اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰٓ إِذَا فُتِحَتۡ يَأۡجُوجُ وَمَأۡجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٖ يَنسِلُونَ} (96)

قوله تعالى :

{ حتى إِذَا فُتِحَتْ } الآية . تقدم الكلام على ( حَتَّى ) الداخلة على ( إذا ) مشبعاً{[29635]} . وقال الزمخشري هنا : فإن قُلْت : بم تعلقت ( حَتَّى ) واقعة غاية له وأية الثلاث هي ؟ قلت : هي{[29636]} متعلقة ب «حَرَام » وهي غاية له ، لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم القيامة ، وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام ، والكلام المحكي هو الجملة من الشرط والجزاء أعني : إذا وما في حيزها{[29637]} . وأبو البقاء نحا هذا النحو ، فقال : و «حَتَّى » متعلقة في المعنى ب «حَرَام » . أي : يستمر الامتناع إلى هذا الوقت ، ولا عمل لها في «إذَا »{[29638]} . قال الحوفي : هي غاية ، والعامل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك{[29639]} . وقال ابن عطية : «حَتَّى » متعلقة بقوله : «وَتَقَطَّعُوا »{[29640]} ، ويحتمل على بعض التأويلات المتقدمة أن تتعلق ب «يَرْجِعُونَ » ، ويحتمل أن تكون حرف ابتداء ، وهو الأظهر بسبب ( إذا ) لأنها تقتضي جواباً للمقصود ذكره{[29641]} .

قال أبو حيان : وكون ( حَتَّى ) متعلقة ب «تَقَطَّعُوا » فيه من بعد حيث كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جَيِّد ، وهو أنهم لا يزالون مختلفين على دين الحق إلى قرب{[29642]} مجيء الساعة ، فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك كله{[29643]} . وتلخص في تعلق ( حَتَّى ) أوجه :

أحدها : أنها متعلقة ب «حَرَام »{[29644]} .

والثاني : أنها متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى ، وهو قول الحوفي .

الثالث : أنها متعلقة ب «تَقَطَّعُوا » .

الرابع : أنها متعلقة ب «يَرْجِعُونَ »{[29645]} .

وتلخص في ( حتى ) وجهان :

أحدها : أنَّها حرف ابتداء ، وهو قول الزمخشري وابن عطية فيما اختاره .

والثاني : إنها حرف جر بمعنى ( إلى ){[29646]} .

وقرأ «فُتِّحَتْ » بالتشديد ابن عامر ، والباقون بالتخفيف{[29647]} . وتقدم ذلك أول الأنعام{[29648]} وفي جواب «إذَا » أوجه :

أحدها : أنه محذوف ، فقدره أبو إسحاق : قالوا يا ويلنا{[29649]} ، وقدره غيره ، فحينئذ يبعثون ، وقوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } عطف على هذا المقدر{[29650]} .

والثاني : أنَّ جوابها الفاء في قوله : «فَإِذَا هِيَ »{[29651]} قاله الحوفي والزمخشري وابن عطية ، فقال الزمخشري : و «إذا » هي للمفاجأة ، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله تعالى : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ }{[29652]} ، فَإِذَا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، ولو قيل : ( إذَا هِيَ شَاخِصَةٌ ) كان سديداً{[29653]} .

وقال{[29654]} ابن عطية : والذي أقول : إنَّ الجواب في قوله : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره ، لأنه رجوعهم الذي كانوا يكذبون به وحرم عليهم امتناعه{[29655]} .

وقوله : { يَأْجُوج } هو على حذف مضاف ، أي سدّ يأجوج ومأجوج{[29656]} ، وتقدم الكلام فيهما{[29657]} وهما قبيلتان{[29658]} من جنس الإنس ، يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة أجزاء منها يأجوج ومأجوج يخرجون حيت يفتح السد .

قيل : السد يفتحه الله ابتداء . وقيل : بل إذا جعل الله الأرض دكاً زالت تلك الصلابة من أجزاء الأرض فحينئذ ينفتح{[29659]} السد{[29660]} .

قوله : { وَهُمْ } قال أكثر المفسرين : «هُم » كناية عن «يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ » .

وقال مجاهد : كناية عن جميع العالم بأسرهم أي : يخرجون من قبورهم ، ومن كل موضع ، فيحشرون إلى موقف الحساب .

والأول أظهر وإلا لتكلف النظم ، ولأنه روي في الخبر أن يأجوج ومأجوج لا بدَّ وأن يسيروا في الأرض ، ويقبلوا على الناس من كل موضع مرتفع{[29661]} . وقرأ العامة «يَنْسِلُونَ » بكسر السين . وأبو السمال وابن أبي إسحاق بضمها{[29662]} . والحَدَب : النشز من الأرض . أي : المرتفع ، ومنه الحدب في الظهر ، وكل كُدْيَة{[29663]} أو أَكْمَةٍ{[29664]} فهي حدبة ، وبها سمي القبر لظهوره على وجه الأرض{[29665]} والنَّسَلاَنُ : مقاربة الخطا مع الإسراع كالرملِ يقال : نَسَلَ يَنْسِلُ وَيَنْسُلُ بالفتح في الماضي والكسر والضمّ في المضارع{[29666]} ، ونَسَلَ وعَسَلَ واحد{[29667]} قال الشاعر :

3736- عَسَلاَنَ الذئبِ أَمْسَى قَارِباً *** بَرَدَ اللَّيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ{[29668]}

والنَّسْلُ من ذلك ، وهو الذُّرّيةُ ، أطلق المصدر على المفعول ، ونَسَلْتُ ريشَ الطائِر من ذلك . وقدم الجار على متعلقة لتراخي رؤوس الآي .

وقرأ عبد الله وابن عباس : «جَدَث » بالثاء المثلثة والجيم{[29669]} اعتباراً بقوله :

{ فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ }{[29670]} . وقرئ بالفاء ، وهي بدل منها{[29671]} قال الزمخشري : الثاء للحجاز{[29672]} ، والفاء لتميم{[29673]} . وينبغي أن يكونا أصلين ، لأنَّ كلاّ منهما لغة مستقلة{[29674]} ، ولكن كثر إبدال الثاء من الفاء ، قالوا مغثور في مغفور ، وقالوا فُمَّّ في ثُمَّ ، فأبدلت هذه من هذه تارة ، وهذه من هذه أخرى{[29675]} .

( روى حذيفة بن أسد الغفاري{[29676]} قال : اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر ، فقال : «مَا تَذْكُرُونَ ؟ » قالوا : نذكر الساعة قال : إنها لن تقوم حَتى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيات فذكر الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى ابن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف ، خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم{[29677]} ){[29678]} .


[29635]:عند قوله تعالى: {حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر} [آل عمران: 152].
[29636]:هي: سقط من الأصل.
[29637]:أي أن (حتى) حرف ابتداء. الكشاف 3/21.
[29638]:التبيان 2/927.
[29639]:أي أنها حرف جر متعلق بمحذوف دل عليه الكلام. ومعروف أنه يشترط في مخفوضها إذا كانت حرف جر شرطان. أحدهما: أن يكون ظاهرا لا مضمرا خلافا للكوفيين والمبرد. والثاني: أن يكون المجرور آخرا نحو أكلت السمكة حتى رأسها، أو ملاقيا لآخر جزء نحو {سلام هي حتى مطلع الفجر} [القدر: 5] انظر البحر المحيط 6/338، المغني 1/123.
[29640]:[الأنبياء: 93].
[29641]:تفسير ابن عطية 10/205.
[29642]:في الأصل: أقرب.
[29643]:في الأصل: عنده. وانظر البحر 6/339.
[29644]:وهو قول الزمخشري وهو واضح من النص المنقول عنه فيما سبق.
[29645]:والثالث والرابع من احتمالات ابن عطية. وهو واضح من النص المنقول عنه.
[29646]:وهو قول الحوفي وابن عطية في بعض احتمالاته.
[29647]:السبعة (431)، الكشف 2/114، النشر 2/258، الإتحاف (312).
[29648]:عند قوله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء} [الأنعام: 44].
[29649]:انظر معاني القرآن وإعرابه 3/405، مشكل إعراب القرآن 2/88، البيان 2/166 والبحر المحيط 6/339.
[29650]:انظر البحر المحيط 6/339.
[29651]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/88، البيان 2/166.
[29652]:من قوله تعالى: {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} [الروم: 36].
[29653]:أي أن (إذا) تقوم مقام الفاء في ربط جواب الشرط بالشرط، وهي هنا مع الفاء للتأكيد. الكشاف 3/21.
[29654]:في الأًصل: قال.
[29655]:تفسير ابن عطية 10/205.
[29656]:البحر المحيط 6/339.
[29657]:عند قوله تعالى: {قالوا يا ذا القرنين إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا} [الكهف: 94].
[29658]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/222.
[29659]:في ب: فتح.
[29660]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/222.
[29661]:انظر الفخر الرازي 22/222، البحر المحيط 6/339.
[29662]:المختصر (93)، البحر المحيط 6/339. وذلك أن مضارع نسل يجيء بكسر العين وضمها.
[29663]:الكدية: الأرض المرتفعة. وقيل: الأرض الصلبة، وقيل: الأرض الغليظة. اللسان (كدا).
[29664]:ا لأكمة: القف من حجارة واحدة، وقيل: هو دون الجبل. وقيل: هو الموضع الذي هو أشد ارتفاعا مما حوله، وهو غليظ لا يبلغ أن يكون حجرا. اللسان (أكم).
[29665]:انظر الفخر الرازي 22/222. اللسان (حدب).
[29666]:انظر اللسان (نسل).
[29667]:انظر مجاز القرآن 2/42، الكامل 1/474.
[29668]:البيت من بحر الرمل، وهو في مجاز القرآن للنابغة الجعدي، وفي الجمهرة واللسان (عسل) للبيد. وهو في مجاز القرآن 2/42، الكامل 1/474 والجمهرة 1/252، والخصائص 2/48، القرطبي 11/341، اللسان (عسل، نسل).
[29669]:المختصر (93)، المحتسب 2/66، الكشاف 3/21، البحر المحيط 6/399.
[29670]:[سورة يس: 51].
[29671]:أي: أن الفاء بدل من الثاء. البحر المحيط 6/339.
[29672]:في ب: للحجازيين.
[29673]:الكشاف 3/21.
[29674]:قال ابن جني في المحتسب 2/66: الجدث – بالثاء – هو القبر بلغة أهل الحجاز، والجدف – بالفاء – لبني تميم.
[29675]:وذلك أن العرب تقول في العطف: قام زيد فمّ عمرو، وكذلك قولهم: جدف وجدث. انظر سر صناعة الإعراب 1/248- 251، البحر المحيط 6/339.
[29676]:هو حذيفة بن أسيد الغفاري، أبو سريحة، شهد الحديبية، روى عن النبي – صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعلي، وأبي ذر، روى عنه أبو الطفيل والشعبي، وغيرهما، مات سنة 42 هـ. تهذيب التهذيب 2/219.
[29677]:ذكره البغوي بسنده عن سفيان بن عيينة عن فرات القزاز عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري 5/532.
[29678]:ما بين القوسين سقط من الأصل.