348]} .
والخاوي : الخالي . يقال : خوت الدار تخوي خواءً بالمد ، وخويّاً ، وخويت أيضاً بكسر العين تَخْوَى خَوًى بالقصر ، وخَوْياً ، والخَوَى : الجوع ؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد . والخويُّ على فعيل : البطن السَّهل من الأرض ، وخوَّى البعير : جَافَى جنبه عن الأرض ؛ قال القائل في ذلك : [ الرجز ]
خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ *** كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ{[4349]}
ومنه الحديث : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ خَوَّى{[4350]} " أي : خلا عن عضده ، وجنبيه ، وبطنه ، وفخذيه ، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه ، ويقال للبيت إذا انهدم خوى ؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت .
والعُرُوشُ : جمع عرش ، وهو سقف البيت ، وكذلك كلُّ ما هُيِّئَ ليستظلَّ به ، وقيل : هو البنيان نفسه ؛ قال القائل في ذلك : [ الكامل ]
إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ *** بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ{[4351]}
اختلفوا في الذي{[4352]} مرَّ بالقرية فقال مجاهد ، وأكثر المفسرين من المعتزلة : كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث{[4353]} .
وقال قتادة ، وعكرمة ، والضحاك ، والسديُّ : هو عُزَيرُ بن شرخيا{[4354]} .
وقال وهب بن منبه ، ورواه عطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنهما هو إرمياء بن خلقيا{[4355]} ، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم : إنَّ إرمياء هو الخضر عليه السَّلام ، وهو من سبط هارون بن عمران عليه الصَّلاة والسَّلام وهو قول محمد بن إسحاق{[4356]} .
وقال وهب بن منبِّه : إنَّ إرمياء ، هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس ، وأحرق التوراة{[4357]} .
واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه :
الأول : استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ .
فإن قيل : يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ .
قلنا : لو كان كذلك ، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك ، وضعَّفوا هذه الحجة ؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى ، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً ، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً ، فيقول : متى يقلب الله هذا ذهباً ، أو ياقوتاً ؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله ، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات ، فكذا هاهنا .
الحجة الثانية : قوله تعالى في حقه : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين ، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة ، ما كان حاصلاً له قبل ذلك ، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسلم أنه لم يكن حاصلاً له .
الحجة الثالثة : قوله : { أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد ، وطمأنينة ، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا لا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك .
الحجة الرابعة : انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ ، وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم .
واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه :
منها قوله تعالى : { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء ، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة ، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة .
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله : " كَمْ لَبِثْتَ " وبقوله : { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ } ، وبقوله : { فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } ، وبقوله : { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } ، وبقوله { وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر ، قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء :91 ] ، فجعله آية للناس ، دليلٌ على مزيد التشريف .
ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير ، ومنهم العزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى " بابل " فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ ، وهو على حمارٍ ، فربط حماره ، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك ، وقال { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير ، ثمَّ أحياه الله بعد المائة ، ونودي من السَّماء يا عزير " كَمْ لَبِثْتَ " بعد الموت ، فقال : " يَوْماً " وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار ، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس ، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال : " أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ " فقال الله تبارك وتعالى : { بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ } من التِّين ، والعنب " وَشَرَابِكَ " من العصير لم يتغير طعمه ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال : " وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ " فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله ، وسمع صوتاً : أيَّتها العظام البالية ، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً ، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع ، والذِّراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب والعروق ، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثمَّ نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخرَّ عزير ساجداً ، وقال : { أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم إنَّه دخل بيت المقدس . فقال القوم : حدَّثنا آباؤنا : أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل ، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة ، وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة ، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة ، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه ، فلم يخرم منها حرفاً ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله ، وهذه الرواية مشهورة{[4358]} .
ويروى أنه أرميا عليه الصَّلاة والسَّلام فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً ؛ واختلفوا في تلك القرية :
فقال وهبٌ ، وقتادة ، وعكرمة ، والربيع هي : إيلياء ، وهي بيت المقدس{[4359]} ، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم ، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم : موتوا ، مرَّ عليهم رجلٌ ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر ؛ فقال : { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ }{[4360]} .
قال ابن عطية : وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية ، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً ، لا أنيس فيها ، والإشارة ب " هذه " إنَّما هي إلى القرية ، وإحياؤها إنما هو بالعمارة ، ووجود البناء والسكان .
قال القرطبي{[4361]} : روي في قصص هذه الآية : أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من الملوك ، فعمرها وجدَّ في ذلك ، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل . وقيل : إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً ، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له " كُوشَك " فعمَّرها في ثلاثين سنةً .
وقال الضحاك : هي الأرض المقدَّسة{[4362]} .
وقال الكلبيُّ : هي دير{[4363]} سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد ، وقيل : دير هرقل .
وقوله : { أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ } في " أَنَّى " وجهان :
أحدهما : أن تكون بمعنى " متى " .
قال أبو البقاء{[4364]} رحمه الله : " فَعَلى هذا تكون ظرفاً " .
قال أبو البقاء{[4365]} رحمه الله : فيكون مَوْضِعُها حالاً من " هذه " ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام ، والظاهرُ أنها بمعنى كيف ، وعلى كلا القولين : فالعاملُ فيها " يُحْيِي " ، و " بعد " أيضاً معمول له . والإحياء ، والإماتة : مجازٌ ؛ إن أريد بهما العمران والخراب ، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً ، أي : أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها ، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية ، وجثثهم المتمزقة ، دلَّ على ذلك السياق .
قوله : " مِئَةَ عَامٍ " قال أبو البقاء{[4366]} رحمه الله : " مائَة عامٍ " : ظرفٌ لأماته على المعنى ؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف ، تقديره : " فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام " ويدلُّ على ذلك قوله : " كَمْ لَبِثْتَ " ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين ، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام .
و " مِئة " عقدٌ من العدد معروفٌ ، ولامها محذوفة ، وهي ياء ، يدلُّ على ذلك قولهم : " أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ " ، أي : صيَّرتها مئة ، فوزنها فعة ويجمع على " مِئَات " ، وشذَّ فيها مئون ؛ قال القائل : [ الطويل ]
ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا *** رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ{[4367]}
كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها ؛ كما قالوا : سنون : في سنة .
والعام : مدَّة من الزمان معلومةٌ ، وعينه واوٌ ؛ لقولهم في التصغير : عويم ، وفي التكسير : " أَعْوَام " .
وقال النقَّاش : " هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان ؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك ، والعوم : هو السبح ؛ وقال تعالى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس :40 ] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال " .
فإن قيل{[4368]} : ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ ، أو بعض يومٍ حاصل .
فالجواب : أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة ، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره ، ما هو عجبٌ .
قوله : " ثُمَ بَعَثَهُ " ، أي : أحياه ، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث ؛ لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله : من بعثت الناقة ، إذا أقمتها من مكانها .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تبارك وتعالى " ثُمَّ بَعَثَهُ " ولم يقل : ثمَّ أحياه ؟
فالجواب{[4369]} : أن قوله : " بَعَثَهُ " يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً : حيّاً ، عاقلاً ، فاهماً ، مستعداً للنظر ، والاستدلال ، ولو قال : ثمَّ أحياه ، لم تحصل هذه الفوائد .
قوله : " كَمْ " منصوبٌ على الظرف ، ومميِّزها محذوفٌ تقديره : كم يوماً ، أو وقتاً . والناصب له " لَبِثْتَ " ، والجملة في محلِّ نصب بالقول ، والظاهر أنَّ " أَوْ " في قوله : { يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } بمعنى " بَلْ " للإضراب ، وهو قول ثابت ، وقيل : هي للشك .
قال ابن الخطيب : من الخوارق ما يمكن في حالة ، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف ، والعزير : إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه ، ولكنه لا مؤاخذة به ، وإلاَّ فالكذب : الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، وذلك لا يختلف بالعلم ، والجهل ؛ فعلى هذا يجوز أن يقال : إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان ، والقول الأوَّل أصحُّ{[4370]} .
قوله : " قَالَ بَلْ لَبِثْتَ " عطفت " بل " هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ ، تقديره : ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم ، بل لبثت مئة عام . وقرأ نافع{[4371]} ، وعاصم ، وابن كثير : بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم ، والباقون : بالإدغام .
أجمعوا على{[4372]} أن ذلك القائل هو الله تعالى ؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره ، وظهور البلى في عظامه ، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى .
وقيل : سمع هاتفاً من السماء ، يقول له ذلك .
وقيل : خاطبه جبريل ، وقيل : نبيٌّ .
وقيل : مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته ، وعمِّر إلى حين إحيائه .
قال القرطبي{[4373]} : والأظهر أنَّ القائل هو الله عز وجل ، لقوله تعالى : { وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .
فإن قيل : إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً ، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً ؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة ؟
فالجواب{[4374]} : أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق ، بقوله : { لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } على حسب ظنِّه ؛ كما روي في القصة : أنه أماته ضحًى ، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس ؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل ، كما حكي عن أصحاب الكهف : { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف :19 ] على ما توهَّموه ، ووقع في ظنِّهم .
وقول إخوة يوسف { يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } [ يوسف :81 ] وإنما قالوا ذلك ؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله .
قوله : " لَمْ يَتَسَنَّهْ " هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال ، وزعم بعضهم : أنَّ المضارع المنفيَّ ب " لَمْ " إذا وقع حالاً ، فالمختار دخول واو الحال ؛ وأنشد : [ الطويل ]
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ *** وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ{[4375]}
وزعم آخرون : أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما ، ولمَّا . وهذان الزَّعمان غير صحيحين ؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن ، قال تعالى :
{ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } [ آل عمران :174 ] ، وقال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام :93 ] فجاء النفي ب " لم " مع الواو ودونها .
فإن قيل : قد تقدَّم شيئان ، وهما " طَعَامِكَ وشَرَابِكَ " ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً ، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدهما : أنها لمَّا كانا متلازمين ، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر ، صارا بمنزلة شيء واحد ؛ حتى كأنه [ قال : ] فانظر إلى غذائك .
الثاني : أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط ؛ لأنه أقرب مذكور ، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها . والتقدير : وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه ، وإلى شرابك لم يتسنَّه ، وقرأ{[4376]} ابن مسعود رضي الله عنه " فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه " ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام ؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه ، فعدم تغيُّر الطعام أولى ، قال معناه أبو البقاء{[4377]} .
الثالث : أنه أفرد في موضع التثنية ، قاله أيضاً أبو البقاء{[4378]} ؛ وأنشد : [ الكامل ]
فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ *** أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ{[4379]}
وقرأ حمزة{[4380]} ، والكسائي : " لَمْ يَتَسَنَّهْ " بالهاءِ وقفاً ، وبحذفها وصلاً ، والباقون : بإثباتها في الحالين . فأمَّا قراءتهما ، فالهاءُ فيها للسكتِ . وأمَّا قراءةُ الجماعةِ : فالهاءُ تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكون أيضاً للسكت ، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف ، وهو في القرآن كثيرٌ ، [ سيمرُّ بك منه مواضع ] فعلى هذا يكون أصل الكلمة : إِمَّا مشتقاً من لفظ " السَّنَةِ " على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع ؛ قالوا : " سُنَيَّة وَسَنَوات " ؛ وعلى هذه اللغة قالوا : " سَانَيْتُ " أُبْدِلَتِ الواو ياءً ؛ لوقوعها رابعةً ، وقالوا : أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ ؛ قال الشاعر : [ الكامل ]
. . . *** وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ{[4381]}
ويقولون في جمعها : سنوات فقلبوا الواو تاءً ، والأصلُ : أَسْنُووا ، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة ؛ كما تقدَّم ، فأصله : يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً .
وإما من لفظ " مَسْنُون " وهو المتغيرُ ، ومنه { حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر :28 ] ، والأصلُ : يتَسَنَّنُ ، بثلاثٍ نونات ، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال ، فأَبدلنا الأخيرة ياءً ؛ كما قالوا في تظنَّن : تظنَّى ، وفي قصَّصت أظفاري : قصَّيتُ ، ثم أبدلنا الياء ألفاً ؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها ، ثم حُذِفت جزماً ، قاله أبو عمرو ، وخطَّأَه الزجاج{[4382]} ، قال : " لأنَّ المسنونَ : المصبوبُ على سنن الطريق " .
وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال : " هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ " أي : تغيَّر ، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى ، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله ؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً ، إذ لو كان مشتقاً من " أَسِنَ الماءُ " لكان ينبغي حين منه تفعَّل ، أَنْ يقال تأسَّنَ . ويمكن أَنْ يُجاب عنه : أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها وهي الهمزة إلى موضع لامها ، فبقي : يَتَسَنَّأ ، بالهمزة آخراً ، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً ، كقولهم في قرأ : " قَرَا " ، وفي استهزأ : " اسْتَهْزا " ثم حُذفت جزماً .
والوجه الثاني : أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها ، ويكونُ مشتقاً من لفظ " سَنَة " أيضاً ، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً ، وهم الحجازيون ، والأصلُ : سُنَيْهة ، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير ، قالوا : سُنَيْهةٌ ، وسُنَيْهَاتٌ ، وسَانَهْتُ ؛ قال شاعرهم :
وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ *** وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ{[4383]}
ومعنى " لم يَتَسَنَّهْ " على قولنا : إِنَّهُ من لفظ السَّنَة ، أي : لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه ، بل بقي على حالِهِ ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء{[4384]} في أثناء كلامه : " مِنْ قولك : أَسْنَى يُسْنِي ، إذا مَضَتْ عليه سِنُون " ؛ لأنه يصير المعنى : لم تمضِ عليه سِنُون ، وهذا يخالفه الحِسُّ ، والواقع .
وقرأ أُبَيّ{[4385]} ؛ " لَمْ يَسَّنَّهْ " بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ ، والأَصْلُ : " لم يَتَسَنَّهْ " .
كما قُرِئ : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ } [ الصافات :8 ] ، والأصل : يَتَسَمَّعُونَ ؛ فأُدغم ، وقرأ{[4386]} طلحة بن مصرفٍ : " لِمِئَةِ سَنَةٍ " .
فإن قيل{[4387]} : لما قال تعالى : { بَلْ لبثت مائة عام } كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله : { فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً .
فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة ، فلما قال تعالى : { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة ، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى ؛ فإنَّ الطعامَ ، والشراب يسرع التغير إليهما ، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً ، فرأى ما لا يبقى باقياً ، وهو الطعامُ ، والشَّرابُ ، وما يبقى غير باقٍ ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكّنت الحجةُ في قلبه ، وعقله .
قوله : { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته ، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال ، فإنه إذْ شاهد ذلك ، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام ، ثم يُحْييه .
فإن قيل : إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة ، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال ، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت .
فالجواب : أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله : " بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ " . قال الضحاك : إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى ، والرُّؤوس .
قوله : " وَلِنَجْعَلَكَ " فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، تقديره : ولنجعلك فعلنا ذلك .
الثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره : فعلنا ذلك ، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك .
الثالث : أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها ، أي : وانظر إلى حِمارِك ، لنجعلَكَ .
قال الفرَّاء : وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً ، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال : " وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً " [ كان المعنى : ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا ، من الإماتة ، والإحياء . وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، كما زعم بعضهم ؛ فقال : إن قوله : " وَلِنَجْعَلَكَ " مؤخر بعد قوله تعالى : { وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ } ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ ، فُصِل بينها بهذا الجارّ ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني ، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً . وهذه اللامُ لامُ كي ، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار " أَنْ " وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ . و " آية " مفولٌ ثانٍ ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى : التصيير . و " لِلنَّاسِ " صفةٌ لآيةٍ ، و " أَلْ " في الناس ، قيل : للعهدِ ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ ، وقيل : للجنس ، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم ] .
قوله : { وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ } .
أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه ، وقال آخرون : أراد بها عظام الرجلِ نفسه ، قالوا : إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه ، وكانت بقيةُ بدنه ، عظاماً نخرةً ، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل ، ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك ؛ وهو قولُ قتادة ، والرَّبيع ، وابن زيدٍ ، وضُعِّف ذلك بوجوه :
منها : أَنَّ قوله { لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه ، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً ، وعظامُه رميمة نخرةً ، فلا يليقُ به ذلك .
ومنها أنه خاطبُه ، وأَجاب ، والمجيب ، هو الذي أَماتهُ اللهُ ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله ، فالمجيب أيضاً الذي بعثه اللهُ ، يجب أن يكون جملة الشَّخص .
ومنها أَنَّ قوله تعالى { فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها ، وبعثها .
قوله : " كَيْفَ " منصوبٌ نصبَ الأَحوال ، والعاملُ فيها " نُنْشِزُها " وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في " نُنْشِزُها " ، ولا يعملُ في هذا الحالِ " انظُرْ " إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام ، فلا يعملُ فيه ما قبله ، هذا هو القولُ في هذه المسألة ، ونظائرها .
وقال أبو البقاء{[4388]} : " كيف نُنْشِزُها " في موضِعِ الحالِ من " العِظَامِ " ، والعاملُ في " كيف " نُنْشِزُها ، ولا يجوز أن يعمل فيها " انظُرْ " لأنَّ هذه جملة استفهام ، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً ، وإنما الذي يقعُ حالاً " كَيْفَ " ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ ، نحو : " كيف ضَرَبْتَ زيداً ؛ أقائماً أم قاعداً " ؟
والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة ، وأمثالها : أَنْ تكونَ جملةُ " كَيْفَ نُنْشِزُها " بدلاً مِنَ " العِظَامِ " فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ ، وذلك أنَّ " نظر " البصرية تتعدَّى ب " إِلَى " ، ويجوزُ فيها التعليقُ ، كقوله تعالى : { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [ الإسراء :21 ] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به . ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ ؛ لتصِحَّ البدليَّة ، والتقدير : إلى حال العظام ، ونظيرُهُ قولهم : عَرفْتُ زيداً : أبو مَنْ هُوَ ؟ ف " أَبُو مَنْ " هو بدلٌ من " زَيْداً " ، على حذفٍ تقديرُهُ : " عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ " . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ ، لا يُراد به معناه ؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه ، حكُم اللفظِ دونَ المعنى ، و[ هو ] نظيرُ " أي " في الاختصاص ، نحو : " اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ " فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه ، وليس معناه عليه .
وقرأ{[4389]} أبو عمروٍ ، والحرميَّان : " نُنْشِزُهَا " بضم النون ، وكسر الشِّين ، والراءِ المُهملةِ ، والباقُون : كذلك ؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة . وابن{[4390]} عباسٍ : بفتح النونِ ، وضمِّ الشِّين ، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ : كذلك ؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ ، وفتحِها مع الراءِ ، والزاي .
فأَمَّا قراءة الحرميّين : فمن " أَنشَرَ اللهُ الموتى " بمعنى : أَحْيَاهم ، وأمَّا قراءةُ ابن عباس : فَمِنْ " نَشَر " ثُلاَثيّاً ، وفيه حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ ، فتتحدَ القراءتان .
والثاني : أَنْ يكونَ مِنْ " نَشَرَ " ضِدَّ : طَوى ، أي : يَبسُطها بالإِحياء ، ويكونُ " نَشَرَ " أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ ، نحو : أَنْشَرَ الله الميتَ ، فَنَشَرَ ، فيكونُ المتعدي ، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة ؛ لتعدِّي الفعل فيها ، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء{[4391]} رحمه الله في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ ؛ ومِنْ مجيء " نَشَر " لاَزِماً قوله : [ السريع ]
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا *** يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ{[4392]}
فناشِر : مِنْ نَشَر ؛ بمعنى : حَيِيَ . والمراد بقوله ننشرها ، أي : نُحْييها ، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ ، قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ } [ عبس :22 ] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله : { مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا } [ يس :78 ، 79 ] .
وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن " النَّشْزِ " وهو الارتفاعُ ، ومنه : " نَشْزُ الأَرْضِ " وهو المرتفع ، ونشوزُ المرأةِ ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى ، فالمعنى : يُحرِّك العِظام ، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء .
قال ابن عطية : " وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ ، وإنما النشوزُ الارتفاعُ قليلاً قليلاً " ، قال : " وانظر استعمال العربِ ، تَجده كذلك ؛ ومنه : " نَشَزَ نَابُ البَعِير " و " أَنْشَزُوا ، فَأَنْشَزوا " ، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ " فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً .
ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ " أَنْشَزَ " ، ومَنْ فَتَحها ، فَمِنْ " نَشَزَ " ، يقال : " نَشَزه " و " أَنْشَزَه " بمعنى . ومَنْ قرأَ بالياءِ ، فالضميرُ لله تعالى . وقرأ أُبيّ{[4393]} " نُنْشِئُها " من النَّشْأَةِ . ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء ، بِأَنْ قال : العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى ؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ ، ولا يقال : هذا عظمٌ حيٌّ . وهذا ليس بشيءٍ ؛ لقوله : { مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس :78 ] .
ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله : " العِظام " أي ؛ العظامِ منه ، أي : من الحمارِ ، أو تكونُ " أَلْ " قائمةً مقامَ الإِضافة ، أي : عظامِ حمارِك .
قوله : " لَحْماً " مفعولٌ ثانٍ لِ " نَكْسُوها " وهو من باب أَعْطَى ، وهذا من الاستعارة ، ومثله قول لبيدٍ : [ البسيط ]
الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِينِي أَجَلِي *** حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا{[4394]}
قوله : " فَلَمَّا تَبَيَّنَ " في فاعل " تَبيَّن " قولان :
أحدهما : مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ ، تقديرُهُ : فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها ، وقدَّره الزمخشريُّ : " فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه " يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى ، والأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني .
والثاني : وبه بدأ الزمخشري : أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ ، يعني أن " تَبَيَّن " يطلُبُ فاعلاً ، و " أَعْلَمُ " يطلبُ مفعولاً ، و " أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ " يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن ، ومفعولاً لأعلَمُ ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع ، وهذا نصُّه ، قال : وفَاعِلُ " تبيَّن " مضمرٌ تقديره : فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال : أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ على كل شيء قديرٌ ، فحُذف الأَوَّل ؛ لدلالةِ الثاني عليه ، كما في قولهم : " ضَرَبَنِي ، وضَرَبْتُ زَيْداً " فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني ، وهو المختارُ عند البصريين ، فلمَّا أعملَ الثاني ، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول ، فكأنه قال : فلمَّا تبيَّن له ، قال أعلمه أن الله . ومثله في إعمال الثاني : { آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف :96 ] { هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [ الحاقة :19 ] لما ذكرت .
إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ حتى لا يكون الفصلُ معتبراً أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول ، نحو : " جاءني يَضْحَكُ زيدٌ " فإنَّ " يَضْحَكُ " حالٌ عاملها " جاءني " فيجعل في : " جاءني " ، أو في : " يضحك " ضميراً ؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً ، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم " آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً " { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ } [ النساء :176 ] { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ } [ المنافقون :5 ] و{ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ } [ الحاقة :19 ] من باب الإِعمال ؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ ، فإذا كان على ما نصُّوا ، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ ، ولا بغيره ، ولا هو معمولٌ للأول ؛ بل هو معمولٌ لقال ، و " قال " جوابُ " لَمَّا " إِنْ قلنا : إنَّها حرفٌ ، وعاملةٌ في " لَمَّا " إن قلنا : إنها ظرفٌ ، و " تبيَّن " على هذا القول مخفوضٌ بالظرف ، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو : " لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً " ، ولا " لَمَّا جاء ضربت زيداً " ، ولا " حِينَ جاء قتلْتُ زيداً " ، ولا " إذا جاء قتلتُ زيداً " ، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول : " أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً " يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين وقد ناقضَ قوله ؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً ، كما تقدَّم في عبارتِهِ ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله : " وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ " الحذفَ فهو قول الكسائيِّ ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف ، ويُنشد : [ الطويل ]
تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا *** رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ{[4395]}
ولهذا تأويل مذكورٌ ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ : [ البسيط ]
هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا *** أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا{[4396]}
فقال : " هَوَيْنَنِي " فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث ، من غير حذفٍ . انتهى ما رُدَّ به عليه ، قال شهاب الدِّين رحمه الله وفيه نظرٌ لا يخفى .
وقرأ{[4397]} ابن عبَّاس : " تُبُيِّن " مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه . وابنُ السَّمَيْفع{[4398]} " يُبَيِّن " من غير تاء مبنياً للمفعولِ ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ .
قوله : " قَالَ أَعْلَمُ " الجمهورُ على : " قال " مبنيّاً للفاعلِ . وفي فاعله على قراءة{[4399]} حمزة والكسائي : " اعْلَمْ " أمراً من " عَلِمَ " قولان :
أظهرهما : أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك ، أي : قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ .
الثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه ، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي ، فخاطبها ؛ ومنه : [ البسيط ]
وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ *** . . . {[4400]}
تَطَاوَلَ لَيْلُكَ . . . *** . . . {[4401]}
يعني نفسه ، قال أبو البقاء{[4402]} رحمه الله : " كما تقول لنفسك : اعلم يا عبد الله ، ويُسَمَّى هذا التجريدَ " يعني : كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه . وأمَّا على قراءةِ " أَعْلَمُ " مضارعاً [ للمتكلم ] وهي قراة الجمهور ففاعل " قال " ضميرُ المارِّ ، أي : قال المارُّ : أعلمُ أنا . وقرأ الأَعمشُ : " قِيل " مبنيّاً للمفعولِ . والقائمُ مقام الفاعل : إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ ، وإمَّا الجملةُ التي بعده ، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة .
[ وقرأ حمزةُ ، والكسائيُّ : " اعلمْ " على الأَمر ، والباقون : " أَعْلَمُ " مضارعاً ] وقرأ الجعفيّ{[4403]} عن أبي بكر : " أَعْلِمْ " أَمْراً من " أَعْلَمَ " ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل " قال " ما هو ؟
فصلٌ في معنى قوله : " فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ "
قال الطبريُّ : معنى قوله : " فلمَّا تبيَّنَ لهُ " أي : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه ، قال : أَعلمُ . قال ابن عطيَّة : وهذا خطأٌ ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ ، وفسر على القول الشاذِّ ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره ، كما زعم الطبريُّ ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى : لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ ، ونحو هذا . وقال أبو عليّ : معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه .
و " أَنَّ الله " في محلّ نصب ، سادَّةً مسد المفعولين ، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف .