اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخۡرِجُهُم مِّنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَوۡلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ يُخۡرِجُونَهُم مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَٰتِۗ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (257)

" الوليّ " فعيل بمعنى : فاعل من قولهم : ولي فلان الشَّيء يليه ولاية ، فهو وَال وولى ، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ ؛ قال الهُذليُّ : [ الكامل ]

. . . *** وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ{[4290]}

ومنه يقال داري تلي دارها ، أي : تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي ؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة ، ولا يفارقك ، ومنه الوالي ؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي ، ومنه المولى ، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية : العداوة من عدا الشَّيء : إذا جاوزه ، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى : { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ } ، أي : ناصرهم ومعينهم ، وقيل : مُحبهم .

وقيل : متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره .

وقال الحسنُ : ولي هدايتهم .

قوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ، أي : من الكُفْرِ إلى الإيمان .

قال الواقدي{[4291]} : كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ ، والنور فالمرادُ منه : الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [ الأنعام :1 ] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار ، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه ، وسُمي الإسلام نُوراً ، لوضوح طريقه .

وقال أَبو العبَّاس المُقْرئُ " الظُّلُمَات " على خمسة أوجه :

الأول : " الظُّلُمَاتُ " الكفر كهذه الآية الكريمة .

الثاني : ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } يعني اللَّيل والنهار .

الثالث : الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [ الأنعام :63 ] أي من أهوالهما .

الرابع : " الظُّلُمَات " بطون الأُمَّهات ، قال تعالى : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [ الزمر :6 ] يعني المشيمة والرحم والبطن .

الخامس : بطنُ الحُوتِ قال تعالى : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ } [ الأنبياء :87 ] أي في بطنِ الحوت .

فصل في سبب النُّزولِ

ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر ، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان ، وهاهنا قولان :

الأول : أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً ، ثم أَسلم ، وذكر في سبب النُّزول روايات :

أحدها : قال مجاهدٌ : نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى{[4292]} .

وثانيتهما : أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - على طريقة النَّصَارى ، ثم آمنوا بعده بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً ، وظلمةً ، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى ، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ{[4293]} .

وثالثتها : أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم{[4294]} - .

القول الثاني : أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ ، أو لم يكن ؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ ؛ لقوله تعالى : وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [ آل عمران :103 ] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار اَلْبَتَّةَ ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصَّلاة والسَّلام { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يوسف :37 ] ولم يكن فيها قطّ ، وسمي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنساناً يقولُ : أشهد ألا إله إِلا الله ، فقال : " عَلَى الفِطْرَةِ " ، فلما قال : أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال : " خَرَجَ مِنَ النَّارِ{[4295]} " ، ومعلوم أنه ما كان فيها .

روي أنه عليه السَّلامُ أقبل على أَصحابه ، فقال " تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم{[4296]} " ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ .

فصل

استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا . لقوله تعالى على لسانه - عليه الصلاة والسلام - : { يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور ، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا ، لما أدخلوهم في النُّور .

فصل

فإن قيل : هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر ، وأدخله في الإيمان ، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى ؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد ، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية{[4297]} .

أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء ، وإِنزالِ الكُتُبِ ، والتَّرغيب في الإِيمانِ ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه :

قال القاضي{[4298]} : وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } [ إبراهيم :36 ] ، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم ، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى .

والجواب : من وجهين :

أحدهما : أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته .

الثاني : أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية ، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً ، وحينئذٍ يبطلُ قولهم ، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج .

قوله تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } : " الذين " مبتدأ أولُ ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ ، وَالطَّاغُوتُ : خبرهُ ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ . وقرأ{[4299]} الحسنُ " الطَّوَاغيت " بالجمع ، وإن كان أصلُه مصدراً ؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله : " يُخْرِجونهم " .

قوله : " يُخْرِجونهم " هذه الجُملة وما قبلها من قوله : " يُخْرِجُهم " الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية ، ويجوزُ أن يكونَ " يُخْرِجُهم " خبراً ثانياً لقوله : " الله " وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في " وليُّ " ، وكذلك " يُخْرِجُونَهُم " والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى : { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى } [ المعارج :16 ] إنها حالٌ العاملُ فيها " لَظَى " وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و " مَنْ " [ و ] " إِلى " مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج .

فإن قيل كيف قال " يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ " وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ .

فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته ، فلما بُعث كَفَرُوا به .

وقال مُقاتلٌ : يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب ، وسائر رؤوس الضلالة ؛ " يُخْرِجُونَهُم " يدعونهم .

وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار ، وقالوا : منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج ، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك ، ولم يكن فيه ، ولما قدَّمنا في التي قبلها .

فصل في دفع شبهة للمعتزلة

احتجت المعتزلةُ{[4300]} بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى ، قالوا : لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه .

وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم ؛ لأن المراد ب " الطَّاغُوت " على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق ، خرجت عن أن تكُون حجة لكم .

قوله : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً .


[4290]:- عجز بيت لساعدة بن جؤية وصدره: هجرت غضوب وحب من يتغضب ينظر ديوان الهذليين 1/167، الأشباه والنظائر 6/21، ولسان العرب (شعب)، خزانة الأدب 9/429، شرح المفصل (138)، تذكرة النحاة ص 599.
[4291]:- ينظر: تفسير البغوي 1/241.
[4292]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/426).
[4293]:- انظر: "التفسير الكبير" للفخر الرازي (7/18).
[4294]:- ينظر المصدر السابق.
[4295]:- أخرجه أحمد (1/407) والطبراني في "الكبير" (10/115) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/146) والخطيب (8/220).
[4296]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي (7/18).
[4297]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/17.
[4298]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/17.
[4299]:- انظر: المحرر الوجيز 1/345، والبحر المحيط 2/294، والدر المصون 1/618.
[4300]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 7/18.