في نصب " أمَنَةً " أربعة أوجهٍ :
الأول : أنها مفعول " أنْزَلَ " .
الثاني : أنها حال من " نُعَاساً " لأنها في الأصل - صفةٌ ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً .
الثالث : أنها مفعولٌ من أجْله ، وهو فاسدٌ ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل " أنْزَلَ " غير فاعلِ الأمَنَةِ .
الرابع : أنه حالٌ من المخاطبين في " عَلَيْكُمْ " وفيه حينئذٍ - تأويلانِ :
إما على حَذْف مضافٍ - اي ذوي أمَنَةٍ - وإما أن يكون " أمَنَةً " جمع آمن ، نحو بار وبَرَرَة ، وكافر وكَفَرَة .
وأما " نُعَاساً " فإن أعْرَبْنا " أمَنَةً " مفعولاً به كان بدلاً ، وهو بدل اشتمالٍ ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر ، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ ، أو مفعولاً من أجلِهِ ، وهو فاسدٌ ؛ لما تقدم وإن أعربنا " أمَنَةً " حالاً ، كان " نُعَاساً " مفعولاً ب " أنزَلَ " و " أنْزَلَ " عطف على " فأثَابَكُمْ " وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى ، و " أل " في " الْغَمِّ " للعهد ؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون " أمَنَةً " مفعولاً به بما تقدم ، وفيه نظرٌ ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة . فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل " أمَنَةً " فكأنه استشعر السؤال ، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال : إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى ، بمعنى أنهُ أوقعها بهم ، كأنه قيل : أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به .
و " أمَنَةً " كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به .
وقرأ الجمهور : أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن ، أو جمع آمن ، على ما تقدم تفصيله . والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم{[6097]} وهو مصدرٌ فقط ، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ .
في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه لما وعد المؤمنين بالنصر ، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم ؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ .
الثاني : أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ .
ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه ، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عليه .
واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ :
أحدهما : الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين ، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً } وقال في قصة بدرٍ : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] .
وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ ، وعظم خوفُهُمْ .
فإن قيل : لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ ، وأخرها في قصة بدرٍ ؟
فالجوابُ : أنه لما وعدهم بالنصر ، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ .
قوله : { يَغْشَى } قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق ، والباقون بالياء{[6098]} ؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل " امَنَةً " ؛ مراعاة لها ، ولا بُدّ من تفصيل ، وهو إن أعربوا " نُعَاساً " بدلاً ، أو عَطْفَ بيانٍ ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن :
الأول : أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ ، قدِّمت الصفة ، وأخر غيرها ، وهنا قد قدَّموا البدلَ ، أو عطف البيانِ عليها .
الثاني : أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل ، لا عن المبدَل منه ، تقول : هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم " نُعَاساً " بدلاً من " أمَنَةً " يضعف لهذا .
فإن قيل : قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر : [ الكامل ]
وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرَاةِ كَأَنَّهُ *** مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ{[6099]}
فقال : " مُعَيَّنٌ " ؛ مراعاة للهاء في " كأنه " ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر : [ الكامل ]
إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا *** تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ{[6100]}
فقال : تركت ؛ مراعاة للسيوف ، ولو راعَى البدل لقال : تركا .
فالجوابُ : أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن " معين " خبر لِ " حاجبيه " لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ ، وأنَّ نصب " غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا " على الظرف ، لا على البدل . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله : { عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } [ البقرة : 102 ] .
وإن اعربوا " نُعَاساً " مفعولاً من أجله لزم الفصلُ بين الصفة والموصوف بالمفعول لَهُ ، وكذا إن أعربوا " نُعاساً " مفعولاً به و " أمَنَةً " حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر ، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر ، كأنه قيل : ما حكم هذه الأمَنَة ؟ فأخبر بقوله : " تغشى " .
ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على " نُعَاساً " وتكون الجملة صفة له ، و " مِنْكُمْ " متعلق بمحذوف ، صفة لِ " طَائِفَةً " .
قال أبو طلحة : غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه ، ثم يسقط فيأخذه{[6101]} ، وقال ثابتٌ : عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال : رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس{[6102]} .
وقال الزبيرُ : كنت مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين اشتدَّ الخوفُ ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا }{[6103]} .
قال ابنُ مسعودٍ : النُّعَاسُ في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ{[6104]} ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ ، والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى . واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ :
الأولى : أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم ، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو .
الثانية : أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ .
الثالثة : أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم ؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ .
الرابعةُ : أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم ، فبقاؤهم في النوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم ، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم ، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنها واو الحالِ ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال ، والعامل فيها " يَغْشَى " .
الثاني : أنها واو الاستئناف ، وهي التي عبر عنها مَكيٌّ بواو الابتداء .
الثالث : أنها بمعنى " إذْ " ذكره مَكي{[6105]} ، وأبو البقاءِ{[6106]} ، وهو ضعيفٌ .
و " طائفة " مبتدأ ، والخبر { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين : إما للاعتمادِ على واو الحالِ ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره- .
سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا *** مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ{[6107]}
وإما لأن الموضعَ تفصيلٌ ؛ فإن المعنى : يغشى طائفةً ، وطائفة لم يغشهم .
إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ *** بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ{[6108]}
ولو قُرِئ بنصب " طَائِفَة " - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة ، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } كما تقدم .
الثاني : أنه " يَظُنُّونَ " والجملة قبله صفة لِ " طَائِفَة " .
الثالث : أنه محذوفٌ ، أي : ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل ، والجملتان صفة لِ " طَائِفَةٌ " أو يكون " يَظُنُّونَ " حالاً من مفعول " أهَمَّتْهُمْ " أو من " طَائِفَةٌ " لتخصُّصه بالوَصْف ، أو خبراً بعد خبر إن قلنا : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } خبر أول . وفيه من الخلاف ما تقدم .
الرابع : أن الخبر { يَقُولُونَ } والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين ، أو خبرين ، أو إحداهما خبر ، والأخْرَى حالٌ .
ويجوز أن يكون { يَقُولُونَ } صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا : إن الخبرَ هو الجملة التي قبله ، أو قلنا : إن الخبر مُضْمَرٌ .
قوله : { يَظُنُّونَ } له مفعولان ، فقال أبو البقاءِ : { غَيْرَ الْحَقِّ } المفعولُ الأولُ ، أي أمراً غير الحق ، و " باللهِ " هو المفعول الثاني .
وقال الزمخشريُّ : { غَيْرَ الْحَقِّ } في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به . و{ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } بدل منه .
ويجوز أن يكون المعنى : يظنون بالله ظن الجاهلية و{ غَيْرَ الْحَقِّ } تأكيداً لِ { يَظُنُّونَ } كقولك : هذا القول غير ما يقول .
فعلى ما قال لا يتعدى " ظن " إلى مفعولين ، بل تكون الباء ظرفية ، كقولك : ظننت بزيد ، أي : جعلته مكان ظني ، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر : [ الطويل ]
فَقُلْتُ لَهُمْ : ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ{[6109]}
أي قلتُ لهم : اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ .
ويحصل في نصب { غَيْرَ الْحَقِّ } وجهان :
أحدهما : أنه مفعول أول لِ " يَظُنُّونَ " .
والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ .
وفي نصب { ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } وجهان - أيضاً - : البدل من { غَيْرَ الْحَقِّ } أو أنه مصدر مؤكِّد لِ { يَظُنُّونَ } .
و " بالله " إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً ، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية ، قال الزمخشريُّ : " كقولك : حاتم الجود ، ورجل صدقٍ ، يريد : الظنَّ المختص بالملة الجاهلية ، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية " .
وقال غيره : المعنى : المدة الجاهلية ، أي : القديمة قبل الإسلامِ ، نحو : { حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } [ الفتح : 26 ] .
هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم ، يقال : همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه ، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه ، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها ، فهذا هو المرادُ من قوله : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ :
أحدهما - وهو الأظهرُ - : أنهم كانوا يقولون في أنفسهم : لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريدُ ، لا اعتراض عليه .
وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ ، فلا يبعد أن يكون لِلَّهِ حكمٌ خفيَّةٌ ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم ، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء ، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول .
قال القفال : لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا ، وذلك ينافي التكليفَ ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات ، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ .
الاحتمالُ الثاني : أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ .
وقيل : ظنوا أن محمداً قد قُتِل . و{ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } بدل من قوله : { غَيْرَ الْحَقِّ } وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية ، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً ، وهو ظنُّ أهل الجاهلية .
قوله : { يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } " من " - في { مِن شَيْءٍ } - زائدة في المبتدأ ، وفي الخبر وجهانِ :
أحدهما - وهو الأصحُّ - : أنه " لَنَا " فيكون { مِنَ الأَمْرِ } في محل نصبٍ على الحالِ من " شَيءٍ " لأنه نعتُ نكرة ، قدم عليها ، فنصب حالاً ، وتعلق بمحذوفٍ .
الثاني : - أجازه أبو البقاء - أن يكون { مِنَ الأَمْرِ } هو الخبر ، و " لنا " تبيين ، وبه تتم الفائدةُ كقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] .
وهذا ليس بشيء ؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ ، وإذا كان كذلك فيصير " لَنَا " من جملة أخرى ، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ ، وليس نظيراً لقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] فإن " لَهُ " فيها متعلق بنفس " كُفُواً " لا بمحذوفٍ ، وهو نظيرُ قولكَ : لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ . ف " لبكر " متعلق بنفس الخبر . وهل هنا الاستفهام عن حقيقته ، أم لا ؟ فيه وجهانِ :
أظهرهما : نَعَمْ ، ويعنون بالأمر : النصر والغلبة .
والثاني : أنه بمعنى النفي ، كأنهم قالوا : ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء ، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ .
ولكن يضعف هذا بقوله : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره ؛ لأنه يُقِرُّ بذلك ، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة ، فكأنَّهم قالوا : ليس لنا من الأمر شيءٌ ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه ، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } لقولهم هذا ، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله : " وطائفة " فإن قوله : { يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم } وكذا { يَقُولُونَ } - الثانية - إما خبر عن " طَائِفَةٌ " أو حال مما قبلها .
اعلم أنَّ قولَهُ : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون ، وهي تحتمل وجوهاً :
الأول : أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا يخرج من المدينةِ ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج إليهم ، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك ، فقال : عصاني وأطاع الوِلْدان ، فلما كثر القتل في بني الخزرج ، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له : قُتِل بنو الخَزرج ! ! فقال : " هل لنا من الأمر من شيء " ؟ يعني : أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من " المدينة " .
والمعنى : هل لنا أمرٌ يُطاع ؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار .
الثاني : ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي ، أي : هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صلى الله عليه وسلم وهو النصر والقوة - شيء ؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار .
الثالث : أن التقدير : أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء ؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين ، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة ، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة ؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله : { يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } .
وقوله : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } قرأ أبو عمرو " كُلُّهُ " - رفعاً{[6110]} - وفيه وجهان :
الأول : - وهو الأشهر - أنه رفع بالابتداء ، و " لله " خبره والجملة خبر " إنَّ " نحو : إن مال زيد كله عنده .
الثاني : أنه توكيد على المحل ، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء ، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي ، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق ، فيكون " للهِ " خبراً لِ " إنَّ " أيضاً .
وقرأ الباقون بالنصب ، فيكون تأكيداً لاسم " إنَّ " وحَكَى مكي{[6111]} عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و " للهِ " خبر " إنَّ " .
وقيل على النعت ؛ لأنَّ لفظة " كُلّ " للتأكيد ، فكانت كلفظة " أجمع " .
هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره ؛ لأن المنافقين قالوا : إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَا ونُصْحَنا ، لما وقع في هذه المِحْنةِ ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ ، وهذا [ الجواب ] {[6112]} إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين .
قوله : { يُخْفُونَ } إما خبر لِ { طَآئِفَةً } وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله : { يَقُولُونَ } يحتمل هذينِ الوجهينِ ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : { يُخْفُونَ } فلا محلَّ له حينئذٍ .
قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } كقوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } وقد عرف الصحيح من الوجهين .
وقوله : { ما قُتِلْنا هَهُنا } جواب " لَوْ " وجاء على الأفصح ، فإن جوابها إذا كان منفياً ب " ما " فالأكثر عدم اللام ، وفي الإيجاب بالعكس ، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله : " وطائفة " إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال : " فإن قُلتَ : كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله : " وطائفة " .
قُلْتُ : { قَدْ أَهَمَّتْهُمْ } صفة ل { طَآئِفَةٌ } و{ يَظُنُّونَ } صفة أخرى ، أو حالٌ ، بمعنى : قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين ، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و{ يَقُولُونَ } بدلٌ من { يَظُنُّونَ } .
فإن قلتَ : كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ ؟
قلتُ : كانت مسألتهم صادرة عن الظن ، فلذلك جاز إبداله منه ، و{ يُخْفُونَ } حال من { يَقُولُونَ } و{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ ، و{ يَقُولُونَ } بدلٌ من { يُخْفُونَ } والأجود أن يكون استئنافاً " . انتهى .
وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، كما تقدم تقريره في قوله : { وَطَآئِفَةٌ } أي : ومنكم طائفةٌ ، فإنه موضعُ تفصيلٍ .
فإن قيل : ما الفرق بين قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } وبين قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } وقد أجاب عن الأول بقوله : { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } وأجاب ههنا بغير ذلك ؟ فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ ، وما قُتِلْنَا هاهنا ، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ : الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ ، والمعتزلي يقول : ليس الأمر كذلك ؛ فإن الإنسانَ مختارٌ ، ومستقلٌّ بالفعل ، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر ، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها ، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى .
الثاني : أن المراد من قوله : { هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ } أي : هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صلى الله عليه وسلم شيء ؟ ويكون المراد من قوله : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هَهُنا } هو ما كان يقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن " المدينة " ، وما قُتِلْنا ههنا .
واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [ الشُّبْهَةَ ] {[6113]} من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : قوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } ومعناه : أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل ، فلو لم يُقْتَلْ ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً .
وقال المفسِّرون : لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم ، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل : تقديرُ الكلام : كأنه قيل للمنافقين : لو جلستم في بيوتكم ، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم ، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم .
قوله : { لَبَرَزَ } جاء على الأفصح ، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب " لو " مثبتاً . وقراءة الجمهور { لَبَرَزَ } مخفَّفاً مبنياً للفاعل ، وقرأ أبو حَيْوَة " لَبُرِّزَ " مشدَّداً ، مبنيًّا للمفعول{[6114]} ، عدَّاه بالتضعيف . وقرئ " كَتَبَ " مبنياً للفاعل{[6115]} ، و " القَتْلَ " مفعول به .
وقرأ الحسنُ : { كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتالُ } رَفعاً{[6116]} .
الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : " وليبتلي " فيه خمسة أوجُهٍ :
فقيل : إنه متعلق بفعل قبله ، وتقديره : فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ ، ليبتلي ما في صدوركم ، أي : ضمائركم .
وقيل : بفعل بعده ، أي : ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء .
وقيل : الواو زائدة ، واللام متعلقة بما قبلها .
وقيل : " وليبتلي " عطف على " ليبتلي " الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام ، فعطف عليه { وَلِيُمَحِّصَ } قاله ابنُ بحرٍ .
وقيل : هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره : ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي .
الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله : { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات ، وتطهرها .
الثاني : أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم ، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات .
فإن قيل : قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } [ آل عمران : 152 ] فلم أعادَه ؟
فالجواب : أنه أعادهُ ؛ لطول الكلام بينهما ، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين ، والابتلاء الثاني سائر الأحوال .
فإن قيل : قوله : { وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } المرادُ منه القلب ؛ لقوله : { الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق ؟
فالجوابُ : أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما . ثم قال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : الأسرار والضمائر ؛ لأنها حالَّةٌ فيها ، مصاحبة لها ، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية .