قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } الآية . في المراد بالإنسان قولان :
أحدهما : أنه النوع ، وذلك أنهم كانوا يستعجلون العذاب { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد }{[28419]} . ( والمعنى أن ينبته من العجلة وعليها طبع كما قال : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً{[28420]} }{[28421]} . فإن قيل : مقدمة الكلام لا بد وأن تكون مناسبة للكلام وكون الإنسان مخلوقاً من العجل يناسب كونه معذوراً فيه فلم رتب على هذه المقدمة قوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ؟
فالجواب أنه تعالى نبه بهذا على أن ترك الاستعجال حالة مرغوب فيها{[28422]} .
القول الثاني : أن المراد بالإنسان شخص معين ، فقال ابن عباس في رواية عطاء : نزلت هذه الآية في النضر بن الحرث{[28423]} .
وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والكلبي ومقاتل والضحاك : المراد آدم عليه السلام{[28424]} . وروى ابن جريج وليث بن أبي سليم{[28425]} قال : خلق آدم بعد كل شيء من آخر نهار يوم الجمعة ، فلما دخل الروح رأسه ولم يبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فوقع فقيل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ }{[28426]} والقول الأول أولى ، لأن الغرض ذم القوم ، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع{[28427]} . قوله : «من عجل » فيه قولان :
أحدهما : أنه من باب القلب ، والأصل : خُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ لشدة صدوره منه وملازمته له وإلى هذا ذهب أبو عمرو ، ويؤيده قراءة عبد الله : «وَخُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإنْسَانِ »{[28428]} . والقلب موجود في كلامهم قال الشاعر :
3714- حَسَرْتُ كَفِّي عَنِ السِّرْبَالِ آخذُهُ{[28429]} *** . . .
ومثله في الكلام : إذا طلعت الشِّعرى{[28430]} استوى العود على الحِرْبَاء وقالوا : عرضت الناقة على الحوض{[28431]} ، وتقدم منه أمثلة إلا أن بعضهم يخصه بالضرورة{[28432]} وتقدم فيه ثلاثة مذاهب .
والثاني : أنه لا قلب فيه ، وفيه ثلاثة{[28433]} تأويلات أحسنها أن ذلك على المبالغة جعل ذات الإنسان كأنها خلقت من نفس العجلة دلالة على شدة اتصاف الإنسان بها ، وأنها مادته التي أخذ منها كما قيل للرجل الذي هو حاد : نار تشعل العرب قد تسمى المرء بما يكثر منه ، فتقول : ما أنت إلا أكل ونوم ، وما هو إلا إقبال وإدبار ، قال الشاعر :
3715- تَرْتَعُ مَا رَتَعَتْ حتى إذَا ادَّكَرَتْ{[28434]} *** فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارٌ{[28435]}
ويتأكد هذا بقوله : { وَكَانَ{[28436]} الإنسان عَجُولاً }{[28437]} .
قال المبرد : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي من شأنه العجلة كقوله { خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ{[28438]} } أي : ضُعَفَاء{[28439]} . ومثله في المبالغة من جانب النفي قوله عليه السلام{[28440]} : «لست من الدَّدِ وَلاَ الدِّدُ مِنِّي »{[28441]} ، والدُّدُ : اللعب ، وفيه لغات : دَدٌ محذوف اللام ودَدَا مقصوراً كعصا ، ودَدَنٌ بالنون . وألفه في إحدى لغاته مجهولة الأصل لا يدري أهي عن ياء أو واو{[28442]} . وقيل : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي بسرعة ، وتعجيل من غير ترتيب خلق سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم العظام ثم أنشأناه خلقاً آخر{[28443]} .
وقال أبو عبيدة : العَجَل الطين بلغة حمير قال شاعرهم :
3716- والنَّبْعُ في الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبِتُهُ *** والنَّخْلُ يَنْبِتُ بَيْنَ المَاءِ وَالعَجَلِ{[28444]}
قال الزمخشري بعد إنشاده عجز هذا البيت : والله أعلم بصحته{[28445]} .
قال شهاب الدين : وهو معذور{[28446]} . وهذا الجار يحتمل تعلقه ب «خُلِقَ » على المجاز أو الحقيقة المتقدمتين{[28447]} . وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال كأنه قال : خلق الإنسان عجلاً . قاله أبو البقاء{[28448]} . وقرأ العامة «خُلِقَ » مبنياً للمفعول «الإنسان » مرفوعاً لقيامه مقام الفاعل . وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم «خَلَقَ » مبنياً للفاعل «الإنسان » نصباً مفعولاً به{[28449]} . فإن قيل : القوم استعجلوا الوعيد على وجه التكذيب ، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلاً على الحقيقة .
فالجواب : أن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت ، وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين حقيقة{[28450]} .
قوله : { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي } مواعيدي ؛ قيل : هي الهلاك المعجل في الدنيا والآخرة ، ولذلك قال { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } أي أنه سيأتي لا محالة في وقته ، فلا تطلبوا العذاب قبل وقته ، فأراهم يوم بدر . وقيل : كانوا يستعجلون القيامة . وقيل : الآيات : أدلة التوحيد وصدق الرسول . وقيل : الآيات آثار القرون الماضية بالشام واليمن{[28451]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.