الأول : قال الأَصمّ{[4930]} : إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول : من دلائل التَّوحيدِ ، والنُّبوةِ ، والمعادِ ، وبيان الشَّرائِع ، والتكاليف ؛ كالصلاةِ والزكاةِ ، والصومِ ، والحجِّ ، والقِصَاصِ ، والجهادِ ، والحيضِ ، والطَّلاَقِ ، والعِدَّةِ ، والصَّدَاقِ ، والخُلعِ ، والإِيلاءِ ، والرَّضَاعةِ ، والبيع ، والرِّبَا ، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد .
قال ابن الخطيب{[4931]} : لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول { للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } مِلكاً ومُلْكاً ، وعبَّرَ عن كمال علمه ، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } ، وإذا اختصَّ بكمال العلم ، والقُدرة ، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له ، وجدوا بتخليقه ، وتكوينه ، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين ، ونهايةُ الوعيد للمذنبين ، ولهذا ختم السورة بهذه .
الثاني : قال أبو مسلم{[4932]} : إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة : " إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ " ، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال : { للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً ، فقد وجدت بتكوينه ؛ وإبداعه ، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتمِلة على الحِكم المُتكاثرة ؛ والمنافع العظيمة ، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها .
الثالث : قال القاضي{[4933]} : إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة ، والإِشهادَ ، والرهنَ ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه ، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات ، والأَرضِ .
الرابع : قال الشعبيُّ ، وعكرمةُ ، ومجاهدٌ : إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة ، وأَوعد عليه ، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ ، والأَرضِ ؛ فيجازِي على الكِتْمانِ ، والإِظهارِ{[4934]} .
قال مقاتلٌ : نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين ، يعني : وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار ، أو تُسِّروه ، يُحَاسِبكُم به الله{[4935]} ، كما ذكر في سورة آل عمران
{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ } [ آل عمران :28 ] ، إلى أن قال : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ } [ آل عمران :29 ] .
وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ .
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ ؛ أنه قال : لمَّا نزلت هذه الآية ، " جاء أبو بكرٍ وعمرُ ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف ، ومعاذ ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثم بركُوا على الرَّكبِ ، فقالوا : يا رسُول اللهِ ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ ؛ الصلاةُ ، والصِّيامُ ، والجِهَادُ ، والصَّدَقَةُ ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا ، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بل قولوا : " سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ " فَلمَّا قرأها القومُ ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم ، فأنزل الله في إثرها { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [ البقرة :285 ] فمكَثُوا في ذلك حولاً ، واشتدَّ ذلك عليهم ، فأَنزل اللهُ - تعالى - { لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة :286 ] فَنَسَخَتْ هذه الآية ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ{[4936]} " .
قال ابن مسعود ، وابن عبَّاسٍ ، وابن عمر : هذه الآية منسوخةٌ{[4937]} ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظِيّ ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : قال : " إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ{[4938]} " .
وقال آخرون : الآية من باب الخبر ، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي ، وقوله : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } خبر ، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً :
الأول : أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان :
منها : ما يعزمُ على فعله وإيجاده ، فيكون مؤاخذاً به ؛ لقوله - تعالى - : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِالَّلغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة :225 ] ، وقال بعد هذه الآية : لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } [ البقرة :286 ] ، وقال : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور :19 ] .
ومنها : ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها ، فهذا لا يُؤاخذُ به .
الثاني : أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ ؛ فإنه في محلِّ العفوِ .
وقوله : { إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل ، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً ، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ ، ولم تتَّصِل بعمل ، فذلك في محلِّ العفو .
قال ابن الخطيب{[4939]} : وهذا ضعيفٌ ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلاَّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه .
وأيضاً : فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ ، لا يترتَّب عليها عقابٌ ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي .
الثالث : قال{[4940]} الحسن : كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه ، أو همّةٍ في قلبه ، إِلاَّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه ، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء ؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً ؛ فقال : { وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } [ البقرة :225 ] .
الرابع : أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ ، ويُعاقِبُهُم عليه ، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ ، والأُمُور التي يحزنزن عليها .
روى الضَّحَّاك " عن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : سألت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه ، فقال : يا عائشة ، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة ، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه ؛ كما يخرج التِّبرُ الأحمرُ من الكِير{[4941]} . "
وعن أنس بن مالكٍ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا ، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ{[4942]} " .
فإن قيل : كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ غافر :17 ] .
قلنا : هذا خاصٌّ ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ .
الخامس : أنه - تعالى - قال : " يُحَاسِبْكُم " ولم يَقُل " يُؤَاخِذْكُم " وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة ، ومن جملتها كونه عالماً بها ، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر .
والمرادُ من المُحاسبة : الإِخبار والتَّعريفُ .
ومعنى الآية : وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم ، يحاسبكم به الله ، ويُخبركم به ، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله ، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ .
وهذا معنى قول الضَّحَّاك ، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - ؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال : { يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ } ولم يَقُلْ : " يُؤَاخِذْكُمْ " ، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة .
ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبرهم بما كان في نفوسهم ، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه ، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب{[4943]} روى صفوان بن محرز قال : كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فأتاهُ رجلٌ ، فقال : كيف سمعتَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النَّجوى ؟ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ ، فيقُولُ : أي عَبْدِي ، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا ؟ فيقولُ : نَعَمْ أي ربِّ ، ثم يقُول : أي رَبِّ ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ ، قال : فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [ بِيَمِينِهِ ] ، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ{[4944]} " .
السادس : أنه - تعالى - قال : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها .
السابع : المراد كتمان الشَّهادة ؛ وهذا ضعيفٌ ، لعُموم اللَّفظ .
قوله تعالى : " فَيَغْفِرُ " : قرأ{[4945]} ابن عامر وعاصمٌ برفع " يَغْفِرُ " و " يُعَذِّبُ " ، والباقون من السبعةِ بالجزم ، وقرأ ابن عباس{[4946]} والأعرجُ وأبو حيوة : " فَيَغْفِرَ " بالنصب .
فأمَّا الرفعُ : فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ ، وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : فهو يَغْفِرُ .
والثاني : أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ ، عُطِفت على ما قبلها .
وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم .
وأمَّا النصبُ : فبإضمار " أَنْ " ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهَّم من الفعلِ قبل ذلك ، تقديره : تكنْ محاسبةُ ، فغفرانٌ ، وعذابٌ . وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة ، وهو : [ الوافر ]
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ *** رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ
ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ *** أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ{[4947]}
بجزم : " نَأْخُذْ " عطفاً على " يَهْلِكْ رَبِيعُ " ونصبه ورفعِه ، على ما ذُكِرَ في " فَيَغْفِرْ " وهذه [ قاعدة مطَّرِدة ، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه ] الأوجُهُ الثلاثةُ ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه ، نحو : إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي ، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي .
وقرأ الجعفي{[4948]} وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد : " يَغْفِرْ " بإسقاط الفاء ، وهي كذلك في مصحف عبد الله ، وهي بدلٌ من الجواب ؛ كقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } [ الفرقان :68-69 ] . وقال أبو الفتح{[4949]} : " وهي على البدلِ من " يُحاسِبْكُمْ " ، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة " قال أبو حيان{[4950]} : " وليس بتفسيرٍ ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ " . وقال الزمخشريُّ : " ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة ، الحساب ؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل ، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال ؛ كقولك : " ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ " و " أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ " ، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ ؛ لحاجةِ القبيلينِ إلى البيان " .
قال أبو حيان{[4951]} : وفيه بعضُ مناقشةٍ : أمَّا الأولُ ؛ فقوله : " معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ " ، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها ، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها ، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة ، فليست المحاسبةُ مفصَّلةً بالغفرانِ والعذابِ . وأمَّا ثانياً ؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال : " وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان " ، أمَّا بدلُ الاشتمال ، فهو يمكن ، وقد جاءَ ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها ، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ ، انتفَتْ جميعُ أنواعه ، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ ، إلا بمجازٍ بعيدٍ ، فليس كالاسم في ذلك ، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [ بدل ] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى ؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض .
قال شهاب الدين{[4952]} : ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً ، أو تفصيلاً للحساب ، والحسابُ نتيجتُه ذلك ، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي ، وأمَّا قوله : " إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ " ، فليس بظاهرٍ ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه ، فإنَّ الجنسَ كلٌّ ، والنوعَ بعضٌ ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى ، فلا أدري ما الجامع بينهما ؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه . فإنه قال : وقرأ{[4953]} الأعمش : " يَغْفِر " بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من " يُحَاسِبْكُمْ " ؛ كقوله : [ الطويل ]
مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا *** تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا{[4954]}
وهذا فيه نظرٌ ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك ؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه ؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط ، لا من جوابِه ، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب ، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له .
وقرأ أبو عمرو{[4955]} بإدغام الراء في اللام ، والباقون بإظهارها ، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [ عنه ] ، وورشٌ عن نافع ، والباقون{[4956]} بالإِدغام ، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو ؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ .
قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : " كيف يَقْرأ الجَازِمُ " ؟ قلت : يُظْهِر الراءَ ، ويُدْغِم الباء ، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطئٌ خطأً فاحِشاً ، وراويه عن أبي عمرٍو مخطئٌ مرتين ؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم ، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة ، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية ، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو " قال شهاب الدين{[4957]} . وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن ؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [ بعد الحَرْفِ ] ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم ؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها ، والأقوى لا يدغم في الأضعَف ، وهذا مَذهبُ البصريِّين : الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما ، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو ، وليس قوله : " إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه " بمُسَلَّمٍ ، ثم ذكر أبو حيان{[4958]} نقولاً عن القراء كثيرةً ، وهي منصوصة في كتبهم ، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً ؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته ، [ وكيف ] يقال : إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين ، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته ، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن .
روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس : " فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ " الذَّنب العَظِيم " ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير ، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون ، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير{[4959]} " .
قوله : { وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قد بيَّن بقوله تعالى : { للَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ ، وبيَّن بقوله : { إِن تُبْدُواْ مَا فِي? أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ } أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ ، ثم بيَّن بقوله : { وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أنه كامِل القُدْرة ، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام ، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات ، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ .