قوله : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ } قرأ الأخوان{[9]} " فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ " - من غير تأنيث - والباقون " فَنَادَتْهُ " بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ولتأنيث لفظ " الملائكة " مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن ؛ كقوله تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ } [ الحجرات : 14 ] . ومثل هذا { إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ }
[ الأنفال : 50 ] تُقْرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : { تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ } [ المعارج : 4 ] . قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير ؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة ، وهكذا قوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ }[ يوسف : 30 ]وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله .
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة ، فقال : " أكره التأنيثَ ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية ؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث " .
روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ .
قال أبو عُبَيْد : " نراه اختار ذلك ؛ خلافاً على المشركين ؛ لأنهم قالوا : الملائكة بناتُ الله " .
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال : " إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً " .
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين ، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، ولذلك قرأ " فناداه " بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة ؛ لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا ليس بشيءٍ ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَمَرْيَمُ } [ آل عمران : 42 ] .
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن ؛ لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة .
والأخوان على أصلهما من إمالة " فَنَادَاهُ " . والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل .
قال الزَّجَّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة ، كقولك : فلان يركب السُّفُنَ - أي : هذا الجنس كقوله تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ }
[ النحل : 2 ] يعني جبريل " بِالرُّوحِ " يعني الوحي . ومثله قوله : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ } [ آل عمران : 173 ] وهو نعيم بن مسعود ، وقوله : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان . ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة ؛ تعظيماً له .
قيل : الرئيس لا بدَّ له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل .
والعطف بالفاء - في قوله " فَنَادَتْهُ " - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير .
والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم ، نحو البُكَاء ، والصُّراخ ، والدُّعاء ، والرُّغاء .
وقيل : المكسور مصدر ، والمضموم اسم . ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ ؛ لموافقته نظائره من المصادر .
قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته ، وإن كسرتها مددته .
وأصل المادة يدل على الرفع ، ومنه المنْتَدَى والنادي ؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم . وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة ، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً ، والنَّدَى : المَطَر ، ومنه : نَدِيَ ، يَنْدَى ، ويُعَبَّر به عن الجود ، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً .
قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و " يُصَلِّي " يحتمل أوجهاً :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ .
الثاني : أنه حال من مفعول النداء ، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال .
الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في " قَائِمٌ " فيكون حالاً من حال .
الرابع : أن يكون صفة لِ " قَائِمٌ " .
قوله : { فِي الْمِحْرَابِ } متعلق ب " يُصَلِّي " ، ويجوز أن يتعلق ب " قَائِمٌ " إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في " قَائِمٌ " ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد ، فلا يلزم فيه فَصْل ، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ " قَائِمٌ " أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ . هذا معنى كلام أبي حيّان .
قال شِهَابُ الدِّيْنِ{[10]} : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ فإن كُلاًّ من " قَائِمٌ " و " يصلِّي " يصح أن يتسلَّط على " فِي الْمِحْرَابِ " وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ } قرأ نافع وحمزة وابن عامر{[11]} بكسر " إنَّ " والباقون بفتحها ، فالكسر عند الكوفيين ؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ ، فيُكْسر معه ، وعند البصريين ، على إضْمار القول - أي : فنادته ، فقالت . والفتح والحذف - على حذف حرف الجر ، تقديره : فنادته بأن الله ، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها .
وفي قراءة عبد الله{[12]} : " فنادته الملائكة يا زكريا " فقوله : " يا زكريا " هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر " إن " ولا يجوز فتحُها ؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه ، وهما الضمير وما نُودي به زكريا .
قوله : { يُبَشِّرُكَ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم{[13]} الخمسة في هذه السورة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - في موضعين - وفي سورة الإسراء : { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 9 ] وفي سورة الكهف : { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } - بضم الياء ، وفتح الباء ، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه ، يُبَشِّرُه .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى ، وهو قوله : { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } [ الشورى : 23 ] .
وقرأ الجميع - دون حمزة{[14]} - كذلك في سورة براءة : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } [ التوبة : 21 ] وفي الحجر - في قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] - أنه بالتثقيل .
وكذلك قرأ الجميع{[15]} - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين - { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [ مريم : 7 ] وقوله : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ }
[ مريم : 97 ] . وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة ، وسكون الياء وضم الشين .
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل ، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ :
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ .
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] .
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة . والكسائي خفَّف خمساً منها ، وثقَّل أربعاً ، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى . وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ – بالتخفيف- .
وعليه ما أنشده الفراء قوله : [ الطويل ]
بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً *** أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا{[16]}
الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم " يُبَشِّرُكَ " - بضم الياء .
ومن التبشير قول الآخر : [ الكامل ]
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ *** هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ ؟{[17]}
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو " فَبَشِّرْهُمْ " .
{ وَأَبْشِرُوا } [ فصلت : 30 ] { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] . قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } [ الحجر : 55 ] . فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي .
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة .
قوله : { بِيَحْيَى } متعلق ب { يُبَشِّرُكَ } ولا بد من حذف مضاف ، أي : بولادة يحيى ؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ .
أحدهما - وهو المشهور عند المفسِّرين - : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً ، نحو يعيش ويعمر ويموت .
قال قتادة : " سُمِّي { يَحْيَى } لأن الله أحياه بالإيمان " .
وقال الزَّجَّاج : " حيي بالعلم " وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .
والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية .
وعلى كلا القولين يُجْمَع على " يَحْيَوْنَ " بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها .
وقال الكوفيون : إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء ؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص ، نحو جاء القاضُون ، ورأيت القاضِين ، نقل هذا أبو حيّان عنهم . ونقل ابنُ مالك عنهم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو ، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ ، نحو : جاء حبلون ورأيت حُبلِين ، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين .
قالوا : فإن كان أعجمياً جاز الوجهان ؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة ؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق . ويصغر يحيى على " يُحَيَّى " وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك : [ مجزوء الرمل ]
أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ *** يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ يَحْيَى *** إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا *** لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً *** لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا *** وَالَّذِي اخْتَارُوا يُحَيَّا ؟
أتُرَاهُمْ فِي ضَلالٍ *** أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا ؟{[18]}
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات ، وأصل المسألة تصغير " أحْوَى " ويُنْسَب إلى " يَحْيَى " " يَحْيَى " - بحذف الألف ، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و " يَحْيَوِيّ " - بالقلب ؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و " يَحْيَاوِيّ " - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً .
وقرأ حمزة والكسائي " يَحْيَى " بالإمالة ؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم .
قال ابن عباس : " سُمِّيَ " يَحْيَى ؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه {[19]} .
وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان {[20]} .
وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ .
قال القرطبي : " كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا ، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة ، وتفسيره بالعربية : لا تلد ، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت : يا إبراهيم ، لم نقص من اسمي حرف ؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال : إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء ، اسمه حيا ، فسُمِّي بيَحْيَى " .
قوله : { مُصَدِّقًا } حال من " يَحْيَى " وهذه حال مقدرة .
وقال ابن عطية : " هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام " . و " بِكلِمةٍ " متعلق ب " مُصَدِّقاً " .
وقرأ أبو السّمال{[21]} " بِكِلْمَةٍ " - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة ؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها ، فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانيةَ ؛ لأجل الاستثقال .
قيل : المراد بها الجمع ؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ " حيثُ قال : [ الطويل ]
ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل *** . . . {[22]}
وذكر جابر - رضي الله عنه - الحُوَيْدِرَة فقال : لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته .
وقال الجمهور : الكلمة : هي عيسى عليه السلام .
قال السديُّ : لقيت أمُّ عيسى ، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى ، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى : أشعَرْتِ أني حُبْلَى ؟ : فقالت : مريم : وأنا - أيضاً - حُبْلَى ، قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله{[23]} : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ } .
قال القرطبيُّ : " رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم " .
وقال ابن عبّاسٍ : إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر{[24]} .
وقيل : بثلاث سنين ، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه .
وسمي عيسى عليه السلام كلمة . قيل : لأنه خُلِقَ بكلمة من الله { كُنْ فَيَكُونُ } من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً ، والمقدور قُدْرة ، والمرجُوُّ رجاءً ، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة .
وقيل : هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام .
وقيل : لأنه تكلم في الطفوليَّة ، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً ، فسُمِّيَ كلمة كما يقال : فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما .
وقيل : لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر ، فإذا حَدَث ذلك الأمر ، قال : قد جاء قولي ، وجاء كلامي - أي : ما كنت أقول ، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } [ غافر : 6 ] وقوله : { وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] .
وقيل : لأن الإنسان قد يُسَمَّى ب " فضل الله " و " لطف الله " وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله .
واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه ، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة : صفة يخلقها الله في جسم مخصوص ، دالة بالوضع على معاني مخصوصة .
وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة ، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : إنها ذات عيسى ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول ، لم يَبْقَ إلا التأويل .
قوله : { مِّنَ اللَّهِ } في محل جر ؛ صفة ل " كَلِمَةٍ " فيتعلق بمحذوف ، أي : بكلمة كائنة من الله { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً } أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً . والسيد : فَيْعِل ، والأصل سَيْود ، ففُعِلَ به ما فعل ب " ميت " ، كما تقدم ، واشتقاقه من سَادَ ، يَسُودُ ، سِيَادَةً ، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد .
نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما *** وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا
وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا *** . . . {[25]}
وجمعه على " فَعَلَة " شاذ قياساً ، فصيح استعمالاً ؛ قال تعالى : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } [ الأحزاب : 67 ] .
وقال بعضهم : سُمي سيِّداً ؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي : مُعْظَمهم وجُلَّهم . والأصل سَوَدَة ، و " فَعَلَة " لِ " فاعِل " نحو كافِر وكفرة ، وفاجِر وفَجَرَة ، وبارّ وبررة .
وقال ابن عباس : السَّيِّد : الحليم {[26]} .
قال الجبائي : إنه كان سيداً للمؤمنين ، ورئيساً لهم في الدين - أعني : في العلم والحلم والعبادة و الورع .
قال مجاهدٌ : السَّيِّد : الكريم على الله تعالى{[27]} .
وقال ابن المُسَيِّبِ : السيِّد : الفقيه العالم{[28]} .
وقال عكرمة : السيد : الذي لا يغلبه الغضبُ{[29]} .
وقيل : هو الرئيس الذي يتبع ، ويُنتَهَى إلى قولهِ .
وقال المفضل : السيد في الدين .
وقال الضحاك : الحسن الخلق {[30]} .
وقال سعيد بن جبير : هو الذي يُطيع ربَّه .
ويقول عن الضَّحَّاكِ : السيد : التقِيّ{[31]} .
وقيل : هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ .
وقيل : هو القانع بما قسم الله له .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ " ؟ قالوا : جَد بن قَيْس على بُخْلِه ، فقال : " وأي دواء أدوى من البخل ، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح{[32]} " . وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً . وقال صلى الله عليه وسلم لبني قريظة : " قوموا إلى سيِّدكم{[33]} .
وقال - في الحسن - : " إن ابني هذا سَيِّدٌ ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين " {[34]} .
قال الكسائي : السيّد من المَعْز : [ الْمُسِّن ] . وفي الحديث : " الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ " {[35]} .
سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ *** لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد{[36]}
والحصور : فعول للمبالغة ، مُحَوَّل من حاصر ، كضروب .
ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا *** إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ{[37]}
وقيل : بل هو فَعُول بمعنى : مفعول ، أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى : مركوب ، وحلوب بمعنى : محلوب .
وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا *** حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا{[38]}
وهو البخيل - أيضاً - قال : [ البسيط ]
. . . *** لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئَّارِ{[39]}
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع ؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك ، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ ، {[40]} وهو - على هذا - بمعنى فاعل ، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات .
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء{[41]} له ، فيكون بمعنى " مفعول " كأنه ممنوع من النساء .
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً ، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة . والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص ، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ ، لا يجوز ، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً .
احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل ؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح ، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة ، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا ؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى :
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] .
وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان ، والنسخ على خلاف الأصل .
وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله – " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا{[42]} " وقوله : " لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ{[43]} " . وقوله عليه الصلاة والسلام :
" النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي " {[44]} .
وقولهم : النسخ على خلاف الأصل .
قلنا : مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ ، وقد علمناه .
قوله : { وَنَبِيًّا } اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين :
أحدهما : القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين .
والثاني : ضبط مصالحهم في تأديبهم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
والحصور إشارة إلى الزهد التام ، فلما اجتمعا حصلت النبوة ؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة .
قوله : { مِّنَ الصَّالِحِينَ } صفة لقوله : { وَنَبِيّاً } فهو في محل نصب ، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : معناه من أولاد الصالحين .
الثاني : أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر : إنه من الصالحين .
الثالث : أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء ؛ لقوله - عليه السلام - : " مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا ، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ " .
فإن قيل : إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح ، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة ؟
فالجواب : أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } [ النمل : 19 ]
وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر ، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً .