وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيِّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار ، بقولهم : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد ، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع ، وعفا اللَّهُ بفضله عنهم ، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين ، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ ، فقال : لا تقولوا - لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد - : لو لم تخرجوا لما متم ، وما قُتِلْتم ، فإن الله هو المُحْيي والمميت ، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد ، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد ، وهو المراد بقوله : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد ، لو لم يخرج إلى الجهاد ، لكان يموت لا محالة ، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد - حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ - خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة ، وهو المرادُ بقوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .
واختلفوا في { الَّذِينَ كَفَرُواْ } فقيل : هل هو كافر يقول هكذا .
وقيل : إنه مخصوصٌ بالمنافقين ؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم .
وقيل : مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن سلول ومعتب بن قُشَير{[6120]} ، وسائر أصحابهما .
قوله : { لإِخْوَانِهِمْ } قال الزمخشريُّ : " لأجل إخوانكم " . وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل أن يكونَ المراد منه الأخوة في النسب ، كقوله تعالى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين ، فقال المنافقون هذا الكلام ويحتمل أن يكون المرادُ : الأخوة في الدين ، فقال المنافقونَ هذا الكلام ، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات .
قوله : { إِذَا ضَرَبُواْ } " إذا " ظرف مستقبل ، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين - هنا - من حيثُ إن العامل فيها { قَالُواْ } - وهو ماضٍ - فقال الزمخشريُّ : " فإن قُلْتَ : كيف قيل : { إِذَا ضَرَبُواْ } مع " قالوا " ؟ قلت : هو حكاية حال ماضية ، كقولك : حين يضربون في الأرض " .
وقال أبو البقاء{[6121]} بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ : " ويجوز أن يكون { كَفَرُواْ } و { قَالُواْ } ماضيين ، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير : يكفرون ، ويقولون لإخوانهم " . انتهى .
ففي كلا الوجهين حكاية حال ، لكن في الأول حكاية حال ماضية ، وفي الثاني مستقبلة ، وهو - من هذه الحيثية - كقوله تعالى : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } [ البقرة : 214 ] . ويجوز أن يراد بها الاستقبال ، لا على سبيل الحكاية ، بل لوقوعه صلة لموصول ، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي - إذا وقع صلة لموصول - صلح للاستقبال ، كقوله : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ }
[ المائدة : 34 ] . وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ ، وقال : " دخلت " إذا " وهي حرفُ استقبالٍ - من حيثُ " الذين " اسم فيه إبهام ، يعم مَنْ قال في الماضي ، ومَنْ يقول في الاستقبال ، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان " يعني : فتكون حكاية حالٍ مستقبلة .
قال ابن الخَطيبِ : " إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين :
إحداهما : أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل ، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث ، أو هو حادث ، قال تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [ النحل : 1 ] وقال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ } [ الزمر : 30 ] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى ، فلما وقع التعبير عنه بلفظ الماضي ، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية ، فصار بسبب ذلك الجد ، هذا المستقبل كالواقع .
الثانية : أنه - تعالى - لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام ، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ " .
وقدَّر أبو حيّان{[6122]} : مضافاً محذوفاً وهو عامل في " إذا " تقديره : وقالوا لهلاك إخوانهم ، أي : مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا ، أو غَزَوْا ، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِ " أن " والمضارع ، حتى يكون مستقبلاً ، قال : لكن يكون الضمير في قوله : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } عائداً على { لإِخْوَانِهِمْ } لفظاً ، وعلى غيرهم معنى - أي : يعود على إخوان آخرين ، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ ، أو غزو ، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين - وهو مثل قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } [ فاطر : 11 ] وقول العربِ : عندي درهم ونِصْفُه .
قَالَتْ : ألاَ لَيْتَما هَذَا الْحَمَامُ لَنَا *** إلَى حَمَامَتِنَا ، أو نِصْفُهُ فَقَدِ{[6123]}
المعنى : من معمر آخر ، ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخرَ .
وقال قُطربٌ : كلة " إذْ " و " إذا " يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى ، فيكون " إذا " هنا بمعنى " إذْ " .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : " أقول : هذا - الذي قاله قُطْرُبٌ - كلامٌ حسنٌ ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ ، فنقول عن قائل مجهول ، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : " إذا " حقيقة في المستقبل ، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ ، لما بينه وبين كلمة " إذْ " من المشابهة الشديدة ، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن ، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به ، وأنا شديدُ التعجُّب منهم ؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ ذلك البيت المجهول دليلاً على صحته ، فلأن يجعلوا ورود القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى " .
قوله : { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } - بالتشديد - جمع غازٍ - كالرُّكَّع والسُّجَّد - جمع راكع وساجد - وقياسه : غُزَاة كرام ورُمَاة - ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح ، في نحو ضارب وضُرَّب ، وصائم وصُوَّم .
وقال الزهريُّ والحسنُ " غُزًى " {[6124]} - بالتخفيف - وفيها وجهانِ :
الأول : أنه خفف الزاي ، كراهية التثقيل في الجمع .
الثاني : أن أصله : غُزاة - كقُضاة ورُماة - ولكنه حذف تاء التأنيث ؛ لأن نفس الصيغة دالَّةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها .
قال ابنُ عَطِيَّةَ : " وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم .
ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي : [ الطويل ]
أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ ، وَانْتَحَى *** بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ{[6125]}
يريد : الأبُوَّة - جمع أب - كما أن العمومة جمع عم ، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا : ابن ، وبنو " .
ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير ، وأن قوله : حذف التاء من عمومة ، ليس كذلك ، بل الأصل : عموم - من غير تاء - ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع ، فما جاء على " فعول " - من غير تاء - هو الأصل ، نحو : عموم وفحول ، وما جاء فيه التاء ، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع ، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء ، حتى يُدَّعَى حَذْفُها ، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه ؛ فإنه بني عليها ، فيمكن ادعاء الحذف فيه ، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن ، بل مصدرين ، وأما أبُوّ - في البيت - فهو شاذَّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه ، فيقول : " أبَيّ " بقلب الواوين ياءين ، نحو : عُصِيّ ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً ، وهو شاذ .
فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير : غُزَاة كقُضاة ، وغُزًى كصوَّم ، وغُزَّاء كصُوَّام ، وجمع رابع ، وهو جمع سلامة ، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول .
قال القرطبيُّ : " والمغزية : المرأة التي غزا زوجها ، وأتانٌ مُغْزِية : متأخِّرةُ النِّتَاجِ ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها ، والغَزْو : قصد الشيء ، والمَغْزَى : المَقْصِد ، ويقال : - في النسب إلى الغزو : غَزَوِيّ " .
قال الواحديُّ : " في الآية محذوف ، يدل عليه الكلام ، والتقدير : { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ } فماتوا { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } فقتلوا ، { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } فقوله : { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } يدل على قتلهم وموتهم " .
المراد بالضَّرْبِ : السفر البعيد{[6126]} ، وقوله : " غُزًّى " هم الغُزَاة الخارجون للجهاد ، فكان المنافقونَ يقولون - إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو - : إنما ماتوا ، أو قتلوا بسبب السفر والغزو ، وقصدهم بذلك تنفير الناس .
فإن قيل : لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض - وهو داخل فيه ؟
فالجوابُ : أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد ، لا القريب ، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض ، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده ، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض .
قوله : { لِيَجْعَلَ اللَّهُ } في هذه اللام قولان :
وقيل : إنها لام العاقبة والصيرورة ، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ :
فقيل : التقدير : أوقع ذلك - أي : القول ، أو المعتقد - ليجعله حَسْرَةً ، أو ندمَهم ، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي ، وذلك على معنيين - باعتبار ما يراد باسم الإشارة .
أما الاعتبار الأول ، فإنه قال : " يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله اللَّهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً ، ويصون منها قلوبكم " ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد .
وأما الاعتبار الثاني فإنه قال : " ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ ، أي : لا تكونوا مثلهم ؛ ليجعلَ اللَّهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم ؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم " .
وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو ، فقال - بعد ما حكى عنه المعنى الأول - : " وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي ، وهو انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون ، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه ، فلا تضربوا في الأرض ولا تغزو ، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ " .
قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم ، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه ؟
وقال أبو حَيَّانَ - أيضاً - : " وقال ابنُ عِيسَى وغيره : اللامُ متعلِّقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم ، ومنه أخذ الزمخشريُّ قوله ، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص ، وقد بينَّا فساد هذا القولِ " .
وقوله : وذاك لم ينص ، بل قد نَصَّ ، فإنه قال : فإن قُلْتَ : ما متعلق { لِيَجْعَلَ } ؟ قلت : { قَالُواْ } أو { لاَ تَكُونُواْ } . وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا ؟ ولا يجوز تعلق اللام - ومعناها التعليل - ب { قَالُواْ } لفساد المعنى ؛ لأنهم لم يقولوه لذلك ، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد .
وعلى القول الثاني - أعني : كونها للعاقبة تتعلق ب { قَالُواْ } والمعنى : أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم ، فكان عاقبة قولهم ، ومصيره إلى الحسرة ، والندامة ، كقوله تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] وهم لم يلتقطوه لذلك ، ولكن كان مآله لذلك . ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين ، وإنما هو شيءٌ ينسبونه للأخفش ، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام ، نحو :
{ فَبَشِّرْهُم } [ آل عمران : 21 ] وهذا رأي الزمخشري ؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في
{ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ومذهبه في تلك أنها للعلة - بالتأويل المذكور والجَعْلُ - هنا - بمعنى التَّصْييرِ .
اختلفوا في المشار إليه ب " ذَلِكَ " : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا .
وقال الزمخشريُّ ما معناه : الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول .
وقريب منه قول ابن عطيةَ : " الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم " .
وقال ابنُ عَطِيَّة - أيضاً - : " ويحتمل عندي - أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله " .
وقيل : هو المصدر المفهوم من { قَالُواْ } ، و { حَسْرَةً } مفعول ثانٍ ، و { فِي قُلُوبِهِمْ } يجوز أن يتعلق بالجَعْل - وهو أبلغ - أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله .
ذكروا - في بيان كون ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم - وجوهاً :
الأول : أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم ؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر ، او الغزو ، لبقي ، فذلك الشخص إنما مات ، أو قُتِل بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه ، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه ، أو قتله ، ومتى اعتقد في نفسه ذلك ، فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه ، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللَّهِ وقضائه ، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة ألبتة .
الثاني : أن المنافقين إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم ، تثبطوا ، وتخلَّفوا عن الجهاد ، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد ، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، والفوز بالأماني ، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد ، والحَسرة .
الثالث : أن هذه الحسرة ، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين ، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات ، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب .
الرابع : أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين ، ووجدوا منهم قبولاً لها ، فرحوا بذلك ؛ لرواج كيدهم ، ومكرهم على الضَّعَفَة ، فالله - تعالى - يقول : إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل .
الخامس : أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم ، فيقعون عند ذلك في الحسرة ، والخيبة ، وضيق الصدر ، وهو المراد بقوله تعالى :
{ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } [ الأنعام : 25 ] .
السادس : أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء ، لم يلتفتوا إليهم ، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم ، فتحصل الحسرةُ في قلوبهم .
قوله : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } فيه وجهان :
الأول : أن المقصودَ منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين ، وتقريره : إن المحيي والمميت هو اللَّهُ تعالى ، ولا تأثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ ، وأن علمَ اللَّهِ لا يتغير ، وأن حُكْمَه لا ينقلب ، وأن قضاءه لا يتبدَّل ، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت ؟
فإن قيل : أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللَّهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت ، فكذا القول بأن قضاءَ اللَّهِ يتبدَّل ، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة ، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ .
والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكليف ، وإذا كان كذلك ، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه .
فالجوابُ : أن حُسْنَ التكليف - عندنا - غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [ مصلحة ]{[6127]} ، بل اللَّهُ يفعل ما يشاءُ ، ويحكمُ ما يريد .
الثاني : أن [ المقصود ]{[6128]} بقوله : { وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } أنه يُحْيي قُلوبَ أوليائه وأهل طاعته بالنور والفرقان ، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال .
قوله : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي " يعملون " بالغيبة{[6129]} ؛ رَدَّا على { الَّذِينَ كَفَرُواْ } والباقون بالخطاب ؛ ردَّا على قوله : و { لاَ تَكُونُواْ } وهو خطابٌ للمؤمنينَ .
فإن قيل : الصادر منهم كان قولاً مسموعاً ، لا فعلاً مَرْئِيًّا ، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع ؟
فالجوابُ : قال الراغبُ : لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، خص البصر بذلك ، كقولك - لمن يقول شيئاً ، وهو يقصد فعلاً يحاوله - : أنا أرى ما تفعله .