قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } أتى هنا ب «مَا » وهي لغير العقلاء ، لأنه متى اختلط العاقل بغيره يُخَيّر الناطق بين ( مَا ) ، و «مَنْ ){[29706]} .
وقرأ العامة : «حَصَبُ » بالمهملتين والصاد مفتوحة ، وهو ما يحصب أي : يرمى في النار ولا يقال له حصب إلا وهو في النار ، فأما قبل ذلك فهو حطب وشجر وغير ذلك{[29707]} .
وقيل : يقال له حصب قبل الإلقاء في النار . قيل : هو الحطب بلغة أهل اليمن{[29708]} .
وقال عكرمة : هو الحطب بالحبشية{[29709]} . وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ورويت عن ابن كثير بسكون الصاد{[29710]} ، وهو مصدر ، فيجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول{[29711]} ، أو على المبالغة ، أو على حذف مضاف . وقرأ ابن عباس بالضاد معجمة مفتوحة أو ساكنة{[29712]} وهو أيضاً ما يرمى به في النار{[29713]} ، ومنه المِخْضَبِ عُودٌ يُحَرَّك به النار لتوقد ، وأنشد :
3739- فَلاَ تَكُ في حَرْبِنَا مِحْضَباً *** فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا{[29714]}
وقرأ أمير المؤمنين وأبيّ وعائشة وابن الزبير «حَطَبُ » بالطاء{[29715]} ، ولا أظنها إلا تفسيراً لا قراءة{[29716]} .
المعنى «إِنَّكُمْ » أيُّهَا المشركون { وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام { حَصَبُ جَهَنَّم } أي : وقودها ، وهذا تشبيه{[29717]} . وأصل الحصب الرمي{[29718]} ، قال تعالى : { أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً }{[29719]} أي : ريحاً ترميهم بالحجارة .
قوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } . جوز أبو البقاء في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحداه : أن تكون بدلاً من «حَصَبُ جَهَنَّم »{[29720]} .
يعني : أن الجملة بدل من المفرد الواقع خبراً ، وإبدال الجملة من المفرد إذا كان أحدهما بمعنى الآخر ، جائز ، إذ التقدير : إنكم أنتم لها واردون{[29721]} .
والثاني : أن تكون الجملة مستأنفة{[29722]} .
والثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من «جَهَنَّمَ »{[29723]}وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير مواضع المستثناة{[29724]} . ومعنى { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي : فيها داخلون . وإنما جاءت اللام في «لَهَا » لتقدمها تقول : أنت لزيد ضارب . كقوله تعالى : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }{[29725]} والمعنى : أنه لا بُدَّ وأن تردوها ، ولا معدل لكم من دخولها{[29726]} .
روى ابن عباس{[29727]} أنه - عليه السلام{[29728]}- دخل المسجد وصَنَادِيد{[29729]} قريش في الحَطِيم{[29730]} . وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية . فأقبل عبد الله بن الزَّبَعْرَى فرآهم يتهامسون ، فقال : فيم{[29731]} خوضكم ؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله . فقال ابن الزبعرى : أنت قلت ذلك ؟ قال نعم .
قال : خصمتك ورب الكعبة ، أليس اليهود عُزَيْراً ، والنصارى عبدوا المسيح ، وين مليح{[29732]} عبدوا الملائكة . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجب ، فضحك القوم ونزل قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }{[29733]} .
ونزل في عيسى والملائكة { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى }{[29734]} . وفي رواية أخرى أنه - عليه السلام-{[29735]} قال : «بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك » فأنزل - تعالى- { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى }{[29736]} يعني عزيراً والمسيح والملائكة . قال ابن الخطيب : واعم أنَّ سؤال ابن الزبعرى غير متوجه من وجوه :
أحدها : أنَّ ذلك الخطاب كان مع مشركي مكة ، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط .
وثانيها : أنه لم يقل : ومن تعبدون بل قال : { وَمَا تَعْبُدُونَ } . كلمة «مَا » لا تتناول العقلاء ، وأما قوله تعالى : { وَمَا بَنَاهَا }{[29737]} وقوله : { لاَ{[29738]} أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }{[29739]} فحمول على الشيء ، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء{[29740]} الذي تعبدون من دون الله ، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعرى .
وثالثها : أنَّ مَنْ عَبَدَ الملائكة لا يَدَّعِي أنهم آلهة وقال سبحانه { لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا }{[29741]} .
ورابعها : أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ، ووعد الله إياهم بكل مكرمة ، وهو المراد بقوله سبحانه { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى }{[29742]} .
وخامسها : الجواب الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين . فإن قيل : الشياطين عقلاء ولفظ «مَا » لا يتناولهم ، فكيف قال ذلك ؟ قلنا : كأنه - عليه السلام{[29743]}- قال : لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه .
فإما ما قيل : إنه - عليه السلام{[29744]}- سكت عن إيراد ابن الزبعرى هذا{[29745]} السؤال ، فهو خطأ ، لأنه لا أقل من أنه - عليه السلام{[29746]}- كان يتنبّه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون ، لأنه أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن ، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ، ولم يظهر له منها شيء .
فإن قيل : يجوز أن يسكت عليه السلام{[29747]} انتظاراً للبيان . قلنا : كان البيان حاضراً معه ، فلم يجز عليه السكوت ، لكي لا يتوهم عليه الانقطاع من سؤالهم .
ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعرى ، فقال : إن الله - تعالى- يُصَوِّر لهم في النار ملكاً على صورة مَنْ عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها وهذا ضعيف من وجهين :
الأول : أنَّ القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئاً آخر لم يحصل معهم في النار .
الثاني : أنَّ الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة ، وإن صح أن يدخلها ، فإنَّ خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم{[29748]} .
فصل{[29749]}
أحدها : أنَّهم لا يزالون بمقارنتهم في زيادة غم وحسرة لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم ، والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب .
وثانيها : أنّهم قَدَّرُوا أن يشفعوا لهم في الآخرة ، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قَدَّرُوا لم يكن{[29750]} شيء أبغض إليهم منهم .
وثالثها : أنَّ إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بها .
ورابعها : قيل ما كان منها حجراً أو حديداً يحمى فيعذب بعبادها{[29751]} ، وما كان خشباً يجعل جمرة يعذب بها صاحبها .