الأول : أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله ، وهو يوجب تنقيص المال ، وذكر الرِّبا ، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال ، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله { وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ }
[ البقرة :281 ] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب ، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال ، وصونه عن الفساد ، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى ترك الرِّبا ، وعلى ملازمة التقوى ، لا يتم إلاَّ عند حصول المال ؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال ، ونظيره { وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء :5 ] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال ؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد .
قال القفَّال{[4791]} - رحمه الله تعالى - ويدلُّ على ذلك : أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار ، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ ؛ ألاَّ ترى أنَّه قال تعالى { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } ، ثم قال ثانياً : { وَلَيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ } ، ثم قال ثالثاً : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ } ، فكان هذا كالتَّكرار لقوله : { وَلَيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ } ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله ، ثم قال رابعاً : " فَلْيَكْتُبْ " وهذا إعادةٌ للأمر الأول ؛ ثم قال خامساً : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } وفي قوله : { وَلَيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ } كفاية عن قوله : { وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه ، ثم قال سادساً : { وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ } ، وهذا تأكيدٌ ، ثم قال سابعاً : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ، وهذا كالمستفاد من قوله : { وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ } ، ثم قال ثامناً : { وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ } ، وهو أيضاً تأكيد لما مضى ، ثم قال تاسعاً : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة{[4792]} ، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال ، وصونه عن الهلاك ؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله ، والإعراض عن مساخط الله : من الرِّبا ، وغيره ، والمواظبة على تقوى الله .
الوجه الثاني : قال بعض المفسرين{[4793]} : إنَّ المراد بهذه المداينة " السَّلَمُ " فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة ؛ أذن في السَّلم في هذه الآية ، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم ، وبهذا قال بعض العلماء : لا لذَّة ، ولا منفعة يوصل إليها بالطَّريق الحرام ، إلا والله - صلى الله عليه وسلم - سبحانه وتعالى - وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً ، وسبيلاً مشروعاً .
قال سعيد بن المسيَّب : بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين{[4794]} .
التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع ، ومعناه : داين بعضكم بعضاً ، وتداينتم : تبايعتم بدين .
يقال : داينت الرجل أي : عاملته بدينٍ ، وسواء كنت معطياً ، أم آخذاً ؛ قال رؤبة : [ الرجز ]
دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى *** فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا{[4795]}
ويقال : دنت الرجل : إذا بعته بدينٍ ، وأدنته أنا : أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل .
قال ابن الخطيب{[4796]} : قال أهل اللغة القرض غير الدين ؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك ، ولا يجوز فيه الأجل ، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين : ادَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض ؛ وأنشد الأحمر : [ الطويل ]
نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى *** مَصَارعَ قَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ ضُيَّعِ{[4797]}
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لما حرم الله تعالى الرِّبا ؛ أباح السَّلف ، وقال : أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى ، قد أحلَّه الله في كتابه ، وأذن فيه ثمَّ قال : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ }{[4798]} .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : نزلت في السَّلف ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين ، والثَّلاث ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَسْلَفَ ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ{[4799]} " .
وقال آخرون : المراد القرض ، وهو ضعيف ؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل ، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه :
أحدها : بيع العين بالعين ، وذلك ليس بمداينة البتة .
والثاني : بيع الدَّين بالدَّين ، وهو باطلٌ ، فلا يدخل تحت الآية . بقي قسمان ، وهما بيع العين بالدَّين ، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل ، وبيع الدَّين بالعين ، وهو المسمَّى ب " السّلم " وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة .
فإن قيل : المداينة : مفاعلة ، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين ، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين ، وهو باطلٌ بالاتفاق .
فالجواب : أنَّ المراد من " تَدَايَنْتُمْ " : تعاملتم ، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين .
فإن قيل : قوله " تَدَايَنْتُمْ " يدلُّ على الدّين ، فما الفائد في قوله : " بِدَيْنٍ " .
أحدها : قال ابن الأنباريّ{[4800]} : التَّداين يكون لمعنيين :
أحدهما : التَّداين بالمال ؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم : " كَمَا تَدِينُ تُدَانُ{[4801]} " فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين .
الثاني : قال الزَّمخشريُّ : وإنَّما ذكر الدَّين ؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى { فَاكْتُبُوهُ } إذ لو لم يذكر{[4802]} ، لوجب أن يقال : فاكتبوا الدُّين .
الثالث : ذكره ليدلّ به على العموم ، أي : أي دين كان من قليلٍ ، أو كثيرٍ من قرضٍ ، أو سلمٍ ، أو بيع دين إلى أجل .
الرابع : أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر :30 ] وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام :38 ] .
الخامس : قال ابن الخطيب{[4803]} - رحمه الله تعالى - : إنَّ المداينة مفاعلة ، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما{[4804]} قال : { إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } كان المعنى : إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين ، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين ، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير .
فإن قيل : إن كلمة " إذَا " لا تفيد العموم ، والمراد من الآية العموم ؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال : { إِذَا تَدَايَنتُم } .
فالجواب : أنَّ كلمة " إِذَا " ، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من العموم ، وهاهنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم ؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية ، وهي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين ، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة ، فطلب الزِّيادة ظلماً ، وربَّما توهم النُّقصان ، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر ، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات ، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة ، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ .
قوله تعالى : { إِلَى أَجَلٍ } : متعلِّق بتداينتم ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين ، و{ مُّسَمًّى } صفة لدين ، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة ، وهو ضعيفٌ ، فكان الوجه الأول أوجه .
والأجل : في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد ، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره ، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل ، وأصله من التَّأخير يقال : أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر ، والآجل : نقيض العاجل .
فإن قيل : المداينة لا تكون إلا مؤجلة ، فما فائدة ذكر المداينة ؟
فالجواب : إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله " مُّسَمًّى " والفائدة في قوله " مُّسَمًّى " ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [ معلوماً ] كالتَّوقيت بالسَّنة ، والأشهر ، والأيَّام ، فلو قال إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، أو إلى رجوع قدوم الحاج ؛ لم يجز لعدم التَّسمية .
وألف " مُسَمًّى " منقلبةٌ عن ياءٍ ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو ؛ لأنه من التَّسمية ، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو .
والأجل يلزم في الثَّمن في البيع ، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله ، وفي القرض ، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم .
قال القرطبي{[4805]} : شروط السّلم تسعة ، ستّة في المسلم فيه ، وثلاثة في رأس مال السّلم .
أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة{[4806]} ، وأن يكون موصوفاً{[4807]} ، وأن يكون الأجل معلوماً ، وأن يكون مؤجّلاً ، وأن يكون عام الوجود عند الأجل ، وأمَّا الثلاثة التي في رأس مال السلم ، فأن يكون معلوم الجنس ، معلوم المقدار ، وأن يكون نقداً .
قوله : { فَاكْتُبُوهُ } الضَّمير يعود على " بِدَيْنٍ " .
أمر الله تعالى في المداينة بأمرين :
أحدهما : الكتابة بقوله : { فَاكْتُبُوهُ } .
الثاني : الإشهاد . بقوله : { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رجَالِكُمْ } ، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة ، ويتخلَّله النِّسيان{[4808]} ويدخله الجحد ، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين ، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة ، والإشهاد تحذر من طلب زيادة ، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل ، والمديون يحذر من الجحد ، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول .
القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب ، لا إشكال عليهم ، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب ، فقال عطاء ، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة{[4809]} ، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري ، قال النَّخعي : يشهد ، ولو على دُسْتُجَةِ بَقْلٍ{[4810]} .
وقال جمهور الفقهاء : هذا أمر ندب ؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة ، ولا إشهاد ، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها ، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ ، ومشقَّة عظيمةٌ . وقال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج :78 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ{[4811]} " .
وقال الحسن ، والشَّعبيُّ ، والحكم بن عتيبة : كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ }{[4812]} [ البقرة :283 ] .
وقال التيمي : سألت الحسن عنها فقال : إن شاء أشهد ، وإن شاء لم يشهد ، ألا تسمع قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً } [ البقرة :283 ] .
لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة ؛ اعتبر في الكتابة شرطين :
الأوَّل : أن يكون الكاتب عدلاً لقوله : { وَلْيَكْتُبْ بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } وذلك أنَّ قوله تعالى : { فَاكْتُبُوهُ } ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب ، لكن ذلك غير ممكنٍ ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب ، فصار معنى قوله : { فَاكْتُبُوهُ } ، أي : لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة :38 ] فإن ظاهره ، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل ، إلاَّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد ، إمَّا الإمام ، أو نائبه أو المولى ، فكذا هاهنا .
ويؤكِّد هذا قوله تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ شخصٍ كان .
قوله : { بِالْعَدْلِ } فيه أوجهٌ :
أحدها : أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله . قال أبو البقاء{[4813]} : " بالعَدْلِ متعلِّق بقوله : فليكتب ، أي : ليكتب بالحقِّ ، فيجوز أن يكون حالاً ، أي : ليكتب عادلاً ، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي : بسبب العدل " . قوله أولاً : " بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب " يريد التعلق المعنوي ؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً ، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل .
وقوله : " ويجوزُ أن يكون مفعولاً " يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل .
والثاني : أن يتعلَّق ب " كَاتِب " . قال الزَّمخشريُّ : " مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له ، أي : كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب " ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء . وقال ابن عطيَّة : " والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله : " ولْيَكْتُبْ " ، وليست متعلِّقة بقوله " كَاتِبٌ " ؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه ، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد " .
الثالث : أن تكون الباء زائدةٌ ، تقديره : فليكتب بينكم كاتب بالعدل .
أحدها : أن يكتب بحيث لا يزيد ، ولا ينقص عنه ، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه .
وثانيها : لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر ، بل يكتبه بحيث يكون كل واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه .
وثالثها : قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم ، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين .
ورابعها : أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها ، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين ، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة .
قوله : { ولا يأب كاتب } وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً ، وهذا على سبيل الإرشاد ، والمعنى : أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة ، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة ، فهو كقوله تعالى : { وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ } [ القصص :77 ] .
وقال الشعبي{[4814]} : هو فرض كفاية ، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة ، وإن وجد غيره ؛ وجبت الكتابة على واحد منهم .
وقيل : كانت الكتابة واجبة على الكاتب ، ثمَّ نسخت بقوله تعالى : { وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } .
وقيل : متعلِّق الإيجاب ، هو أن يكتب كما علمه الله ، يعني : أنَّه بتقدير أنه يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله ، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط ، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان .
قوله : { أَنْ يَكْتُبَ } مفعولٌ به ، أي : لا يأب الكتابة .
قوله : { كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ } يجوز أن يتعلَّق بقوله : { أَنْ يَكْتُبَ } على أنه نعتٌ لمصدر محذوف ، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه{[4815]} ، والتقدير : أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله ، أو أن يكتبه أي : الكتب مثل ما علَّمه الله . ويجوز أن يتعلَّق بقوله : " فَلْيَكْتُبْ " بعده .
قال أبو حيَّان{[4816]} : " والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله : فَلْيَكْتُبْ " قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : وهو قلق لأجل الفاء ، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله : " فَلْيَكْتُبْ " ، لكان النَّظم : فليكتب كما علمه الله ، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى .
وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب ، وب " فَلْيَكْتُبْ " - " فإِنْ قلت : أيُّ فرقٍ بين الوجهين ؟ قلت : إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة ، ثم قيل [ له ] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها ، وإن علَّقته بقوله : " فَلْيَكْتُبْ " فقد نهى عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق ، ثم أمر بها مقيّدةً " . فيكون التقدير : فلا يأب كاتبٌ أن يكتب ، وهاهنا تمَّ الكلام ، ثم قال بعده : { كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ } ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً ، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها .
ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله : لا يأب ، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل . قال ابن عطيّة - رحمه الله - : " ويحتمل أن يكون " كما " متعلّقاً بما في قوله " ولا يأْبَ " من المعنى ، أي : كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة ، فلا يأب هو ، وليفضل كما أفضل عليه " . قال أبو حيَّان : " وهو خلاف الظاهر ، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل " قال شهاب الدين رحمه الله : وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله : " فليكتب " يجوز أن تكون للتعليل أيضاً ، أي : فلأجل ما علَّمه الله فليكتب .
وقرأ العامة : " فَلْيَكْتُبْ " بتسكين اللام كقوله : " كَتْف " في كتِف ، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل . وقد قرأ الحسن{[4817]} بكسرها وهو الأصل .
قوله : " ولْيُمْلِل " أمرٌ من أملَّ يملُّ ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان : الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد ، والإدغام وهو لغة تميم ، وقيس ، ونزل القرآن باللُّغتين .
قال تعالى في اللغة الثانية : { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان :5 ] وكذا إذا سكن وقفاً نحو : أملل عليه وأملَّ ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ : " مَنْ يَرْتَدِدْ ، ويرتدَّ " .
وقرئ هنا شاذّاً{[4818]} : " وَلْيُمِلَّ " بالإدغام ، ويقال : أملَّ يملُّ إملالاً ، وأملى ، يملي إملاءً ؛ ومن الأولى قوله : [ الطويل ]
أَلاَ يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ *** أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ{[4819]}
ويقال : أمللت وأمليت ، فقيل : هما لغتان ، وقيل : الياء بدلٌ من أحد المثلين ، وأصل المادتين : الإعادة مرة بعد أخرى .
و " الحَقُّ " يجوز أن يكون مبتدأٌ ، و " عَلَيْهِ " خبر مقدمٌ ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول ، والموصول هو فاعل " يُمْلِل " ومفعوله محذوف ، أي : وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ ، فحذف المفعولين للعلم بهما . ويتعدَّى ب " عَلَى " إلى أحدهما فيقال : أمللت عليه كذا ، ومنه الآية الكريمة .
اعلم أنَّ الكتابة ، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات ، لكن ذلك لا يتمّ إلاَّ بإملاء من عليه الحق ؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره ، وجنسه وصفته ، وأجله ، وغير ذلك .
ثم قال : { وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ } بأن يقرّ بمبلغ المال ، { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } ، أي : لا ينقص منه شيئاً .
قوله : { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } يجوز في " منه " وجهان :
أحدهما : أن يكون متعلقاً بيبخس ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، والضمير في " منه " للحقِّ .
والثاني : أنَّها متعلقة بمحذوف ؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة ، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً .
و " شَيئاً " : إمَّا مفعول به ، وإمَّا مصدرٌ .
والبخس : النَّقص ، يقال منه ، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً ، وأصله من : بخست عينه ، فاستعير منه بَخْسُ الحق ، كما قالوا : " عَوَرْتُ حَقَّه " استعارة من عور العين . ويقال : بخصه بالصَّاد . والتباخس في البيع : التناقص ، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه .
قوله : { فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ } إدخال حرف " أو " بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها ؛ لأنَّ معناه : أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم ، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج ، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً ، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلاَّ في جهَّال النَّاس ، وأصحاب العقول الخفيفة ، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً ؛ قال الشاعر : [ السريع ]
نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا *** وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ{[4820]}
والضَّعيف على الصَّغير ، والمجنون ، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل بالكلية ، " والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ " من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ ، أو لجهله بما عليه ، وله .
فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء ، ولا الإقراء ، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم .
فقال تعالى : { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } .
قيل : الضُّعف بضم الضَّاد في البدن ، وبفتحها في الرأي .
قال القرطبيُّ{[4821]} : والأول أصحُّ .
قوله : { أَن يُمِلَّ هُوَ } أن ، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به ، أي : لا يستطيع الإملال ، و " هو " تأكيدٌ للضمير المستتر . وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير ، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه ، قاله أبو حيان .
وقرئ بإسكان هاء : " هو " وهي قراءة{[4822]} ضعيفة ؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها . ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل ، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة ، قال أبو حيَّان - رحمه الله - : " وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ : { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [ القصص :61 ] .
قال شهاب الدين : فجعل هذه القراءة{[4823]} شاذةً وهذه أشذُّ منها ، وليس بجيد ، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارئ أهل المدينة فيما رواه عنه قالون ، وهو أضبط رواته لحرفه ، وقرأ بها الكسائي{[4824]} أيضاً وهو رئيس النحاة .
والهاء في " وليُّه " للذي عليه الحقُّ ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث ؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره ، وقال ابن عبَّاس ، ومقاتلٌ والرَّبيعُ : المراد بوليِّه : وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل ، فإِن اعتبرنا قوله ، فأيُّ حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد ؟ وقوله : " بالعدْلِ " تقدَّم نظيره .
واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة : هو الاستشهادُ ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود .
وقوله : " فاسْتَشْهِدُوا " يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ ، أي : اطلبُوا شهيدَين ، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل ، نحو : اسْتَعْجَلَ بمعنى أَعجَل ، واستيقن بمعنى أَيقَنَ فيكون " اسْتَشْهِدُوا " بمعنى شهدوا ، يقال أشهدت الرَّجُل واستشهدته بمعنى واحدٍ ، والشَّهيدان : هما الشَّاهدانِ ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ .
وفي قوله : " شَهِيدَيْن " تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة .
قوله : " مِنْ رِجَالِكُمْ " يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا ، وتكونُ " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين ، و " مِنْ " تبعيضيةٌ .
في المراد بقوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } ثلاثة أقوال :
أحدها : قال أكثر العلماء : المراد الأَحرارُ المسلمون .
الثاني : قال شريحٌ ، وابن سيرين : المراد المسلمون ؛ فيدخل العبيد{[4825]} .
الثالث : من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة ، بسبب العدالة . حجَّةُ شريح ، وابن سيرين : عمومُ الآية ؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُواْ } ، وهذا يقتضي : أَنَّ الشَّاهد ؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة ، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ ، فلا يكونُ شاهداً ، وهذا مذهبُ الشَّافعي ، وأبي حنيفة .
والجواب عن قوله : { مِّن رِّجَالِكُمْ } ، أي : الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة ، كما قدَّمناهُ .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ } ، جوَّزوا في " كَانَ " هذه أَنْ تكون النَّاقصة ، وأَنْ تكون التامة ، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى : فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها ، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي : فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين ، والمعنى على هذا : إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له ، وإن كانت تامّةً فيكون " رجلين " نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } [ النساء :176 ] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال . والألفُ في " يَكُونَا " عائدةٌ على " شَهِيدَيْنِ " ، تفيدُ الرجولية .
قال القرافيُّ : العلماءُ يقولون : إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة " أو " فهو للتَّخيير ، كقوله تعالى : { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ } [ المائدة :89 ] ، وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله : { فَمَنْ لَمْ يَجدْ } [ البقرة :196 ] الآية فهو على التَّرتيب ، وهذا غير صحيح لهذه الآية ؛ لأَنَّ قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } يقتضي على قولهم أَلاَّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلاَّ عند عدم الرَّجلين ، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك ، عند وجود الرَّجلين ، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين .
الأول : أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب .
الثاني : أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط ، وهو خلافُ الإِجماع ، وهو هناك كذلك .
قولنا : إذا لم يكن العدد زوجاً ، فهو فردٌ ، وإِنْ لم يكن فرداً ، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيّته على عدم الفرديَّة ، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة . بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه ، وجد الآخر أم لا ، وإذا تقرَّر هذا ، فالمُرادُ من الآية : انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة ، بعد الرَّجلين في الرَّجل ، والمرأتين ، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة ، إِلاَّ الرَّجُلين ، والرَّجُلَ ، والمرأتين ، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة ، في الأَموال ، فإذا فرض عدم إحداهما ، قبل الحصر في الأُخرى ، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب ؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر ، والكل حقيقة لغوية ، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب ، بل لا بُدَّ من قرينة .
قوله : { فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : فرجلٌ ، وامرأتان ، يكفُون في الشَّهادة ، أو مُجزِئون ، ونحوه . وقيل : هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره : فالشَّاهدُ رجلٌ ، وامرأتان وقيل : مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره : فيكفي رجُلٌ ، أي : شهادةُ رجلٍ ، فحُذِف المضافُ للعلم به ، وأُقيم المضافُ إليه مقامه . وقيل : تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ ، وهو أحسنُ ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ ، وهو تقديرُ الزَّمخشريِّ .
وقيل : هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة ، والتَّقدير : فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان ، وقيل : بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى ؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها ، وقد عُرِفَ ما فيه ، وقيل : هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ ، تقديرُهُ : فليُسْتَشْهَد رجلٌ . قال أبو البقاء : " وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ : فَاسْتَشْهِدُوا " وهو كلامٌ حسنٌ .
وقرئ{[4826]} : " وَامْرَأَتَانِ " بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة ، وفيها تخريجان .
أحدهما : أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً ، وليس قياسُ تخفيفها ذلك ، بل بَيْنَ بين ، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحو : العأْلَمِ ، والخَأْتَمِ ؛ وقوله : [ الرجز ]
وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ{[4827]} *** . . .
وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة ، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان : " مِنْسَأْتَه " في سبأ .
وقال أبو البقاء{[4828]} في تقرير هذا الوجهِ ، ونحا إلى القياس فقال : ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف ، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها ؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها ، فلمَّا صارت كالألف ، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا : خَأْتم وعَأْلم .
والثاني : أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك . قال أبو حيَّان رحمه الله : ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر : [ الطويل ]
يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ *** لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ{[4829]}
يريدُ : وَأَنَا رَقوب ، فسكِّنَ همزةَ " أَنَا " بعد الواوِ ، وحذف ألف " أنا " وصلاً على القاعدة . قال شهاب الدين : قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال : " ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة ؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ " وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب ، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ " مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا " ، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً ، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة ؟
قوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين .
والثاني : أنه في محلِّ نصب ؛ لأنه نعتٌ لشهيدين . واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال : " لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ " ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء{[4830]} رحمه الله تعالى قال : للوصف الواقعِ بينهما .
الوجه الثالث : أنه بدلٌ من قوله : " من رجالكم " بتكريرِ العاملِ ، والتقدير : " وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن " ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه . وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة ، وهو للفصلِ بينهما ، وضعَّفه أبو حيّان{[4831]} بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا " رِجَالكُمْ " على العموم ، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ ، وعلى كلا التّقديرين ، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه ، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ ؛ لأنَّ لها مفهوماً على المختارِ .
الرابع : أن يتعلَّقَ باستشهِدوا ، أي : استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن . قال أبو حيان{[4832]} : " ويكون قيداً في الجميعِ ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ " .
قوله : { مِنَ الشُّهَدَاءِ } يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ ، والتَّقديرُ : مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ . ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ " مِنْ " بإعادةِ العامل ، كما تقدَّم في نفسِ { مِمَّن تَرْضَوْنَ } ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما .
قوله { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ } كقوله تعالى في الطلاق : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق :2 ] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً ، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ : أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً ، مسلماً عدلاً ، عالماً بما شهد به ؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه ، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ ، ولا بترك المُروءةِ ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وقيل : سبعة : الإِسلامُ ، والحريَّةُ ، والعقلُ ، والبُلُوغُ ، والعدالةُ ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة .
قوله : { أَنْ تَضِلَّ } قرأ حمزة{[4833]} بكسر " إِنْ " على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها ، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ ، فأمَّا القراءة الأولى ، فجوابُ الشَّرط فيها قوله " فتذكِّرُ " ، وذلك أَنَّ حمزة رحمه الله يقرأ{[4834]} : " فَتُذَكِّرُ " بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط ، ورَفَعَ الفعل ؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ ، أي : فهي تُذَكِّر ، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا ؟
فقال ابن عطيَّة : إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً " لامْرَأَتَيْن " ، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله : " مِمَّنْ تَرْضَوْنَ " صفةٌ لقوله " فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان " قال أبو حيان{[4835]} - رحمه الله - : " فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان " وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ " حُبْلَيَان " على " عُقَلاَء " ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ " ممَّنْ تَرْضَوْن " بدلٌ من رِجَالِكُم ، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا ، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة ، والموصوفِ بأجنبيّ . قال شهاب الدين - رحمه الله - : وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال : وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما ، وصفاً للمذكورين وهما " امْرَأَتَانِ " في قوله : " فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ " لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما ، كما يُوصَف بهما في قوله : { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ } [ الحج :41 ] .
والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم ، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر ، كأَنَّ قائلاً قال : ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل ؟ فأُجيب بهذه الجملة .
وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ ؛ ف " أَنْ " فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها ، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ ، بخلافها في قراءةِ حمزة ، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين ، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية ، مُسَكَّنةٌ للجزم ، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما ، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ ، وهي لامُ العِلَّة ، والتَّقديرُ : لأن تَضِلَّ ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ .
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق ، إذا التَّقديرُ : فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما ، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } ، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه ؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر ، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك : " فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ " إذ تقديرُ الأول : فَلْيَشهد رجلٌ ، وتقديرُ الثاني : فرجلٌ وامرأتان يشهدُون ؛ لأَنْ تَضِلَّ ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة . فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى ، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً ؟ وقد أَجابَ سيبويه{[4836]} رحمه الله وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار ، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه ، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما ، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار . فكأنه قيل : إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ ، ونظيرُه قولُهم : " أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه ، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ فأدفعَه " فليس إعدادُك الخشبة ؛ لأَنْ يميلَ الحائطُ ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال ، وللدفع إذا جاء العدو ، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ .
وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير : مخافةَ أَنْ تَضِلَّ ؛ وأنشد قول عمروٍ : [ الوافر ]
. . . *** فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا{[4837]}
أي : " مخافَةَ أَنْ تَشْتِمونا " وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله " فَتُذَكِّرَ " ؛ لأنه كان التَّقديرُ : فاستشهدوا رجلاً وامرأتين ، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما ، ولكنَّ عطفَ قوله : " فَتُذَكِّر " يُفسده ، إذا يصيرُ التقديرُ : مخافةَ أَنْ تُذكّرَ إحداهما الأخرى ، [ وإذكارُ إحداهما الأخرى ] ليس مخوفاً منه ، بَلْ هو المقصودُ ، وقال أبو جعفرٍ{[4838]} : " سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ " قال أبو جعفر رحمه الله تعالى : " وهو غلطٌ إذ يصير المعنى : كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى " .
وذهب الفرَّاء{[4839]} إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة : " كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت " ، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ " أَنْ " ، قال : ومثلُه من الكلام : " إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى " معناه : إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى ، فعنده " أنْ " في " أَنْ تَضِلَّ " للجزاءِ ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح ، وأصله التأخير .
وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ . قال الزّجَّاج{[4840]} : " لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [ إذا تقدَّم ] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن " . وقال الفارسيُّ : ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها ، والقياسُ يُفْسِدها ، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل ، إذا تغيَّرت حركته ؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه ، كما روى أبو الحسن{[4841]} من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس ، وأبي عُبيدة ، وخلف الأَحمرِ ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ ، كذلك " إنْ " الجزائيّة ينبغي ، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها ، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و[ لا ] بالتأخيرِ ، تقول " مَرَرْتُ بِزَيْدٍ " وتقول : " بزيدٍ مَرَرْتُ " فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها من تأخيرٍ . وأجاب ابن الخطيب{[4842]} فقال هاهنا غرضان :
أحدهما : حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين .
والثاني : بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة ، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين{[4843]} ، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد ، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود ، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى ، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين .
لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد ؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة ؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت ؛ ذكَّرتها الأخرى ، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ : الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها .
قوله : " فَتُذَكِّرَ " وقرأ ابن كثيرٍ{[4844]} وأبو عمرو : " فَتُذَكِرَ " بتخفيفِ الكافِ ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي : جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه ، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى : { قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ } [ الشعراء :20 ] وقال في ذلك الفرزدق : [ الكامل ]
وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً *** كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ{[4845]}
فالهمزةُ في " أَذْكَرْتُهُ " للنقلِ والتَّعدية ، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ ؛ فلا بُدَّ من آخر ، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني ، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين .
وقد شَذَّ بعضهم قال : مَعْنَى فَتُذَكِرَ إحداهما الأُخرى أي : فتجعلها ذكراً ، أي : تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصمعيُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال : " فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان ، تقولُ لها : هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ ، أو فلانة ، ومَنْ قرأ " فَتُذكِرَ " بالتَّخفيف فقال : إذا شهدت المرأةُ ، ثم جاءَتِ الأخرى ؛ فشهِدَت معها ، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر " ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو ، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ :
منها : أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير ، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه .
ومنها : أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ ، هكذا ذكروا ، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين ، وإلاَّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ .
ومنها : أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً ؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً ، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال : وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها ، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً .
وقال الزمخشريُّ : " ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير : [ فَتُذَكِّرَ ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً ، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر " انتهى . ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى .
وأمَّا نصبُ الرَّاء ؛ فنسقٌ على " أَنْ تَضِلَّ " ؛ لأَنَّهما يَقْرآن : " أَنْ تَضِلَّ " بأن النَّاصبةِ ، وقرأ الباقون{[4846]} بتشديد الكافِ من " ذَكَّرْتُه " بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً ، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ .
وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ : فحمزةُ وحدَه : بكسرِ " إِنْ " ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء ، وابن كثير : بفتح " أنْ " ويخفف الكاف وينصب الرَّاء ، والباقون كذلك ، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ .
والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى : أَكْرَمْتُه وكَرَّمته ، وفرَّحته وأَفْرَحته . قالوا : والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف ، وعليه قوله : [ المتقارب ]
عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى *** ثَلاَثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلاَ
يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ *** ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلاَ{[4847]}
وقرأ عيسى{[4848]} بن عمرو والجحدريُّ : " تُضَلَّ " مبنيّاً للمفعول ، وعن الجحدريّ أيضاً{[4849]} : " تُضِلَّ " بضمِّ التَّاء ، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا ، أي : أضاعهُ ، فالمفعول محذوفٌ أي : تُضِلَّ الشَّهادة . وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ : " فَتَذْكُر " برفع الرَّاءِ ، وتخفيف الكافِ ، وزيدُ بن أسلمَ " فتُذاكِرُ " من المذاكرة .
وقوله : إحداهما " فاعل ، " والأخرى " مفعولٌ ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب ، والمعنى نحو : ضَرَب مُوسَى عِيسَى .
قال أبو البقاء{[4850]} : ف " إحداهما " فاعلٌ ، و " الأخرى " مفعول ، ويصحُّ العكسُ ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب ، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك : " كَسَرَ العَصَا مُوسَى " ، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ ، لأنَّ النِّسيان ، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما ، بل ذلك على الإِبهامِ ، وقد عُلِم بقوله : " فَتُذَكِّرَ " أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية ، كما علم من لفظ " كَسَر " مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل " إِحْدَاهُما " فاعلاً ، و " الأُخْرَى " مفعولاً وبالعكس انتهى . ولمَّا أبهم الفاعل في قوله : " أَنْ تَضِلَّ إحداهما " أَبْهَمَ أيضاً في قوله : " فَتُذَكِّرَ إحداهما " ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [ عليها ما يجوزُ ] على صاحبتها من الإِضلالِ ، والإِذكارِ ، والمعنى : إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه ، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم .
قال أبو البقاء{[4851]} : فإنْ قيل : لِمَ لَمْ يَقُلْ : " فَتُذَكِّرَها الأُخرَى " ؟ قيل فيه وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر ، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان ، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور .
والثاني : أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ ، تقديره : " فَتُذَكِّرهَا " وهذا يَدُلُّ على أن " إحداهما " الثانية مفعولٌ مقدمٌ ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه ؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه ، والمُظْهَرُ الأول فاعل " تضِلَّ " ، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر ؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة ، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رحمه الله تعالى - : وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل ؛ لأنَّ قوله : " أَعادَ الظَّاهِرَ " قريبٌ من قوله : " وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر " .
و " إِحْدَى " تأنيثُ " الواحِد " قال الفارسيُّ : أَنَّثُوه على غيره بنائِه ، وفي هذا نظرٌ ، بل هو تأنيثُ " أحَد " ولذلك يقابُلونها به في : أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين ، وتُجْمَعُ " إِحْدَى " على " إِحَد " نحو : كِسْرَة وكِسَر .
قال أبو العباس : " جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في " الكِسْرَة " ، فقالوا في جمعها : " إِحَد " ؛ كما قالُوا : كِسْرَة وكِسَر ؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر ، والعُلْيا والعُلَى ، فكما جعلوا هذه كظُلمة ، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر " قال : " وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر ؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم " قَاصِعَاء وقَوَاصع " و " دَامَّاء ودَوَامّ " ، يعني : أنَّ فاعلة نحو : ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب ، كذا فاعِلاَء ؛ نحو : قاصِعَاء ، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل ؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر : [ الرجز ]
حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ *** لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلاَحٍ مُعْتدِي{[4852]}
قال : يقال : هو إحدى الإِحَدِ ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ ، وواحدُ الآحادِ ، كما يقال : واحدٌ لا مثل له ، وأنشد البيت .
واعلَم أنَّ " إِحْدَى " لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها ؛ فيقال : إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما ، ولا يقال : جاءَتْني إِحْدى ، ولا رأيتُ إِحْدَى ، وهذا بخلافِ مذكَّرها .
و " الأُخرى " تأنيث " آخرَ " الذي هو : أَفْعَلُ التَّفضيل ، وتكونُ بمعنى آخِرة ؛ كقوله تعالى : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } [ الأعراف :38 ] ، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على " أُخَر " ، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ ، وفي علَّته خلافٌ ، وجمعُ الثانية منصرفٌ ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف .
أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال ، حتى يثبت برجُل وامرأتين ، واختلفوا في غير الأموال ، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ{[4853]} وأصحابُ الرَّأي : تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ .
وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال ، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ ، وأحمدُ إلى : أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع ، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين ، وبشهادة أربع نسوةٍ .
وعن أحمد : يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ .
قال القُرطبيُّ{[4854]} : لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل ؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه ، فكما له أن يحلف مع الشَّاهد عندنا ، وعند الشَّافعي ، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة ، وخالف في هذا أبُو حنيفة ، وأصحابُهُ ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد .
قالوا : لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة ، وعددها ، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين ، فلا يجوزُ القضاءُ به ؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله ، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ ، فيكون نسخاً ، وهذا قولُ الثَّوري ، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة .
قال بعضهم : الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن ، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان .
وقال الحكم : القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ ، وهو كلُّه غلط ، وليس في قوله تعالى : { وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِجَالِكُمْ } الآية ما يرد به قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمين ، والشاهد ؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير ، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب ، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً ، وليس هو في الآية ، مع أنَّ الخلفاء الأربعة : قضوا بالشَّاهد واليمين ، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز ، وكتب به إلى عمَّاله ، وإياس بن معاوية ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة .
قال مالك : أترى هؤلاء تنقض أحكامهم ، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - : قضى بالشَّاهد مع اليمين{[4855]} .
قوله : { وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ } مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : لا يأبون إقامة الشهادة ، وقيل : المحذوف مجرور لأن " أبى " بمعنى امتنع ، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة .
قوله : { إِذَا مَا دُعُواْ } ظرفٌ ل " يَأْبَ " أي : لا يمتنعون في وقت [ دَعْوَتهم ] لأدائها ، أو لإقامتها ، ويجوز أن تكون [ متمحضةً للظرف ، ويجوز أن تكون ] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي : إذا دُعُوا فلا يأبوا .
أحدها : أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها .
الثاني : أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق ، وهو قول قتادة ، واختيار القفَّال ، قال كما أمر الكاتب ألاَّ يأب الكتابة ، كذلك أمر الشَّاهد ألاَّ يأب من تحمل الشَّهادة ، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق ، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء ، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم .
الثالث : المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره ، فهو مخير ، وهو قول الحسن{[4856]} .
الرابع : قال الزَّجَّاج{[4857]} ، وهو مروي عن الحسن أيضاً ، وهو قول مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبيرٍ : المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً ، والأداء ثانياً .
قال الشعبي : الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ : هو أمر ندب ، وهو مخيّر في جميع الأحوال . قال القرطبيُّ{[4858]} : قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً ، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم ، فلا يكون لهم شغلٌ إلاَّ تحمل حفظ حقوق النَّاس ، وإن لم يكن ذلك ؛ ضاعت الحقوق وبطلت .
قال القرطبيُّ{[4859]} : دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم ، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه ، وعمل به في كلّ مكان وزمان ، وفهمته كلُّ أمَّةٍ .
وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء ، فيخص عموم قوله : " مِنْ رِجَالِكُمْ " لأنَّه لا يمكنه أن يجيب ؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه ، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة ، كما انحطَّ عن منصب الولاية ، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ .
قوله : { وَلاَ تَسْأَمُواْ } والسَّأم والسآمة : الملل من الشَّيء والضَّجر منه .
قوله : { أَن تَكْتُبُوهُ } مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره : " ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه " ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له " تَسْأَموا " ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال : [ الطويل ]
سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ *** ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ{[4860]}
وقيل : بل يتعدَّى بحرف الجرّ ، والأصل : من أن تكتبوه ، فحذف حرف الجرِّ للعلم به ، فيجري الخلاف المشهور في " أَنْ " بعد حذفه ، ويدلُّ على تعدِّيه ب " مِنْ " قوله : [ الكامل ]
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا *** وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ{[4861]}
والهاء : في " تَكْتبوه " يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية ، وأن تكون للحقّ في قوله : { فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } ، وهو أقرب مذكورٍ ، والمراد به " الدَّيْن " وقيل : يعود على الكتاب المفهوم من " تَكْتبوه " قاله الزَّمخشريُّ .
و { صَغِيراً أَو كَبِيرا } حالٌ ، أي : على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً ، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً ، أو مشبعاً ، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر " كان " مضمرةً ، وهذا لا حاجة تدعو إليه ، وليس من مواضع إضمارها .
وقرأ السُّلميُّ{[4862]} : " وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ " بالياء من تحت فيهما . والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء ، ويجوز أن يكون من باب الالتفات ، فيعود : إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب .
والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال ، أو كثر ، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم ، ولجاج شديد .
فإن قيل : هل تدخل الحبة والقيراط{[4863]} في هذا الأمر ؟
فالجواب : لا ، لعدم جريان العادة به .
قوله : " إِلَى أَجَلِهِ " فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بتكتبوه ، قاله أبو البقاء{[4864]} . وردَّه أبو حيان فقال : " متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب " تَكْتُبُوهُ " لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين ، إذ ينقضي في زمن يسير ، فليس نظير : سِرْتُ إلى الكُوفَةِ " .
والثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء ، قاله أبو البقاء{[4865]} .
قوله : " ذَلِكم " مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب .
وقال القفَّال : إليه وإلى الإشهاد .
وقيل : إلى جميع ما ذكر وهو أحسن . و " أَقْسَطُ " قيل : هو من أقسط إذا عدل ، ولا يكون من قسط ، [ لأن قسط ] بمعنى جار ، وأقسط بمعنى عدل ، فتكون الهمزة للسَّلب ، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي ، وهو شاذٌّ .
قال الزَّمخشريُّ : " فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم ؟ - قلت : يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيَّين من " أَقْسَطَ " ، و " أَقَامَ " وأن يكون " أَقْسَط " من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى : ذي قسطٍ ؛ و " أَقْوَم " من قويم " . قال أبو حيَّان رحمه الله : لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من " أَفْعل " ، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال ، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ " أَفْعَل " للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ ، فظاهر هذا أن " أَفْعَل " للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل ، فما جاز في التَّعجب جاز [ في ] التَّفضيل ، وما شذَّ فيه شذَّ فيه . وقد اختلف النَّحويُّون في بناء التَّعجُّب ، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب : الجواز مطلقاً ، والمنع مطلقاً ، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل ، فيمتنع ، أو لا فيجوز ، وعليه يؤوَّل الكلام ، أي : كلام سيبويه ، حيث قال : " إنه يبنى من أفعل " ، أي : الذي همزته لغير التَّعدية . ومن منع مطلقاً قال : " لم يَقُلْ سيبويه ، وأفعل بصيغة الماضي " إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر ، فالتبس على السَّامع ، يعني : أنه يكون فعل التّعجب على أفعل ، بناؤه من فَعَلَ ، وفَعِل ، وفَعُل ، وعلى أَفْعِلْ . ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها .
ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من " قَسُطَ " بضمِّ السِّين نحو : " أَكْرَمَ " من " كَرُم " . وقيل : هو من القسط بالكسر وهو العدل ، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ ، وليس من الإقساط ؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من " الإِفْعَالِ " . وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجور والرُّباعيَّ بمعنى العدل .
ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [ الحجَّاج ] بن يوسف : ما تقول فيَّ ؟ فقال : " أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ " ، فلم يفطن له إلا هو ، فقال : إنه جعلني جائراً كافراً ، وتلا قوله تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن :15 ] { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام :1 ] .
وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل ، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع : " قَسَط ، قُسُوطاً ، وقِسْطاً : جار وعَدَل ضِدٌّ " . وحكى ابن السِّيد في كتاب : " الاقْتِضَابِ " له عن ابن السَّكِّيت في كتاب : " الأَضْدَادِ " عن أبي عبيدة : " قَسَطَ : جارَ ، وقَسَط ، [ عَدَل ] ، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير " . وقال أبو القاسم الرَّاغب{[4866]} الأصبهاني : " القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره ، وذلك جورٌ ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره ، وذلك إنصافٌ ، ولذلك يقول : قَسَط إذا جَارَ ، وأقْسَط إذا عَدَل " .
والقسط : اسم ، والإقساط مصدر يقال : أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً ، إذا عدل ، فهو مقسطٌ .
قال تعالى : { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } [ المائدة :42 ] ويقال : هو قاسط إذا جار فقال تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن :15 ] { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام :1 ] ، وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ .
قال ابن القطَّاع : قَسَطَ قُسُوطاً ، وقسطاً : جَارَ ، وعَدَلَ ضدٌّ ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى .
قوله : { عِندَ اللهِ } ظرفٌ منصوبٌ ب " أَقْسَط " ، أي في حكمه . وقوله : " وَأَقْوَمُ " إنَّما صحَّت الواو فيه ؛ لأنه أفعل تفضيل ، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب ، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه .
و " وَأَقْومُ " يجوز أن يكون من " أَقَامَ " الرُّباعي المتعدِّي ؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة ، ثمَّ أتى بهمزة [ أفعل ] كقوله تعالى : { أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى } [ الكهف :12 ] فيكون المعنى : أثبت لإقامتكم الشهادة ، ويجوز أن يكون من " قام " اللازم ويكون المعنى : ذلك أثبت لقيام الشَّهادة ، وقامت الشهادة : ثبتت ، قاله أبو البقاء{[4867]} .
قوله : " لِلشَّهَادَةِ " متعلِّقٌ ب " أَقْوَم " ، وهو مفعولٌ في المعنى ، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة ؛ كقوله : [ الطويل ]
. . . *** وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا{[4868]}
وقد قيل : " إن " القَوانسَ " منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل ، هذا معنى كلام أبي حيّان{[4869]} ، وهو ماشٍ على أنّ " أَقْوَم " من أقام المتعدّي ، وأمَّا إذا جعلته من " قَام " بمعنى ثبت فاللاَّم غير زائدة .
قوله : { أَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } ، أي : أقرب ، وحرف الجرّ محذوفٌ ، فقيل : هو اللاَّم أي : أدنى لئلاَّ ترتابوا ، وقيل هو " إلَى " وقيل : هو " من " ، أي : أدنى إلى ألاّ ترتابوا ، وأدنى من ألا ترتابوا . وفي تقديرهم : " مِنْ " نظرٌ ، إذ المعنى لا يساعد عليه . و " تَرْتَابُوا " : تفتعلوا من الرِّيبة ، والأصل : " تَرْتَيِبُوا " ، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها . والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى ، أي : أقسط وأقوم ، وأدنى لكذا من عدم الكتب ، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً ، أو حالاً . وقرأ السُّلميُّ{[4870]} : " ألاّ يَرْتَابُوا " بياء الغيبة كقراءة : " وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ " وتقدَّم توجيهه .
اعلم أنَّ الكتابة ، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد :
الأولى : قوله : { أَقْسَطُ عِندَ اللهِ } ، أي : أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ .
والثانية : قوله : { أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } ، أي : أبلغ في استقامته التي هي ضد الاعوجاج ؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج ، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة ؛ لأنها سبب للحفظ والذكر ، فكانت أقرب إلى الاستقامة .
والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله ، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا ، ولهذا قدمت الأولى عليها ؛ لأن تقديم{[4871]} مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب .
الفائدة الثالثة{[4872]} : قوله : { وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ } يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين ، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين .
والثَّانية : إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا .
والثالثة : إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير ، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران{[4873]} ، أنَّ هذا الأمر كيف كان ، وهذا الذي قلت : هل كان صدقاً ، أو كذباً ، أمَّا عن الغير ، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب ، فيقع في عقاب الغيبة .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متَّصل قال أبو البقاء{[4874]} : " والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ ؛ لأنَّه استثناءٌ [ من الجنس ] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة ، والتَّقدير : إلاَّ في حال حضور التِّجارة " .
والثاني : أنَّه منقطع ، قال مكي بن أبي طالبٍ{[4875]} : و " أَنْ " في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع " وهذا هو الظَّاهر ، كأنه قيل : لكنّ التّجارة الحاضرة ، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها .
وقرأ{[4876]} عاصم هنا " تِجَارَةً " بالنَّصب ، وكذلك " حَاضِرَةً " ؛ لأنها صفتها ، ووافقه الأخوان ، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما .
أحدهما : أنها التامة ، أي : إلا أن تحدث ، أو تقع تجارة ، وعلى هذا فتكون " تُدِيرونها " في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً ، وجاء هنا على الفصيح ، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول .
والثاني : أن تكون النَّاقصة ، واسمها " تِجَارَةٌ " والخبر هو الجملة من قوله : " تُدِيرُونَهَا " كأنه قيل : إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه ، وهذا مذهب الفراء{[4877]} و[ تابعه ] آخرون .
وأمَّا قراءة عاصمٍ ، فاسمها مضمرٌ فيها ، فقيل : تقديره : إلا أن تكون المعاملة ، أو المبايعة ، أو التجارة . وقدَّره الزَّجاج{[4878]} إلاَّ أن تكون المداينة ، وهو أحسن . وقال الفارسيُّ : " ولا يجوز أن يكون [ التَّداينُ ] اسم كان ؛ لأنَّ التَّداين معنًى ، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين ، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى ، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين ، للمدين المطالبة به ، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين ، والتّجارة الحاضرة " وهذا الرد لا يظهر على الزجاج ، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان ، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة ، كان مداينة ، وتجارةً حاضرة .
وقال الفارسيُّ أيضاً : ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها " الحَقُّ " الذي في قوله : { فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين ، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين :
أحدهما : أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد ، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع ، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رحمه الله{[4879]} : " إذا كَانَ غَداً فَأتني " ؛ وينشد على هذا : [ الطويل ]
أَعَيْنَيَّ هَلاَّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا *** إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا{[4880]}
والثاني : أن يكون أضمر التِّجارة ؛ كأنه قيل : إلاَّ أن تكون التِّجارة تجارةً ؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رحمه الله : [ الطويل ]
فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي *** إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا{[4881]}
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا *** إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا{[4882]}
أي : إذا كان اليوم يوماً ، و " بَيْنَكُم " ظرفٌ لتديرونها .
قوله : " فَلَيْسَ " قال أبو البقاء{[4883]} : " دَخَلَتِ الفَاءُ في " فَلَيْسَ " إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها " قال شهاب الدين رحمه الله تعالى : هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } إلى آخرها ، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي : بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة .
وقوله : " أَنْ لا تَكْتبوها " أي : " في أن لا " ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع " أَنْ " الوجهان .
التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح ، يقال : تجر الرَّجل يتجر تجارةً ، فهو تاجرٌ .
قال النَّوويُّ في " التَّهْذِيبِ{[4884]} " : " ويقال : اتَّجر يتَّجر تجراً ، وتجارةً فهو تاجرٌ ، والجمع تجار كصاحب ، وصحاب ، ويقال أيضاً : تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ ، وفجَّارٍ " .
وقال في " المُهَذَّبِ " في آخر " بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ " يجب العشر والخراج ، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر ، وزكاة التجارة ، فالمتجر بفتح الميم ، وإسكان التَّاء ، وفتح الجيم ، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب " المُهَذَّبِ " في كتابه " الخِلاَفُ " فقال : كأجرة المخزون ، وكذا ذكره غيره من أصحابنا .
وسواء كانت المبايعة بدينٍ ، أو بعينٍ ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } لا يمكن حمله على ظاهره ، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال ، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ ، ومعنى نفي الجناح ، أي : لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة ، ولم يرد نفي الإثم ، لأنَّه لو أراد الإثم ؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم ، ويأثم صاحب الحقّ بتركها ، وقد ثبت خلافه ، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها ؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً ، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة ، والإشهاد ؛ يشقُّ عليهم ، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس ؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد ، فلا حاجة إلى الكتابة ، والإشهاد .
قوله : " وَأَشْهِدُواْ " : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط .
قال أكثر المفسِّرين : إنَّ الكتابة ، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة ؛ فلا يرفع الإشهاد ؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته .
قوله : { إِذَا تَبَايَعْتُمْ } يجوز أن تكون شرطيةً ، وجوابها : إمَّا متقدّم عند قومٍ ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره : إذا تبايعتم فأشهدوا ، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً ، أي : افعلوا الشَّهادة وقت التبايع .
قوله : " وَلاَ يُضَارَّ " العامَّة على فتح الرَّاء جزماً ، ولا ناهيةٌ ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة : " إِن تَضِلَّ " . ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل ، والأصل : " يُضَارِرْ " بكسر الرَّاء الأولى ، فيكون " كَاتِب " ، و " شَهِيد " فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له ، والمشهود له ، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه ، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة ، واختاره الزجاج{[4885]} ، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال : { فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } ، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً . لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة ، وبمن يمتنع عن الشَّهادة ؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد ؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة " { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة :283 ] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - ومجاهد وطاوس ، والحسن وقتادة . ونقل الدَّاني عن ابن عمر ، وابن عبَّاس ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء{[4886]} الأولى بالكسر ، حين فكُّوا .
ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول ، والمعنى : أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد ، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال : " وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما " ، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما ويمنعهما من مهمَّاتها ، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة ، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم ، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود . ونقل الداني أيضاً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا{[4887]} الراء الأولى بالفتح . فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى .
وقرأ{[4888]} أبو جعفر ، وعمرو بن عبيدٍ : " ولا يُضارّ " بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً ، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن ، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف ، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك .
وقرأ عكرمة{[4889]} : " ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلاَ شَهِيداً " بالفكِّ ، وكسرِ الراءِ الأولى ، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق ، ونَصْب " كاتباً " ، و " شهيداً " على المَفْعُول به ، أي : لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز .
وقرأ{[4890]} ابن محيصن : " ولا يُضارُّ " برفع الرَّاء ، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } [ البقرة :197 ] .
وقرأ عكرمة في رواية مقسم : " ولا يُضارِّ " بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين . وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله : { لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } [ البقرة :233 ] .
قوله : { وَإِن تَفْعَلُواْ } ، أي : تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه ، فحذف المفعول به للعلم به . والضّمير في " فإنَّهُ " يعود على الامتناع ، أو الإضرار . و " بِكُمْ " متعلّقٌ بمحذوفٍ ، فقدَّره أبو البقاء{[4891]} : " لاحِقٌ بِكُم " ، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً ؛ لأنه صفةٌ ل " فُسُوق " ، أي : فسوق مستقرٌّ بكم ، أي : ملتبسٌ بكم ولاحق بكم .
قوله : { وَاتَّقُواْ اللهَ } ، يعني : فيما حذَّر منه هاهنا ، وهو المضارة ، أو يكون عاماً ، أي : اتَّقوا الله في جميع أوامره ، ونواهيه .
قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ } يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في " اتَّقوا " قال أبو البقاء{[4892]} : " تقديره : واتقوا الله مضموناً لكم التَّعليم ، أو الهداية ، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة " . قال شهاب الدين : وفي هذين الوجهين نظرٌ ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال ، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل ، لكن لا ضرورة تدعو إليه هاهنا .
المعنى : يعلمكم ما يكون إرشاداً ، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا ، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين ، { وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، أي : عالم بجميع مصالح الدُّنيا ، والآخرة .