اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{خُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ مِنۡ عَجَلٖۚ سَأُوْرِيكُمۡ ءَايَٰتِي فَلَا تَسۡتَعۡجِلُونِ} (37)

قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } الآية . في المراد بالإنسان قولان :

أحدهما : أنه النوع ، وذلك أنهم كانوا يستعجلون العذاب { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد }{[28419]} . ( والمعنى أن ينبته من العجلة وعليها طبع كما قال : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً{[28420]} }{[28421]} . فإن قيل : مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ؟

فالجواب أنه تعالى نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة مرغوب فيها{[28422]} .

القول الثاني : أن المراد بالإنسان شخص معين ، فقال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث{[28423]} .

وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك : المراد آدم عليه السلام{[28424]} . وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم{[28425]} قال : خلق آدم بعد كل شيء من آخر نهار يوم الجمعة ، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ }{[28426]} والقول الأول أولى ، لأن الغرض ذم القوم ، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع{[28427]} . قوله : «من عجل » فيه قولان :

أحدهما : أنه من باب القلب ، والأصل : خُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ لشدة صدوره منه وملازمته له وإلى هذا ذهب أبو عمرو ، ويؤيده قراءة عبد الله : «وَخُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ »{[28428]} . والقلب موجود في كلامهم قال الشاعر :

3714- حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّرْبَالِ آخذُهُ{[28429]} *** . . .

يريد : حسرت السربال عن كفي .

ومثله في الكلام : إذا طلعت الشِّعرى{[28430]} استوى العود على الحِرْبَاء وقالوا : عرضت الناقة على الحوض{[28431]} ، وتقدم منه أمثلة إلا أن بعضهم يخصه بالضرورة{[28432]} وتقدم فيه ثلاثة مذاهب .

والثاني : أنه لا قلب فيه ، وفيه ثلاثة{[28433]} تأويلات أحسنها أن ذلك على المبالغة جعل ذات الإنسان كأنها خلقت من نفس العجلة دلالة على شدة اتصاف الإنسان بها ، وأنها مادته التي أخذ منها كما قيل للرجل الذي هو حاد : نار تشعل العرب قد تسمى المرء بما يكثر منه ، فتقول : ما أنت إلا أكل ونوم ، وما هو إلا إقبال وإدبار ، قال الشاعر :

3715- تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حتى إذَا ادَّكَرَتْ{[28434]} *** فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ{[28435]}

ويتأكد هذا بقوله : { وَكَانَ{[28436]} الإنسان عَجُولاً }{[28437]} .

قال المبرد : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي من شأنه العجلة كقوله { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ{[28438]} } أي : ضُعَفَاء{[28439]} . ومثله في المبالغة من جانب النفي قوله عليه السلام{[28440]} : «لست من الدَّدِ وَلاَ الدِّدُ مِنِّي »{[28441]} ، والدُّدُ : اللعب ، وفيه لغات : دَدٌ محذوف اللام ودَدَا مقصوراً كعصا ، ودَدَنٌ بالنون . وألفه في إحدى لغاته مجهولة الأصل لا يدري أهي عن ياء أو واو{[28442]} . وقيل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي بسرعة ، وتعجيل من غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم أنشأناه خلقاً آخر{[28443]} .

وقال أبو عبيدة : العَجَل الطين بلغة حمير قال شاعرهم :

3716- والنَّبْعُ في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبِتُهُ *** والنَّخْلُ يَنْبِتُ بَيْنَ المَاءِ وَالعَجَلِ{[28444]}

قال الزمخشري بعد إنشاده عجز هذا البيت : والله أعلم بصحته{[28445]} .

قال شهاب الدين : وهو معذور{[28446]} . وهذا الجار يحتمل تعلقه ب «خُلِقَ » على المجاز أو الحقيقة المتقدمتين{[28447]} . وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال كأنه قال : خلق الإنسان عجلاً . قاله أبو البقاء{[28448]} . وقرأ العامة «خُلِقَ » مبنياً للمفعول «الإنسان » مرفوعاً لقيامه مقام الفاعل . وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم «خَلَقَ » مبنياً للفاعل «الإنسان » نصباً مفعولاً به{[28449]} . فإن قيل : القوم استعجلوا الوعيد على وجه التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة .

فالجواب : أن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت ، وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين حقيقة{[28450]} .

قوله : { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي } مواعيدي ؛ قيل : هي الهلاك المعجل في الدنيا والآخرة ، ولذلك قال { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } أي أنه سيأتي لا محالة في وقته ، فلا تطلبوا العذاب قبل وقته ، فأراهم يوم بدر . وقيل : كانوا يستعجلون القيامة . وقيل : الآيات : أدلة التوحيد وصدق الرسول . وقيل : الآيات آثار القرون الماضية بالشام واليمن{[28451]} .


[28419]:[الأنبياء: 38].
[28420]:من قوله تعالى: {ويدع الإنسان بالشر دعاء بالخير وكان الإنسان عجولا} [الإسراء: 11] انظر البغوي 5/486.
[28421]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[28422]:انظر الفخر الرازي 22/171.
[28423]:الفخر الرازي 22/171.
[28424]:في ب: عليه الصلاة والسلام. انظر الفخر الرازي 22/171.
[28425]:هو ليث بن أبي سليم القرشي، أحد العلماء والنساك، أخذ عن عكرمة، وغيره، وأخذ عنه شعبة، والصوري، وخلق، مات سنة 143 هـ. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 323.
[28426]:انظر الفخر الرازي 22/171، والقرطبي 11/288-289.
[28427]:انظر الفخر الرازي 22/171.
[28428]:البحر المحيط 6/312.
[28429]:صدر بيت من بحر البسيط لتميم بن مقبل وعجزه: فردا يجر على أيدي المفدِّينا وهو في ديوانه (325)، جمهرة أشعار العرب 2/862 وتفسير ابن عطية 10/150 البحر المحيط 6/313 وهو في الجمهرة برواية: حسرت عن كفي السربال. السربال: القميص والدرع. والشاهد فيه أنه من المقلوب، فهو يريد أن يقول: حسرت السربال عن كفي.
[28430]:الشعري: كوكب نير يطلع عند شدة الحر.
[28431]:هذا من المقلوب في كلام العرب، والأصل: استوى الحرباء على العود، وعرضت الحوض على الناقة. انظر البحر المحيط 6/313.
[28432]:قال أبو حيان ردا على من ادعى القلب في الآية: (فليس قوله بجيد، لأن القلب الصحيح فيه أن يكون في كلام فصيح وأن بابه الشعر) البحر المحيط 6/213-214.
[28433]:ثلاثة: سقط من الأصل.
[28434]:في النسختين: ترتع إذا نسيت حتى إذا ذكرت.
[28435]:البيت من بحر البسيط قالته الخنساء، رتعت الإبل: إذا رعت، وأرتعتها: تركتها ترعى. ادكرت. تذكرت.
[28436]:في النسختين: خلق. وهو تحريف.
[28437]:[الإسراء: 11].
[28438]:من قوله تعالى: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير} [الروم: 54].
[28439]:هذا القول أقرب إلى الصواب لأنه أمكن حمل الكلام على معنى صحيح، وهو على ترتيبه، فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب. انظر الفخر الرازي 22/172.
[28440]:في ب: عليه السلام والصلاة.
[28441]:سبق تخريجه.
[28442]:ينظر هذه اللغات في اللسان (ددن-ددا).
[28443]:البحر المحيط 6/313.
[28444]:انظر البحر المحيط 6/313، والبيت من بحر البسيط لم أهتد إلى قائله وهو في الكشاف 3/11-12، تفسير ابن عطية 10/151، اللسان (عجل) تفسير القرطبي 11/289، البحر المحيط 6/313. النبع: شجر من أشجار الجبال تتخذ منه القسي: الصماء: الصلبة. يقول: النبع منبته في الصخرة الصماء، والنخل ينبت في الأرض اللينة. والشاهد فيه أن (العجل) بمعنى الطين.
[28445]:الكشاف 3/12.
[28446]:الدر المصون 5/49.
[28447]:انظر التبيان 2/918.
[28448]:المرجع السابق.
[28449]:المختصر: (91)، البحر المحيط 6/313.
[28450]:النظر الفخر الرازي 22/172.
[28451]:الأول أقرب إلى النظم وهو : الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة انظر الفخر الرازي 22/172، البحر المحيط 6/313.