وهي مائة وست وتسعون آية ، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة ، وستة عشر ألفا وثلاثة وثلاثون حرفا .
قال القرطبي{[1]} : هذه السورة مدنية إلا آية واحدة منها [ وهي ] قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] فإنها نزلت ب " مكة " عام الفتح ، وفي عثمان بن طلحة على ما سيأتي بيانه .
قال النقاش{[2]} : وقيل : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة .
وقيل : إن قوله تعالى : { يا أيها الناس } حيث وقع في القرآن إنما هو مكي .
قاله علقمة وغيره : " فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني " .
وقال النحاس : " هذه السورة مكية " .
وقال القرطبي{[3]} : والصحيح الأول .
قال في " صحيح البخاري " : " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم " {[4]} ، تعني قد بنى بها ، ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة ، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها ، وأما من قال : { يا أيها الناس } [ مكي ]{[5]} حيث وقع ، فليس بصحيح .
قال{[6]} : البقرة مدنية ، وفيها { يا أيها الناس } مرتين في موضعين .
قال بعض المفسرين : " ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام ، ذكر فيها أحكاماً كثيرة ، وبذلك ختمها ، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع ، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير " .
روى الواحدي{[6335]} عن ابن عباس في قوله : { يأَيُّهَا النَّاسُ } أن هذا الخطاب لأهل مكة{[6336]} .
وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين ، وهذا هو الأصحُّ ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق ، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ{[6337]} لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين .
وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام ، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً ، والأمر بالتقوى عاماً ، وعلة هذا التكليف عامةً ، فلا وجه للتخصيص ، وحجة ابن عباس أن قوله : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] مختص{[6338]} بالعرب ؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم ، فيقولون : " أسألك بالله وبالرحم ، أنشدك الله والرحم " ، وإذا كان كذلك ، كان قوله : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] مختصاً بالعرب ، فيكون قوله : { يأَيُّهَا النَّاسُ } مختصاً بهم ، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد .
ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية{[6339]} .
اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن :
أحدهما : هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن ، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته .
والثانية : سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد .
فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وهذا سر عظيم{[6340]} .
{ مِّن نَّفْسٍ } متعلق ب " خلقكم " فهو في محل نصب ، و " من " لابتداء الغاية ، وكذلك " منها زوجها وبتَّ منهما " والجمهور على واحدة بتاء التأنيث{[6341]} ، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [ هاهنا ]{[6342]} آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } [ الكهف : 74 ] .
وابن أبي عبلة{[6343]} واحدٍ من غير [ تاء ]{[6344]} تأنيث وله وجهان :
أحدهما : مراعاة المعنى{[6345]} ؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام .
والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث . وعليه قوله : [ الوافر ]
ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ *** لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي{[6346]}
قوله : { وَخَلَقَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطفٌ على معنى " واحدة " لما فيه من معنى الفعل ، كأنه قيل : " من نفس وحدت " أي : انفردت ، يُقال : " رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة " انفرد .
الثاني : أنه عَطْفٌ على محذوف .
قال الزَّمَخْشرِيُّ{[6347]} : " كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها " بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها ، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي ؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح .
الثالث : أنه عطف على " خَلْقَكُمْ " ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً ؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رحمه الله تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [ للمؤمنين ]{[6348]} في { يأَيُّهَا النَّاسُ } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : والثاني أنه يُعْطَفُ على " خلقكم " ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم ؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [ منه ]{[6349]} وخلق منها أُمَّكم حواء .
فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر ، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في " منها " أي : " مِنْ جِنْسِها زوجَها " ، وهو قول أبي مسلم{[6350]} ، قال : وهو كقوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] وقال { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 164 ] وقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [ التوبة : 28 ] .
قال : وحواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم{[6351]} .
قال الْقَاضِي{[6352]} : والأول أقوى لقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } .
قال ابن الخَطِيبُ : " يمكن أن يجاب بأن كلمة " مِن " لابتداء الغاية ، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب ، [ كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب ]{[6353]} ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه " .
وقرئ " وخالِقُ وباثٌّ " {[6354]} بلفظ اسم الفاعل ، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهو خالِقٌ وباثٌّ .
وَيُقَالُ : بَثَّ وأبَثَّ ومعناه " فَرَّقَ " ثلاثياً ورباعياً{[6355]} .
قال ابن المظفر{[6356]} : " البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء " .
يقال : بَثَّ الخيلَ في الغارة ، وبَثَّ الصيَّادُ كِلاَبَهُ ، وخلق الله الخلق : بَثَّهُمْ في الأرض ، وبثثت البسطة إذا نشرتها . قال تعالى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] .
فإن قيل : ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف ؟ فالجواب : لما ذكر أنَّهُ خَلَقَنَا من نفس واحدة ، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه ؛ لأنا عبيده وهو مولانا ، ويجب على العبد الانقياد لمولاه ؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان ، فأوجد وَأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى ، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعم بأنواع الخضوع والانقياد ؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وَرَبًّا يجبُ علينا عبادته ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً ؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب ، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ، فكيف وهذا محال ؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها ، والداعية إليها [ ومتى حصلت القدرة والداعي كان ] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة ، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر .
وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمال القدرة ؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله{[6357]} ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان ، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ ، يجب الانقياد لتكاليفه ؛ ولأن اللَّه تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسانِ إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [ وذلك لأن الأقارب لا بد أن ]{[6358]} يكون بينهم مواصلة وقرابة ، وذلك يزيد في المحبة ، ولذلك يفرح الإنسان بمدح{[6359]} أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم{[6360]} ، فقال : { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ليؤكد شفقة بعضنا على بعض .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ .
فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما ، وذلك محال ، فلهذا عدل إلى قوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً } .
وقوله : " كثيراً " فيه وجهان{[6361]} :
أظهرهما : أنه نَعْتٌ ل " رِجَالاً " .
قال أبو البقاء{[6362]} : ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى ؛ لأن " رجالاً " بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ المؤنثِ لقوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ }
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهم بثاً كثيراً ؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه{[6363]} في مثله النصبُ على الحالِ .
فإن قيل : لم خَصَّ الرِّجَالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء ؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساءً كثيرة .
والثاني : أنَّ الرِّجال لشهرتهم [ وبروزهم ]{[6364]} يُنَاسِبُهم ذلك بخلافِ النِّسَاء ، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء .
قوله : { تَسَاءَلُونَ } قرأ الكوفيون{[6365]} " تَسَاءَلُونَ " بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، والأصل : " تتساءلون " به ، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين ؛ لأن مقاربتها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين ، قالوا : " ست " والأصل " سِدْسٌ " وقرأ{[6366]} عبد الله : " تَسْألون " من سأل الثلاثي ، وقُرِئَ " تَسَلون " {[6367]} بنقل حركة الهمزة على السين ، و " تَسَاءلون " على التفاعل فيه وجهان :
أحدهما : المشاركة{[6368]} في السؤال .
والثاني : أنه بمعنى فَعَلَ ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله .
قال أبُو البَقَاءِ{[6369]} : " وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول ؛ لأن المعنى : " تتحالفون " يعني أن الأصل تعدية " تسألون " إلى الضمير بنفسه ، فلما ضُمِّن " تتحالفون " عُدِّي تَعْدِيَتَه " .
قوله : { وَالأَرْحَامَ } الجمهور نصبوا الميم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها ، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً أي : قَطْعَ الأرحام .
ويقال : إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ على العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله ؛ اتقوا مخالَفَتَه ، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيها ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج{[6370]} .
قال الواحدي{[6371]} : ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء ، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسدَ الأسدَ ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطيعةِ الرحم ووجوب صلتها .
والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في " به " ، نحو : مررت بزيد وعمراً ، ولمَّا لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع ، وهذا يؤيده قراءة{[6372]} عبد الله " وبالأرحام " .
وقال أبو البقاء{[6373]} : تُعَظِّمُونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له .
وقرأ حمزة{[6374]} " والأرحامِ " بالجر ، قال القفال{[6375]} : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره ، وفيها قولان :
أحدهما : أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في " به " من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون{[6376]} ، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك ، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاج كل فريق في قوله تعالى :
{ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ البقرة : 217 ] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة ، كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي{[6377]} مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم ، قال : { وَالأَرْحَامَ } بخفض [ الأرحام ] هو كقولهم : " أسألك باللَّهِ والرحمِ " قال : وهذا قبيح ؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على المضمر ، وهو لا يجوز{[6378]} .
قال ابن عيس{[6379]} : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع ، فلا يجوز أن يقال : " اذهب وزيد " و " ذهبت وزيد " ، بل يقولون : اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد ، قال تعالى : { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } [ المائدة : 24 ] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المرفوع مع أنه أقوى من المضمر المجرور ، بسبب أنه قد ينفصل ؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور ، مع أنه [ لا ] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى .
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور ، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجوابُ القسمِ { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } ، وضُعِّفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في ب " الأرحام " يمنعان من ذلكَ ، والأصلُ توافق القراءات .
والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى ، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك{[6380]} .
وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : تقديره : " ورَبِّ الأرحام " .
قال أبو البقاء{[6381]} : " وهذا قد أغنى عنه ما قبله " يعني : الحلف بالله تعالى .
ويمكن الجواب عن هذا بأن للَّهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [ كما أقسم ]{[6382]} بالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك ، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى ، ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها .
وأجاب آخرون{[6383]} بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية ؛ لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله وبالرحم ، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل ؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو حلف باللَّهِ أولاً ، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدُ ذكر لرحم ، وهذا لا ينافي مدلول الحديث .
أيضاً فحمزة أحد القراء السبعة ، الظاهر أنه لم يَأتِ بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة ، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع ، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجار ، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم .
والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا *** فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب{[6384]}
تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا *** وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ{[6385]}
أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي *** أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا{[6386]}
وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقل قراءة ضعيفة{[6387]} .
قال بن الخطيبِ{[6388]} : " والعَجَبُ من هَؤلاء [ النحاة ]{[6389]} أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر{[6390]} علماء السلف في علم القرآن " .
وقرأ عبد الله{[6391]} أيضاً " والأرحامُ " رفعاً على الابتداء ، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية{[6392]} : أهلٌ أنْ توصل ، وقَدَّرَه الزمخشري{[6393]} : " والأرحامُ مِمَّا يتقي " أو " مما يتساءل به " .
وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية ، والمعنوية ، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّرَهُ أبو البقاء{[6394]} : والأرحام محترمة ، أي : واجبٌ حرمتها .
فإن قيل : ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً :
{ اتقوا ربكم الذي خلقكم } . ثم قال بعده : " واتقوا الله " .
الأول : فائدته تأكيد الأمر والحث عليه .
والثاني : أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب . والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض ، ويقع التساؤل به .
الثالث : قوله أولاً : { اتَّقُواْ رَبَّكُمُ } ولفظ " الرَّبِّ " يَدَلُّ على التربية والإحسان ، وقوله ثانياً { وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ولفظ " الإله " يدل على الغلبة والقهر ، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب ، والأمر الثاني يدل على الترهيب ، فكأنَّهُ قيل : اتقِ الله إنه ربّاك ، وأحسن إليك ، واتق مخالفته ؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة .
وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
جارٍ مجرى التعليل والرقيب : فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً ، ورُقوباً ، ورِقْباناً إذا أحدَّ النَّظَرَ [ لأمر يريد تحقيقه ]{[6395]} ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال : [ مجزوء الكامل ]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ *** ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ{[6396]}
وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى *** لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ
والْمَرْقَبُ : المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب ، والرقيب أيضاً [ ضرب ]{[6397]} من الحيات ، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر ، وقد تقدمت في البقرة ، والارتقاب : الانتظار .
دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه .
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] .
وقال تعالى :{ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : إنَّ الإلّ القرابة ، قال : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِذي القربى } ( الإسراء :23 ) وقال عليه السلام : قال الله تعالى : " أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي ، من وَصَلَها وَصَلْتُه ، ومن قطعها قطعته " .
قال القرطبيُّ{[6398]} : الرحم : اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام ، مع أنَّ القطيعة موجودة ، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث ، والولاية ، وغيرهما من الأحكام ، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن{[6399]} من غير دليل ، وهم يرون ذلك [ نسخاً ]{[6400]} ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام ، وبني الأخوال والخالات .
أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة ، وأن قطيعتها محرَّمة ، " وقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسْمَاءَ وقد سألته : أأصِلُ أمِّي ؟ " صِلِي أمَّكِ " {[6401]} فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام ، إذا لم يكن عصبة ، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ " {[6402]} وهذا قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف{[6403]} .
واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ : لا يدخلون في مقتضى الحديث .
وقال شريك القاضي : يُعْتَقُونَ .
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [ لا ]{[6404]} يعتق على الابن إذا ملكه{[6405]} .