اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّكُمۡ وَمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمۡ لَهَا وَٰرِدُونَ} (98)

قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } أتى هنا ب «مَا » وهي لغير العقلاء ، لأنه متى اختلط العاقل بغيره يُخَيّر الناطق بين ( مَا ) ، و «مَنْ ){[29706]} .

وقرأ العامة : «حَصَبُ » بالمهملتين والصاد مفتوحة ، وهو ما يحصب أي : يرمى في النار ولا يقال له حصب إلا وهو في النار ، فأما قبل ذلك فهو حطب وشجر وغير ذلك{[29707]} .

وقيل : يقال له حصب قبل الإلقاء في النار . قيل : هو الحطب بلغة أهل اليمن{[29708]} .

وقال عكرمة : هو الحطب بالحبشية{[29709]} . وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة ورويت عن ابن كثير بسكون الصاد{[29710]} ، وهو مصدر ، فيجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول{[29711]} ، أو على المبالغة ، أو على حذف مضاف . وقرأ ابن عباس بالضاد معجمة مفتوحة أو ساكنة{[29712]} وهو أيضاً ما يرمى به في النار{[29713]} ، ومنه المِخْضَبِ عُودٌ يُحَرَّك به النار لتوقد ، وأنشد :

3739- فَلاَ تَكُ في حَرْبِنَا مِحْضَباً *** فَتَجْعَلَ قَوْمَكَ شَتَّى شُعُوبَا{[29714]}

وقرأ أمير المؤمنين وأبيّ وعائشة وابن الزبير «حَطَبُ » بالطاء{[29715]} ، ولا أظنها إلا تفسيراً لا قراءة{[29716]} .

فصل

المعنى «إِنَّكُمْ » أيُّهَا المشركون { وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام { حَصَبُ جَهَنَّم } أي : وقودها ، وهذا تشبيه{[29717]} . وأصل الحصب الرمي{[29718]} ، قال تعالى : { أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً }{[29719]} أي : ريحاً ترميهم بالحجارة .

قوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } . جوز أبو البقاء في هذه الجملة ثلاثة أوجه :

أحداه : أن تكون بدلاً من «حَصَبُ جَهَنَّم »{[29720]} .

يعني : أن الجملة بدل من المفرد الواقع خبراً ، وإبدال الجملة من المفرد إذا كان أحدهما بمعنى الآخر ، جائز ، إذ التقدير : إنكم أنتم لها واردون{[29721]} .

والثاني : أن تكون الجملة مستأنفة{[29722]} .

والثالث : أن تكون في محل نصب على الحال من «جَهَنَّمَ »{[29723]}وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير مواضع المستثناة{[29724]} . ومعنى { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي : فيها داخلون . وإنما جاءت اللام في «لَهَا » لتقدمها تقول : أنت لزيد ضارب . كقوله تعالى : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ }{[29725]} والمعنى : أنه لا بُدَّ وأن تردوها ، ولا معدل لكم من دخولها{[29726]} .

فصل

روى ابن عباس{[29727]} أنه - عليه السلام{[29728]}- دخل المسجد وصَنَادِيد{[29729]} قريش في الحَطِيم{[29730]} . وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجلس إليهم ، فعرض له النضر بن الحرث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية . فأقبل عبد الله بن الزَّبَعْرَى فرآهم يتهامسون ، فقال : فيم{[29731]} خوضكم ؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله . فقال ابن الزبعرى : أنت قلت ذلك ؟ قال نعم .

قال : خصمتك ورب الكعبة ، أليس اليهود عُزَيْراً ، والنصارى عبدوا المسيح ، وين مليح{[29732]} عبدوا الملائكة . فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يجب ، فضحك القوم ونزل قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }{[29733]} .

ونزل في عيسى والملائكة { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى }{[29734]} . وفي رواية أخرى أنه - عليه السلام-{[29735]} قال : «بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك » فأنزل - تعالى- { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى }{[29736]} يعني عزيراً والمسيح والملائكة . قال ابن الخطيب : واعم أنَّ سؤال ابن الزبعرى غير متوجه من وجوه :

أحدها : أنَّ ذلك الخطاب كان مع مشركي مكة ، وهم كانوا يعبدون الأصنام فقط .

وثانيها : أنه لم يقل : ومن تعبدون بل قال : { وَمَا تَعْبُدُونَ } . كلمة «مَا » لا تتناول العقلاء ، وأما قوله تعالى : { وَمَا بَنَاهَا }{[29737]} وقوله : { لاَ{[29738]} أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ }{[29739]} فحمول على الشيء ، ونظيره هاهنا أن يقال : إنكم والشيء{[29740]} الذي تعبدون من دون الله ، لكن لفظ الشيء لا يفيد العموم فلا يتوجه سؤال ابن الزبعرى .

وثالثها : أنَّ مَنْ عَبَدَ الملائكة لا يَدَّعِي أنهم آلهة وقال سبحانه { لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا }{[29741]} .

ورابعها : أنه ثبت العموم لكنه مخصوص بالدلائل العقلية والسمعية في حق الملائكة والمسيح وعزير لبراءتهم من الذنوب والمعاصي ، ووعد الله إياهم بكل مكرمة ، وهو المراد بقوله سبحانه { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى }{[29742]} .

وخامسها : الجواب الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أنهم كانوا يعبدون الشياطين . فإن قيل : الشياطين عقلاء ولفظ «مَا » لا يتناولهم ، فكيف قال ذلك ؟ قلنا : كأنه - عليه السلام{[29743]}- قال : لو ثبت لكم أنه يتناول العقلاء فسؤالكم أيضاً غير لازم من هذا الوجه .

فإما ما قيل : إنه - عليه السلام{[29744]}- سكت عن إيراد ابن الزبعرى هذا{[29745]} السؤال ، فهو خطأ ، لأنه لا أقل من أنه - عليه السلام{[29746]}- كان يتنبّه لهذه الأجوبة التي ذكرها المفسرون ، لأنه أعلم منهم باللغة وبتفسير القرآن ، فكيف يجوز أن تظهر هذه الأجوبة لغيره ، ولم يظهر له منها شيء .

فإن قيل : يجوز أن يسكت عليه السلام{[29747]} انتظاراً للبيان . قلنا : كان البيان حاضراً معه ، فلم يجز عليه السكوت ، لكي لا يتوهم عليه الانقطاع من سؤالهم .

ومن الناس من أجاب عن سؤال ابن الزبعرى ، فقال : إن الله - تعالى- يُصَوِّر لهم في النار ملكاً على صورة مَنْ عبدوه وحينئذ تبقى الآية على ظاهرها وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أنَّ القوم لم يعبدوا تلك الصورة وإنما عبدوا شيئاً آخر لم يحصل معهم في النار .

الثاني : أنَّ الملك لا يصير حصب جهنم في الحقيقة ، وإن صح أن يدخلها ، فإنَّ خزنة النار يدخلونها مع أنهم ليسوا حصب جهنم{[29748]} .

فصل{[29749]}

الحكمة في أنهم بآلهتهم أمور :

أحدها : أنَّهم لا يزالون بمقارنتهم في زيادة غم وحسرة لأنهم ما وقعوا في ذلك العذاب إلا بسببهم ، والنظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب .

وثانيها : أنّهم قَدَّرُوا أن يشفعوا لهم في الآخرة ، فإذا وجدوا الأمر على عكس ما قَدَّرُوا لم يكن{[29750]} شيء أبغض إليهم منهم .

وثالثها : أنَّ إلقاءها في النار يجري مجرى الاستهزاء بها .

ورابعها : قيل ما كان منها حجراً أو حديداً يحمى فيعذب بعبادها{[29751]} ، وما كان خشباً يجعل جمرة يعذب بها صاحبها .


[29706]:وذلك أن (من) الموصولة الأصل فيها أن تكون للعاقل نحو "ومن عنده علم الكتاب" والأصل في (ما) أن تكون لغير العاقل نحو {ما عندكم ينفد} [النحل: 96] وإذا اختلط العاقل بغيره فقد يعبر بمن نحو {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض} [الحج: 18]. وقد يعبر عنه بما نحو {سبح لله ما في السماوات و ما في الأرض} [الحشر: 1] و [الصف: 1] هذا إذا كان المقصود بقوله: "وما تعبدون من دون الله" الأصنام وغيرهم من المسيح وعزير. أما إذا كان المقصود الأصنام فقط فـ (ما) على أصلها. انظر شرح التصريح 1/133-134.
[29707]:انظر اللسان (حصب) والبحر المحيط 6/340، الإتحاف 312.
[29708]:وهو قول الفراء. معاني القرآن 2/212.
[29709]:انظر البغوي 5/535.
[29710]:المحتسب 2/66، البحر المحيط 6/340.
[29711]:انظر المحتسب 2/67، التبيان 2/928، البحر المحيط 6/340.
[29712]:المختصر (93). المحتسب 2/66، البحر المحيط 6/340.
[29713]:أي: أن الحضب: الحطب، ففيه ثلاث لغات: حطب، وحضب، وحصب. المحتسب 2/67.
[29714]:البيت من بحر المتقارب قال الأعشى، وليس في ديوانه، وهو في المحتسب 2/67 واللسان (حضب)، تفسير ابن عطية: 10/210، البحر المحيط 6/340. المحضب: المسعر، وهو عود تحرك به النار عند الإيقاد. يقول: لا تحرك الفتنة وتشعل نار الحرب فتفرق قومك وتجعلهم شعوبا مختلفة.
[29715]:المحتسب 2/67، البحر المحيط 6/340.
[29716]:في ب: تلاوة.
[29717]:انظر البغوي 5/434-535. فالمراد يقذفون في نار جهنم، فشبههم بالحصباء التي يرمى بها الشيء فلما رمي بها كرمي الحصباء جعلهم حصب جهنم تشبيها. الفخر الرازي 22/224.
[29718]:الكشاف 3/21.
[29719]:من قوله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر} [القمر: 34].
[29720]:انظر التبيان 2/228.
[29721]:وذلك أن ابن جني والزمخشري وابن مالك أجازوا إبدال الجملة من المفرد كقول الفرزدق: إلى الله أشكو بالمدينة حاجة *** وبالشام أخرى كيف يلتقيان أبدل (كيف يلتقيان) من (حاجة) و (أخرى) أي: إلى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما، وجعل منه ابن مالك: عرفت زيدا أبو من هو. وذكر الأزهري أنه بدل كل، والظاهر أنه بدل اشتمال. وإنما صح ذلك لرجوع الجملة إلى التقدير بالمفرد. انظر شرح التصريح 2/162-163، الهمع 2/128، شرح الأشموني 3/132.
[29722]:انظر التبيان 2/928.
[29723]:المرجع السابق.
[29724]:ذكرنا سابقا ما قاله السيوطي في الهمع من أن بعض البصريين وصاحب البسيط جوزوا مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا. وعلى ذلك فكون الجملة حالا من (جهنم) على مذهب من جوز مجيء الحال من المضاف إليه مطلقا.
[29725]:[المؤمنون: 8]. [المعارج: 32] هذه اللام تسمى لام التقوية، وهي المزيدة لتقوية عامل ضعف إما بتأخير أو بكونه فرعا في العمل.
[29726]:انظر الفخر الرازي 22/224.
[29727]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/223-224.
[29728]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29729]:الصناديد جمع صنديد، وهم أشراف القوم وعظماؤهم. اللسان (صند).
[29730]:الحطيم: قال ابن عباس: الحطيم الجدار بمعنى جدار الكعبة، ابن سيدة: الحطيم حجر مكة مما يلي الميزاب، سمي بذلك لانحطام الناس عليه. اللسان (حطم).
[29731]:في ب: ففيم.
[29732]:في الأصل: بليح. وهو تحريف.
[29733]:[الزخرف: 57، 58].
[29734]:[الأنبياء: 101].
[29735]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29736]:تقدم قريبا.
[29737]:من قوله تعالى: {والسماء وما بناها} [الشمس: 5].
[29738]:في النسختين: ولا. وهو تحريف.
[29739]:[الكافرون: 2]، ولعله يريد قوله تعالى: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} [الكافرون: 3،5]، فإن (ما) في الآية التي ذكرها على أصلها وهي لغير العاقل، ولورود قوله: {والسماء وما بناها} وقوله: {ولا أنتم عابدون ما أعبد} زعم قوم منهم ابن درستويه، وأبو عبيدة، ومكي، وابن خروف وقوعها على آحاد من يعقل مطلقا. انظر الهمع 1/91.
[29740]:في النسختين: النفي. والصواب ما أثبته.
[29741]:[الأنبياء: 99].
[29742]:[الأنبياء: 101].
[29743]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29744]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29745]:في ب: هل. وهو تحريف.
[29746]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29747]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[29748]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/223-224.
[29749]:نقل ابن عادل هذا الفصل عن الفخر الرازي 22/422.
[29750]:في ب: لم يكن لهم.
[29751]:في ب: بعبادتها.