اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

إنما ثُنّي " الْجَمْعَان " - وإن كان اسم جمع - وقد نَصَّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع ؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين ، فلما أريد به ذلك ثُنِّي ، كقوله : [ الطويل ]

وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا *** تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ{[6117]}

فصل

{ تَوَلَّوْاْ } انهزموا { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين ، ولم يَبْقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً ، ستةٌ من المهاجرين : أبُو بَكْرٍ ، وأبو عُبَيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ ، وطَلْحَة ، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ ، وسعد بن أبي وَقَّاصٍ - وسبعة من الأنصار - حباب بن المنذر وأبو دُجَانَة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصِّمَّة ، وسهل بن حُنَيْف ، وأسَيْد بن حُضَيْر ، وسعد بن مُعَاذٍ{[6118]}- وقيل : أرْبَعَةَ عشَرَ ؛ سبعةٌ من المهاجرين ، فذكر الزبير بن العوّام معهم ، وسبعةٌ من الأنصار .

وقيل : إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت : ثلاثة من المهاجرين : طلحة ، والزبير ، وعلي ، وخمسة من الأنصار : أبو دُجَانة ، والحارث بن الصِّمَّة ، وحباب بن المُنْذِرِ ، وعاصم بن ثابتٍ ، وسهل بن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد .

ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثينَ ، كلهم يجيء ، ويَجْثو بين يديه ، ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ .

قوله : { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ } السين في { اسْتَزَلَّهُمُ } للطلب ، والظاهر أن استفعل ها هنا - بمعنى أفْعَل ؛ لأن القصة تدلُّ عليه ، فالمعنى : حَمَلَه على الزلة ، فيكون ك " اسْتَلَّ " و " أبَلَّ " . و " أزَلَّ " واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ ، قال تعالى :

{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ } [ البقرة : 36 ] .

وقال ابن قتيبةَ : { اسْتَزَلَّهُمُ } طلب زلَّتَهُمْ ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله .

فصل

قال الكعبيُّ : الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله ؛ فإنه -تعالى- نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ ، فهو كقوله تعالى - حكاية عن موسى - : { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ }

[ القصص : 15 ] وكقوله - حكاية عن يُوسفَ - : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [ يوسف : 100 ] وقوله - حكاية عن صاحب موسى - : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .

قوله : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } فيه وجهانِ :

الأول : أن الباء للإلصاق ، كقولك : كتبت بالقَلَم ، وقطعت بالسِّكِّين ، والمعنى : أنه قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطتها قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير اختلفوا :

فقال الزَّجَّاجُ : إنهم لم يتولَّوْا عناداً ، ولا فراراً من الزَّحْف ، رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً - كانت لهم - فكرهوا البقاء إلا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا .

وقيل : لما أذنبوا - بمفارقة المركز ، أو برغبتهم في الغنيمة ، أو بفشلهم عن الجهاد - أزلَّهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ ، وأوقعهم في الهزيمة .

الثاني : أن تكونَ الباء للتبعيض ، والمعنى : أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم .

قوله : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }

[ النساء : 48 ] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز .

قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر ، جاء العفو عنه من غير توبةٍ ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبة - وإن كان ذلك غير مذكور في الآية .

قال القاضي : والأقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر ، لوجهين :

أحدهما : أنه لا يكاد - في الكبائر - يقال : [ إنها زَلَّة ]{[6119]} ، إنما يقال ذلك في الصغائر .

الثاني : أن القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين ، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم -انقلبوا عنه ، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً .

قال ابنُ الخَطِيبِ : وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها ، وقد بينَّا كونها من الكبائر ، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز ، سواء كانت الغلبة لهم ، أو عليهم .

ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي { غَفُورٌ } لمن تاب ، { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة ، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب أن يعفو عنه - على قول المعتزلة - ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به ؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه ، وغفر له .


[6117]:البيت للفرزدق ينظر ديوانه 2/329، وخزانة الأدب 7/572، 573، 579، والدرر 5/132، وشرح شواهد المغني 2/536، ولسان العرب (يدي)، ومغني اللبيب 1/196، والدر المصون 2/240.
[6118]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/157) وعزاه لابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
[6119]:في أ: عفا الله عنهم.