إنما ثُنّي " الْجَمْعَان " - وإن كان اسم جمع - وقد نَصَّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع ؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين ، فلما أريد به ذلك ثُنِّي ، كقوله : [ الطويل ]
وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا *** تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ{[6117]}
{ تَوَلَّوْاْ } انهزموا { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين ، ولم يَبْقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً ، ستةٌ من المهاجرين : أبُو بَكْرٍ ، وأبو عُبَيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ ، وطَلْحَة ، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ ، وسعد بن أبي وَقَّاصٍ - وسبعة من الأنصار - حباب بن المنذر وأبو دُجَانَة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصِّمَّة ، وسهل بن حُنَيْف ، وأسَيْد بن حُضَيْر ، وسعد بن مُعَاذٍ{[6118]}- وقيل : أرْبَعَةَ عشَرَ ؛ سبعةٌ من المهاجرين ، فذكر الزبير بن العوّام معهم ، وسبعةٌ من الأنصار .
وقيل : إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت : ثلاثة من المهاجرين : طلحة ، والزبير ، وعلي ، وخمسة من الأنصار : أبو دُجَانة ، والحارث بن الصِّمَّة ، وحباب بن المُنْذِرِ ، وعاصم بن ثابتٍ ، وسهل بن حنيف ، ثم لم يقتل منهم أحد .
ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثينَ ، كلهم يجيء ، ويَجْثو بين يديه ، ويقول : وجهي لوجهك الفداء ، ونفسي لنفسك الفداء ، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ .
قوله : { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ } السين في { اسْتَزَلَّهُمُ } للطلب ، والظاهر أن استفعل ها هنا - بمعنى أفْعَل ؛ لأن القصة تدلُّ عليه ، فالمعنى : حَمَلَه على الزلة ، فيكون ك " اسْتَلَّ " و " أبَلَّ " . و " أزَلَّ " واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ ، قال تعالى :
{ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ } [ البقرة : 36 ] .
وقال ابن قتيبةَ : { اسْتَزَلَّهُمُ } طلب زلَّتَهُمْ ، كما يقال : استعجلته : أي : طلبت عجلته ، واستعملته طلبت عمله .
قال الكعبيُّ : الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله ؛ فإنه -تعالى- نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ ، فهو كقوله تعالى - حكاية عن موسى - : { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ }
[ القصص : 15 ] وكقوله - حكاية عن يُوسفَ - : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [ يوسف : 100 ] وقوله - حكاية عن صاحب موسى - : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] .
قوله : { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } فيه وجهانِ :
الأول : أن الباء للإلصاق ، كقولك : كتبت بالقَلَم ، وقطعت بالسِّكِّين ، والمعنى : أنه قد صدرت عنهم جنايات ، فبواسطتها قدر الشيطان على استزلالهم ، وعلى هذا التقدير اختلفوا :
فقال الزَّجَّاجُ : إنهم لم يتولَّوْا عناداً ، ولا فراراً من الزَّحْف ، رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً - كانت لهم - فكرهوا البقاء إلا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا .
وقيل : لما أذنبوا - بمفارقة المركز ، أو برغبتهم في الغنيمة ، أو بفشلهم عن الجهاد - أزلَّهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ ، وأوقعهم في الهزيمة .
الثاني : أن تكونَ الباء للتبعيض ، والمعنى : أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم .
قوله : { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز ؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }
[ النساء : 48 ] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز .
قالت المعتزلة : ذلك الذنب إن كان من الصغائر ، جاء العفو عنه من غير توبةٍ ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبة - وإن كان ذلك غير مذكور في الآية .
قال القاضي : والأقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر ، لوجهين :
أحدهما : أنه لا يكاد - في الكبائر - يقال : [ إنها زَلَّة ]{[6119]} ، إنما يقال ذلك في الصغائر .
الثاني : أن القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين ، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم -انقلبوا عنه ، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة ، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً .
قال ابنُ الخَطِيبِ : وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها ، وقد بينَّا كونها من الكبائر ، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز ، سواء كانت الغلبة لهم ، أو عليهم .
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي { غَفُورٌ } لمن تاب ، { حَلِيمٌ } لا يعجل بالعقوبة ، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر ؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب أن يعفو عنه - على قول المعتزلة - ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به ؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه ، وغفر له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.