اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَوۡمَ تَجِدُ كُلُّ نَفۡسٖ مَّا عَمِلَتۡ مِنۡ خَيۡرٖ مُّحۡضَرٗا وَمَا عَمِلَتۡ مِن سُوٓءٖ تَوَدُّ لَوۡ أَنَّ بَيۡنَهَا وَبَيۡنَهُۥٓ أَمَدَۢا بَعِيدٗاۗ وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفۡسَهُۥۗ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (30)

في ناصب " يَوْمَ " أوْجُهٌ :

أحدها : أنه منصوب ب " قَدِيرٌ " ، أي : قدير في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يلزم من ذلك تقييد قدرته بزمان ؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته ، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى . وإلى هذا ذهب أبو بكر ابن الأنباري .

الثاني : أنه منصوب ب " يُحَذِّرُكُمْ " ، أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم ، وإلى هذا نحا أبو إسحاق ، ورجحه .

ولا يجوز أن ينتصب ب " يُحَذِّرُكُمْ " المتأخرة .

قال ابن الأنباري : " لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً ب " يُحَذِّرُكُمْ " المذكور في هذه الآية ؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها " .

وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً ، وهو كلامٌ طويلٌ ، والفصل بمثله مستبعد ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى ، فلا يصح ؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم ؛ لأنه ليس زمانَ تكليف ؛ لأن التخويف موجود ، واليوم موعود ، فكيف يتلاقيان ؟

قال : أن يكون منصوباً بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ ، وغيرُهم ، وهذا ضعيف على قواعد البصريين ؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ .

وقد يقال : إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل ، وهذا من ذاك .

الرابع : أن يكون منصوباً ب " اذكر " مقدراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، وقدر الطبريُّ الناصب له " اتَّقُوا " ، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ ، مع الاستغناء عنه .

الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل " نفسه " ، أي : يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد ، فالعامل فيه " عقاب " لا " يحذركم " قاله أبو البقاء ، وفي قوله : " لا يُحَذِّرُكُمْ " فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم .

السادس : أنه منصوب ب " تَوَدّ " .

قال الزمخشريُّ : " يَوْمَ تَجِدُ " منصوب ب " تَوَدُّ " والضمير في " بينه " لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها ، وبين ذلك اليوم ، وهَوْله أمداً بعيداً " .

وهذا ظاهر حسنٌ ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف ؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا .

وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو : ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان ، فالفاعل هو الألف ، وهو ضمير عائد على " أخويك " المتصلين بمفعول " يلبسان " ومثله : غلام هندٍ ضربَتْ ، ففاعل " ضربت " ضمير عائد على " هند " المتصلة ب " غلام " المنصوب ب " ضربت " والآية من هذا القبيل ؛ فإن فاعل " تَوَدُّ " ضميرٌ عائدٌ على " نَفْس " المتصلة ب " يَوْمَ " لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ ، والظرف منصوب ب " تَوَدُّ " ، والتقدير : يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا .

احتج الجمهور على الجواز بالسماع .

وهو قول الشاعر : [ الخفيف ]

أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ *** ري إذَا يَبْتَغِي حُصُولَ الأمَانِي{[5352]}

ففاعل " يستحث " ضمير عائد على " المرء " المتصل ب " أجل " المنصوب ب " يستحث " .

واحتج المانعون بأن المعمول فضلة ، يجوز الاستغناء عنه ، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره ، فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب ، وزيداً ظن قائماً ، أي : ضرب نفسه ، وظنها ، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين : غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ ، وبين : زيداً ضَرَبَ ، حيث جاز الأول ، وامتنع الثاني ، بمقتضى العلة المذكورة .

قوله : " تجد " يجوز أن تكون [ المتعدية لواحد بمعنى " تصيب " ، ويكون " محضراً " على هذا منصوباً على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون علمية ] {[5353]} ، فتتعدى لاثنين ، أولهما " مَا عَمِلَتْ " ، والثاني " مُحْضَراً " وليس بالقويّ في المعنى ، و " ما " يجوز فيها وجهان :

أظهرهما : أنها بمعنى " الذي " فالعائد - على هذا - مقدَّر ، أي : ما عملته ، وقوله : { مِنْ خَيْرٍ } حال ، إما من الموصول ، وإما من عائده ، ويجوز أن تكون " مِنْ " لبيان الجنسِ .

ويجوز أن تكون " ما " مصدرية ، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول ، تقديره : يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي : معمولها - فلا عائد حينئذ [ عند الجمهور ] {[5354]} .

قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ } يجوز في " ما " هذه أن تكون منسوقة على " ما " التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي : وتجد الذي عملته ، أو وتجد عملها - أي : معمولها - من سوء . فإن جعلنا " تَجِدُ " متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضراً ، أو وتجد عملها مُحْضَراً ، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي : وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني ؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول . وإن جعلناها متعدية لواحد ، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة ، أي : تجده محضراً - أي : في هذه الحال - وهذا كقولك : أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي : وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني ؛ لدلالة حال الأول عليه - ، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله : " تَوَدُّ " وجهان :

أحدهما : أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل " عَمِلَتْ " ، أي : وما عملته حال كونها وَادَّةً ، أي : متمنِّيةًَ البعد من السوءِ .

والثاني : أن تكون مستأنفةً ، أخبر الله تعالى عنها بذلك ، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين .

ووضع الكرم ، واللطف هذا ؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً ، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ .

ويجوز أن تكون " ما " مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجملة في قوله : " تَوَدُّ " ، أي : والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً .

والضمير في " بَيْنَهُ " فيه وجهان :

أحدهما - وهو الظاهر - عوده على " مَا عَمِلَتْ " ، وأعاده الزمخشري على " الْيَوْم " .

قال أبو حيّان : " وأبعد الزمخشري في عوده على " اليوم " ؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير ، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر ، فتود تباعده ؛ لتسلم من الشرِّ ، ودعه لا يحصل له الخير . والأولى عوده على { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ } ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه " .

فإن قيل : هل يجوز أن تكون " ما " هذه شرطية ؟

فالجواب : أن الزمخشريَّ ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك ، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً ، وهو " تَوَدُّ " .

قال شهاب الدينِ : " وهذا ليس بشيءٍ ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً ، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب ، ومنه بيت زُهَيْر : [ البسيط ]

وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ *** يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ{[5355]}

ومن الجزم قوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ } [ هود : 15 ] ، وقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ } [ الشورى : 20 ] ، وقوله : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ " .

وأجاب أبو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى ، قال : كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ : فذكره ثم قال : ولنذكر ها هنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع ، الجَزْمُ ، وجاز فيه الرفعُ ، مثال ذلك : إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو ، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلا ما ذكره صاحب كتاب " الإعراب " عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع " كان " كقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ } [ هود : 15 ] ، لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه ، وكلام الجماعة ، أنه لا يختص ذلك ب " كان " بل سائر الأفعال في ذلك مثل " كان " .

وأنشد سيبويه للفرزدق : [ البسيط ]

دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا *** عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ{[5356]}

وقال أيضاً : [ الطويل ]

تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي *** نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ{[5357]}

وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً .

قال بعض أصحابنا : هو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق . ومثله - أيضاً - قوله : [ الطويل ]

وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً *** نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا{[5358]}

وقال أبو صخر : [ الطويل ]

وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ *** يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ{[5359]}

وقال الآخر : [ الطويل ]

وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ *** تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ{[5360]}

وقال الآخر : [ الطويل ]

فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي *** إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا{[5361]}

وقال الآخر : [ البسيط ]

إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا *** فِي الجَهْدِ أدْرِكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ{[5362]}

قال شهاب الدين{[5363]} : " هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع ، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها - : فهذا الرفع - كما رأيت – كثير " .

وهذا البيتُ ليس من ذلك ؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد : دَسَّتْ رَسُولاً ، وقوله : " تعال فإن عاهدتني " .

وقال : فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رحمه الله - : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم ؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء ، وجملة مثل قول الشاعر : [ الرجز ]

. . . *** إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ{[5364]}

على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة .

وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ .

فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم ، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه ، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب ، وإنما حُذِفَت منه الفاءُ ، والفاء يُرْفَع ما بعدها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْه } [ المائدة : 95 ] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار .

وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله ، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا : لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً ، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط ، فلم يُعْمِلُوها في الجواب ؛ لضَعْفِها ، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم ، ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان .

وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون " وما عملت " شرطاً لعلة أخرى - لا لكون " تَوَدُّ " مرفوعاً ، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم ، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : لما كان " تَوَدُّ " مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَرعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله : " وَبَيْنَه " عائد على اسم الشرط - الذي هو " ما " - فيصير التقدير : تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .

فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامُه ، فالفاعل رُتْبته التقديمُ ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير ؟

فالجواب : أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه ؛ لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب ، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر ؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط ، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم الشرط اقتضاها ، فتدافَعَا ، وهذا بخلاف : ضرب زيد أخاه ؛ فإنها جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً ، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل ، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده ؛ لعدم الاشتراك في العامل ، ففرق ما بين المسألتين ، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ : أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره " انتهى .

وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية ، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك ، فقال : " والثاني - أنها شرط وارتفع " تَوَدُّ " على إرادة الفاء ، أي : فهو تود " .

ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف ؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزم والرفع .

[ وقد تقدم تحقيق القول في ذلك ، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ . . . ] {[5365]} عبد الله وابن أبي عبلة{[5366]} : " ودت " - بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في " ما " وجهان :

أحدهما : أن تكون شرطية ، وفي محلها - حينئذ - احتمالان{[5367]} .

الأول : النصب بالفعل بعدها ، والتقدير : أيَّ شيء عملت من سوء ودت ، ف " وَدَّتْ " جواب الشرط .

الثاني : الرفع على الابتداء ، والعائد على المبتدأ محذوف ، تقديره : وما عملته ، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند الفرّاء في فصيح الكلام ، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو : " أيُّهُمْ ضرب أكرمه " - برفع " أيُّهم " وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو : زيدٌ ضربت ، [ وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ : " أفحكمُ الجاهلية يبغون{[5368]} " ، وفي قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } [ الحديد : 10 ] في الحديد{[5369]} ]{[5370]} .

الوجه الثاني من وجهي " ما " : أن تكون موصولة ، بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ ، و " وَدَّتْ " الخبر ، وهو اختيار الزمخشريِّ ؛ لأنه قال : " لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى : لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت ؛ لموافقة قراءة العامة " انتهى .

فإن قيل : لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون " ما " شرطية على هذه القراءة ، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة ؟

فالجواب : أن العلة إن كانت رفعَ الفعل ، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة ؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم ، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةً ، فهي أيضاً مفقودة فيها ؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك .

قوله - هنا - على بابها ، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حذفان :

أحدهما : حذف مفعول " تَوَدُّ " .

والثاني : حذف جواب " لَوْ " ، والتقدير فيها : تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك ، أو لفرحت ونحوه . والخلاف في " لو " بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة ، يبعد مجيئه هنا ؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو " أن " .

قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ، قال شهاب الدين : إلا قليلاً يشعر بجوازه ، وهو لا يجوز ألبتة ، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة .

وقد تقدم الكلام في " أنَّ " الواقعة بعد " لَوْ " هذه ، هل محلها الرفع على الابتداء ، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر ، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن " لو " - هنا - مصدرية ، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ " تَوَدُّ " ، أي تود تباعد ما بينها وبينه ، وفي ذلك إشكال ، وهو دخول حرف مصدري على مثله ، لكن المعنى على تسلُّط الودادة على " لو " وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي . والأمد : غاية الشيء ومنتهاه ، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً ، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ " أفعال " .

قال الراغب : " الأمَد والأبد متقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود ، وَلا يتقيد فلا يقال : أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق ، وقد ينحصر إذا قيل : أمَد كذا ، كما يقال : زمان كذا ، والفرق بين الأمد والزمان ، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان " .

فصل

المعنى : { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً .

قال السُّدِّيُّ : مكاناً بعيداً .

وقال مقاتلٌ : كما بين المَشرق والمَغْرِب ؛ لقوله تعالى : { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ } [ الزخرف : 38 ] .

قال الحسنُ : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً .

اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه ، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان ، أو على المكان .

ثم قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } وهو تأكيد للوعيد ، ثم قال : { وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } وفيه وجوه :

الأول : أنه رؤوفٌ بهم ، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه ، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذَّرهم من استحقاق غضبه .

قال الحسنُ : " ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه " .

الثاني : أنه رؤوف بالعباد ، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي .

الثالث : أنه لما قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد ، وهو قوله : { وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } ، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده .

الرابع : أن لفظ " العباد " في القرآن مختص بالمؤمنين ، قال تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] ، وقال :

{ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] ، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة ، فقال : { وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ } ، أي : كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين .


[5352]:ينظر البيت في البحر المحيط 2/444 وحاشية الشهاب 3/17 وروح المعاني 3/127 والدر المصون 2/63.
[5353]:سقط في ب.
[5354]:سقط في ب.
[5355]:ينظر ديوانه ص 153، ولسان العرب (خلل، حرم) وخزانة الأدب 9/48، 70، والدرر 5/82، ورصف المباني 104، وشرح أبيات سيبويه 2/85، وجمهرة اللغة ص 108، والإنصاف 2/625، وشرح التصريح 2/249، وشرح شواهد المغني 2/838، ومغني اللبيب 2/422، والمقاصد النحوية 4/429، والمقتضب 2/70 وأوضح المسالك 4/207 وجواهر الأدب ص 203 وشرح المفصل 8/157 وشرح عمدة الحافظ ص 353 وشرح شذور الذهب ص 451 وشرح ابن عقيل ص 586 وشرح الأشموني 3/585 والهمع 2/60 والدر المصون 2/64.
[5356]:ينظر في ديوانه 1/123، وشرح أبيات سيبويه 2/90 والدرر 5/83، وشرح عمدة الحافظ ص 371، والكتاب 3/69 ولسان العرب (وغر)، وهمع الهوامع 2/60، والدر المصون 2/65.
[5357]:البيت للفرزدق. ينظر ديوانه (628) والكتاب 2/416 وابن الشجري 2/113 والخصائص 2/422 والعيني 1/461 والهمع 1/87 وابن يعيش 2/132و 4/3 والأشموني 1/153 والمحتسب 1/219، 2/145 والجمل (343) والدرر 1/64- 65 والمغني (404) وارتشاف الضرب 1/539 والدرر واللوامع 1/65 ورغبة الآمل 4/55 والدر المصون.
[5358]:البيت لزهير انظر ديوانه (57) والبحر المحيط 2/446 والدر المصون 2/65.
[5359]:ينظر شرح الأشموني 3/585 والدر المصون 2/66.
[5360]:البيت لعروة بن الورد ينظر ديوانه ص 37 والبحر المحيط 2/446 والحماسة 1/238 وجمهرة أشعار العرب ص 54 والأصمعيات ص 46 والدر المصون 2/66.
[5361]:البيت لسوار بن المضرب ينظر شرح التصريح 1/272، والمقاصد النحوية 2/451، وخزانة الأدب 10/479، وشرح المفصل 1/80 والخصائص 2/433 وشرح الأشموني 1/169، والمحتسب 2/192 والدر المصون 2/66.
[5362]:البيت لعبيد بن العرندس- ينظر البحر المحيط 2/446 وديوان الحماسة والحيوان 2/265 ورغبة الآمل 2/6 والتنبيه على أوهام أبي علي في أماليه ص 79 وحاشية الشهاب 3/17 والكامل 1/9، ومعجم الشعراء ص 306 والدر المصون 2/66.
[5363]:ينظر: الدر المصون 2/66.
[5364]:عجز بيت لجرير وصدره: يا أقرع بن حابس يا أقرع *** ... ينظر الكتاب 3/67 وشواهد المغني (797) وابن يعيش 8/158 والمغني 2/553 والخزانة 3/396 والمقرب 1/275 والأشموني 4/18 والتصريح 2/249 والهمع 1/72، 2/61 وابن الشجري 1/84 والمقتضب 2/71 وضرورة الشعر ص 115 والإيضاح في شرح المفصل 2/245 وشواهد التوضيح والتصحيح ص 276 والارتشاف 2/555 وشرح التصريح 2/249 ورغبة الآمل 2/110 والدرر اللوامع 1/47 والدر المصون 2/66.
[5365]:سقط في ب.
[5366]:ينظر: المحرر الوجيز 1/421، البحر المحيط 2/447، الدر المصون 2/68.
[5367]:في ب: وجهان.
[5368]:سورة المائدة آية 50.
[5369]:آية 10.
[5370]:سقط في ب.