اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَحَرَٰمٌ عَلَىٰ قَرۡيَةٍ أَهۡلَكۡنَٰهَآ أَنَّهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ} (95)

قوله تعالى{[29591]} :

{ وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ } قرأ الأخوان{[29592]} وأبو بكر ورويت عن أبي عمرو «وَحِزْمُ » بكسر الحاء وسكون الراء{[29593]} وهما لغتان كالحِلّ والحَلاَل{[29594]} .

وقرأ ابن عباس وعكرمة «وحَرِمَ » بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم{[29595]} على أنه فعل ماض وروي عنهما أيضاً وعن أبي العالية{[29596]} بفتح الحاء والميم وضم الراء{[29597]} بزنة كَرُم ، وهو فعل ماض أيضاً . ( وروي عن ابن عباس أيضاً فتح الجميع{[29598]} وهو فعل ماض أيضاً ){[29599]} . وعن{[29600]} اليماني بضم الحاء وكسر الراء ( مشددة وفتح الميم{[29601]} ماضياً مبنياً للمفعول . وروى عكرمة بفتح الحاء وكسر الراء ) {[29602]} وتنوين الميم{[29603]} .

فمن جعله اسماً{[29604]} ففي رفعه وجهان :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وفي الخبر حينئذ ثلاثة أوجه :

أحدها : قوله : { لا يَرْجِعُونَ } وفي ذلك حينئذ أربعة تأويلات :

التأويل الأول : أن «لا » زائدة{[29605]} ، والمعنى : وممتنع على قرية قدرنا إهلاكها لكفرهم رجوعهم إلى الإيمان إلى أن تقوم الساعة . وممن ذهب إلى زيادتها أبو عمرو مستشهداً عليه بقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }{[29606]} يعني أحد القولين{[29607]} .

التأويل الثاني : أنها غير زائدة ، وأن المعنى : أنهم غير راجعين عن معصيتهم وكفرهم{[29608]} .

التأويل الثالث : أنَّ الحرام قد يراد به الواجب ، ويدل عليه قوله تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ }{[29609]} وترك الشرك واجب ويدل عليه قول الخنساء{[29610]} :

3743- وَإِنَّ حَرَاماً لا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيَاً *** عَلَى شَجْوَةِ إلاَّ بَكَيْتُ عَلَى صَخْر{[29611]}

أي : واجباً . وأيضاً فمن الاستعمال إطلاق أحد الضدين على الآخر ، وهو مجاز مشهور قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }{[29612]} ومن ثم قال الحسن والسدي : لا يرجعون عن الشرك . وقال{[29613]} قتادة : لا يرجعون إلى الدنيا{[29614]} .

التأويل الرابع : قال مسلم بن بحر : حرام ممتنع ، وأنهم لا يرجعون ، فيكون عدم رجوعهم واجباً ، وإذا امتنع الانتفاء وجب الرجوع ، فيكون المعنى : إن رجوعهم إلى الحياة في الدار الآخرة واجب ، ويكون الغرض منه إبطال قول من ينكر البعث ، وتحقيقه ما تقدم أنه لا كفران لسعي أحد وأنه - تعالى- مجازيه يوم القيامة{[29615]} .

وقول{[29616]} ابن عطية قريب من هذا فإنه قال : وَمُمْتَنِعٌ على الكفرة المهلكين أنهم لا يرجعون ( بل هم راجعون ){[29617]} إلى عذاب الله وأليم عقابه ، فتكون «لاَ » على بابها والحرام على بابه{[29618]} .

الوجه الثاني : أن الخبر محذوف ، تقديره : وحرام توبتهم أو رجاء بعثهم ، ويكون { أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } علة لما تقدم من معنى الجملة . فيكون حينئذ في «لاَ » احتمالان :

الاحتمال الأول : أن تكون زائدة ، ولذلك قال أبو البقاء في هذا الوجه بعد تقديره الخبر المتقدم : إذ جعلت ( لا ) زائدة{[29619]} .

قلت : والمعنى عنده لأنهم يرجعون إلى الآخرة وجزائها .

الاحتمال الثاني : أن تكون غير زائدة بمعنى ممتنع توبتهم ، أو رجاء بعثهم لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا فيستدركوا فيها ما فاتهم من ذلك .

الوجه الثالث : أن يكون هذا المبتدأ لا خبر له لفظاً ولا تقديراً ، وإنما وقع شيئاً يقوم مقام خبره من باب أقائم أخواك ، قال أبو البقاء : والجيد أن يكون ( أنهم ){[29620]} فاعلاً سد مسد الخبر{[29621]} . وفي هذا نظر ، لأنَّ ذلك يشترك فيه أن يعتمد الوصف على نفي أو استفهام وهنا لم يعتمد المبتدأ على شيء من ذلك اللهم إلا أن ينحو نحو الأخفش فإنه لا يشترط ذلك ، وهو الظاهر{[29622]} ، وحينئذ يكون في ( لا ) الوجهان المتقدمان من الزيادة وعدمها باختلاف معنيين ، أي : امتنع رجوعهم إلى الدنيا أو عن شركهم ، إذا قدرتها زائدة ، أو امتنع عدم رجوعهم إلى عقاب الله في الآخرة ، إذا قدرتها غير زائدة .

الوجه الثاني : من وجهي رفع «حَرَامٌ » : أنه حبر مبتدأ محذوف ، فقدره بعضهم : الإقالة والتوبة حرام{[29623]} ، وقدره أبو البقاء : أي : ذلك الذي ذكر من العمل الصالح حرام{[29624]} وقال الزمخشري : وحرام على قرية أهلكناها ذاك ، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح ، والسعي المشكور غير المكفور ، ثم علل فقيل : إنَّهم لا يرجعون عن الكفر ، فيكف لا يمتنع ذلك{[29625]} . وقرأ العامة «أَهْلَكْنَاهَا » بنون العظمة .

وقرأ أبو عبد الرحمن وقتادة «أَهْلَكْتُهَا » بتاء المتكلم{[29626]} . ومن قرأ «حَرِمٌ » بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم فهو في قراءة صفة على فَعِل نحو حَذِر{[29627]} ، وقال :

3735- وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مِسْأَلَةٍ *** يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي ولاَ حَرِمُ{[29628]}

ومن قرأه فعلاً ماضياً{[29629]} فهو في قراءته مسند ل «أن » وما في حيزها{[29630]} ، ولا يخفى الكلام في ( لا ) بالنسبة إلى الزيادة وعدمها ، فإن المعنى واضح مما تقدم{[29631]} .

وقرئ «إِنَّهُمْ » بالكسر على الاستئناف{[29632]} ، وحينئذ{[29633]} فلا بُدَّ من تقدير مبتدأ يتم به الكلام تقديره : ذلك العمل الصالح حرام ، وتقدم تحرير ذلك{[29634]} .


[29591]:قوله تعالى: سقط من الأصل.
[29592]:حمزة والكسائي.
[29593]:السبعة (431)، الكشف 2/114، 2/324، الإتحاف (312).
[29594]:انظر الكشف 2/114، التبيان 2/927.
[29595]:المختصر (93)، المحتسب 2/65، البحر المحيط 6/338.
[29596]:تقدم.
[29597]:المختصر (93)، المحتسب 2/65، البحر المحيط 6/338.
[29598]:البحر المحيط 6/338، ونسب ابن جني هذه القراءة إلى قتادة ومطر الوراق المحتسب 2/65.
[29599]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[29600]:عن: سقط من ب.
[29601]:المختصر (93) البحر المحيط 6/338.
[29602]:ما بين القوسين سقط من ب.
[29603]:المحتسب 2/65، البحر المحيط 6/238.
[29604]:وهي قراءة: "حرام" بالألف، و"حرم" بدون ألف وبكسر الحاء وسكون الراء و"حرم" بفتح الحاء وكسر الراء وتنوين الميم.
[29605]:"لا" الزائدة: هي الداخلة في الكلام لمجرد تقويته وتوكيده. نحو قوله: {ما منعك ألا تسجد} [الأعراف: 12]. وانظر البيان 2/165، والتبيان 2/926-927، والمغني 1/248.
[29606]:[الأعراف: 12]. والدليل على زيادتها قوله تعالى في موضع آخر {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} [ص: 75]. انظر البيان 1/355.
[29607]:القول الثاني: أنها غير زائدة. انظر البحر المحيط 4/273.
[29608]:انظر التبيان 2/927.
[29609]:[الأنعام: 151].
[29610]:هي تماضر بنت عمرو بن الشريد، وهي صحابية – رضي الله عنها – قدمت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مع قومها من بني سليم وأسلمت معهم، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يعجبه شعرها، ويستنشدها. الخزانة 1/433-438.
[29611]:البيت من بحر الطويل قالته الخنساء وليس في ديوانها، وهو في الفخر الرازي 22/221، القرطبي 11/340، واللسان (حرم) وهو فيه منسوب إلى عبد الرحمن بن خمانة المحاربي، جاهلي. والبحر المحيط 6/339.
[29612]:[الشورى: 40].
[29613]:في ب: قال.
[29614]:انظر هذا التأويل في الفخر الرازي 22/221، البحر المحيط 6/338-339.
[29615]:انظر البحر المحيط 6/338.
[29616]:في ب: وقرأ. وهو تحريف.
[29617]:ما بين القوسين تكملة من تفسير ابن عطية.
[29618]:تفسير ابن عطية 10/204.
[29619]:التبيان 2/927.
[29620]:في ب: أنه. وهو تحريف.
[29621]:انظر التبيان 2/927.
[29622]:وذلك أن كل وصف اعتمد على نفي أو استفهام، وكان مرفوعه اسما ظاهرا أو ضميرا منفصلا، وتم الكلام بمرفوعه، استغني بمرفوعه عن الخبر نحو: أقائم الزيدان، وما مضروب الزيدان، وأقائم أنتما. والأخفش والكوفيون لا يشترطون اعتماد الوصف على نفي أو استفهام فأجازوا: قائم الزيدان، محتجين بقول الشاعر: خبير بنو لهب فلا تك ملغيا *** مقالة لهبيٍّ إذا الطير مرّت فخبير مبتدأ وبنو لهب فاعل سد مسد الخبر. ورد البصريون احتجاجهم بالبيت بأن (خبير) خبر مقدم، و(بنو لهب) مبتدأ مؤخر، وجاز الإخبار بالمفرد عن الجمع، لأن (خبير) على وزن (فعيل) بزنة المصدر، والمصدر يخبر به عن الواحد والمثنى والجمع بلفظ الواحد. وفي ذلك يقول ابن مالك: وأول مــبتدأ، والـثـانـــــــي *** فـاعل أغنـى في "أسـارذان" وقس، وكاستفهام النفي وقد *** يجوز نحو "فائز أولو الرّشد" انظر الهمع 1/94، وشرح الأشموني 1/189-192.
[29623]:انظر البحر المحيط 6/338.
[29624]:التبيان 2/927.
[29625]:الكشاف 3/20.
[29626]:انظر البحر المحيط 6/338.
[29627]:أي: أن الوصف من (فعل)، اللازم على (فاعل) قليل نحو سلم فهو سالم، وإنما قياس الوصف منه (فعل) بفتح الفاء وكسر العين في الأعراض كفرح، وكما هنا. و(أفعل) في الألوان والخلق كأخضر، وأعور، و(فعلان) فيما دل على امتلاء وحرارة البطن كشبعان وريان، وعطشان وصديان. انظر شرح التصريح 2/78.
[29628]:البيت من بحر البسيط، قاله زهير ابن أبي سلمى. وقد تقدم.
[29629]:وهي (حرم) بفتح الحاء وكسر الراء وفتح الميم، و(حرم) بفتح الحاء والميم وضم الراء و (حرم) بفتح الجميع وحرم بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم.
[29630]:انظر التبيان 2/927.
[29631]:تقدم قريبا.
[29632]:انظر التبيان 2/927، البحر المحيط 6/33.
[29633]:في ب: وح.
[29634]:تقدم قريبا.