قوله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ } في هذا الظرف أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منتصباً ب " يَخْتَصِمُونَ " .
الثاني : أنه بدل من " إذْ يَخْتَصِمُونَ " وهو قول الزجاج .
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام ، وزمانِ قَوْل الكلام ، ولم يكن ذلك ؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا ، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ .
قال الحسنُ : إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ ، وإن ذلك كان من كراماتها . فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد ، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال ، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ ، كما تقول : لقيته سنةَ كذا ، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا .
الثالث : أن يكون بدلاً من { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ } - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه .
الخامس : قال أبو عبيدة : " إذْ - هنا - صلة زائدة " . والمراد بالملائكة هنا : جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة .
قال القرطبيُّ : " قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ } دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين ، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عز وجل - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ ، فهي إذاً نَبِيّة ، والنبيُّ أفضل من الوليّ " . وقال ابنُ الخطيب : ذلك كرامة لها ؛ إذ ليست نبية ؛ لاختصاص النبوةِ بالرجال ، وقال جمهورُ المعتزلة ؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام - .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى ، أو كرامة لمريم .
قوله : { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } في محل جر ؛ صفة ل " كَلِمَةٍ " و " مِنْ " ليست للتبعيض ؛ إذ لو كان كذلك ، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية ؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه ، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله : كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّبِ .
فإن قيل : أليس كل مخلوق ، فهو يخلق بهذه الكلمة ؟
فالجوابُ : نَعَمْ ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم ، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة ، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة - : إنه نفس الجود ومَحْض الكرم ، فكذا ها هنا .
وأيضاً فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل ، ونور الإحسانِ ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته ، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه ، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل .
حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن ، أما على أصول المسلمين ، فظاهر ؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات ، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولَى ، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد ؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان ، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية ، وعند حصول الكيفية المزاجية ، يجب تعلُّق النفس ، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن ، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر ، والحيَّات عن الشعر ، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً . وأيضاً ، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي ، يوجب حصول كيفية الغضب ، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن ، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض ، قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه ، بل كلما يمشي سقط ، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط ، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب ، فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [ كفى ذلك في علوق ] {[5415]} الولد في رحمها ، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع .
قوله : { اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى } اسمه مبتدأ ، والمسيح خبره ، وعيسى بدل منه ، أو عطف بيان .
قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله : اسمه - ولو كان " عِيسَى " خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة " وأما من يجيز ذلك فقد أعرب " عِيسَى " خبراً ثانياً ، وأعربه بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - أي : هو عيسى .
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ ، وهو النَّصْب بإضمار أعني ؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاً جاز قطعه نصباً ، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان :
أحدهما : أنه فَعِيل بمعنى فاعل ، فحُوِّلَ منه مبالغةً .
قيل : لأنه يمسح الأرض بالسياحة ، أي : يقطعها ومنه : مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى : مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة ، كما يقال : رجل شريب .
وقيل : لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس .
وقيل : كان يمسح رأسَ اليتيم . {[5416]}
وقيل : يلبس المسح فسمي بما يؤوب إليه .
وقيل : إنه فَعِيل بمعنى مفعول ؛ لأنه مُسِحَ بالبركة{[5417]} .
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام ، {[5418]} أو لأنه مَسِيح القَدَم لا أخْمَصَ له{[5419]} .
بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ *** مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ{[5420]}
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة ، قال : [ الطويل ]
عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ *** . . . {[5421]}
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ ، تُمْسَح به الأنبياء ، ولا يُمْسَح به غيرُهم ، قالوا : وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا ، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه وقت الولادة ؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان . أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن .
والثاني : أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة ، وعلى هذا كلِّه ، فهو منقول من الصفة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : المَسِيح : الملك .
وقال النَّخَعِيُّ : المسيح : الصديق . ويكون المسيح بمعنى : الكذَّاب ، وبه سُمِّي الدجال ، والحرف من الأضداد .
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن .
أحدهما : أنه ممسوح إحدى العينَيْن .
الثاني : أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ ، قالوا : ولهذا قيل له : دَجَّال ؛ لضَرْبه الأرضَ ، وقَطْعِه أكثر نواحيها . يقال : قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك .
وقيل : سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس .
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث : أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا ، فغُيِّر .
قال أبو حيان : " فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ، ليس مُشْتَقاً من المَسْح ، ولا من السياحة " .
قال شهاب الدينِ : " قوله : ليس مشتقاً صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم " .
وعيسى أصله : يسوع ، كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا - بالعبرانية .
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها ، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان ، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً .
وعيسى اسم أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث ، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه ، إذا سَاسَه وقام عليه .
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله : " اسْمُهُ " وإن كان عائداً على الكلمة ؛ مراعاةً للمعنى ؛ إذ المراد بها مذكَّر .
وقيل - في الدَّجّال- : مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين ، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة ، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور ؛ لأنه يمسح الأرض - أي : يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ ، فهو فعيل بمعنى فاعل .
والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً . وإن كان سُمِّي مسيحاً ؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول .
. . . *** إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا{[5422]}
" ابنُ مريم " يجوز أن يكون صفة ل " عيسَى " قال ابن عطية : وعيسى خبر لمبتدأ محذوف ، ويدعو إلى هذا كون قوله : " ابن مريم " صفة لعيسى ؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ . وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون " ابْنُ مَريمَ " صفة ل " عِيسَى " لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص . هذه النزعة لأبي علي . وفي صدر الكلام نظرٌ . انتهى .
قال شهابُ الدِّينِ : " فقد حَتَّم كونه صفة ؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف ، وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يكون " ابْنُ مَرْيَمَ " صفة ل " عِيسَى " يعني : بدل عيسى من المسيح ، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره ، وهو كتبه بغير ألف " .
وقد منع أبو البقاء أن يكون " ابْنُ مَرْيَمَ " بدلاً أو صفة ل " عِيسَى " قال : " لأن " ابْن مَرْيَمَ " ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه " .
قال شهاب الدينِ : " وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً ، وأما كونه صفة ، فلا يمنع ذلك ، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة ؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ ، وهي لا يُوصف بها ، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب " ابن عمرو " امتنع أن يقع " ابن عمرو " صفة والحالة هذه " .
قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : لِمَ قِيلَ : { اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } وهذه ثلاثة أشياء ، الاسم عِيسَى ، وأما المسيح والابن فلَقَب ، وصفة ؟
قلت : الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها ، ويتميَّزُ من غيره ، فكأنه قِيلَ : الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ " .
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه ، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ ، بل هو من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [ وهذا أعسر يسرا ]{[5423]} .
ونظيره قول الشاعر : [ الخفيف ]
كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا *** يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ{[5424]}
أي مجموع كيف أصبحت ، وكيف أمسيت .
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ ، فكذلك في الْخَبَرِ .
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله : [ الرجز ]
مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي *** مُقَيِّظٌ ، مُصَيِّفٌ ، مَشَتِّي{[5425]}
وقد زعم بعضهم أن " المَسِيح " ليس باسم لَقَب له ، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف ، قال : وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ ؛ إذ " الْمَسِيحُ " صفةٌ ل " عِيسَى " والتقدير : اسمه عيسى المسيح " .
وهذا لا يجوز أعني : تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني : أنه صفة له في الأصل ، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأصل ، نحو قوله : [ الرجز ]
وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا *** . . . {[5426]}
الأصل : وبالعمر الطويل ، هذا في المعارفِ ، وأما في النِّكِرَاتِ ، فينصبون الصفةَ حالاً .
وقال أبو حيَّان : " ولا يصح أن يكون " الْمَسِيحُ " - في هذا التَّركيبِ - صفة ؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ " عِيسَى " والمسيح من صفة المدلول ، لا من صفة الدَّالِّ ؛ إذ لفظ " عِيسَى " ليس المسيح " .
ومن قال : إنهما اسمانِ ، قال : تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى ؛ لشهرته .
قال ابن الأنباريّ : وإنما بدأ بلقبه ؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى ؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ ، فيشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ ، فقدَّمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ ، لا اسمٌ .
قال أبو إسحاق : " عيسى معرب من أيسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة ؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه : إذا ساسه وقام عليه " .
قال الزمخشريُّ : " ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء " ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة{[5427]} .
وقوله : { وَجِيهًا } حال ، وكذلك قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } وقوله : { وَيُكَلِّمُ } وقوله : { مِّنَ الصَّالِحِينَ } هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله :
" بِكَلِمَةٍ " . وإنما ذَكَّر الحالَ ؛ حملاً على المعنى ؛ إذ المعنى المرادُ بها : الولد والمُكَوِّن ، كما ذكَّر الضميرَ في " اسْمُهُ " .
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله . والثانيةُ : جار ومجرور ، وأتى بِهَا هكذا ؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً ، لفات مناسبة الفواصل . والثالثة جملة فعليَّة ، وعطف الفعل على الاسم ؛ لتأويلهِ به ، وهو كقوله :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] ، أي : وقَابضات ، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل ؛ لأنه في تأويله ، قولُ النابغة : [ الطويل ]
فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ *** وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا{[5428]}
بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ *** يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ{[5429]}
والمعنى : مُبِيراً عدوه ، وقاصداً .
وجاء بالثالثة جملة فعلية ؛ لأنها في رُتْبتها ، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى ، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ . فكذا فعل هنا ، فقدم الاسم - وهو { وَجِيهًا } - ثم الجار والمجرور ، ثم الفعل ، وأتى به مضارعاً ؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً ، بخلاف الوجاهةِ ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها ، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك ، والجار قريبٌ من المفرد ، فلذلك ثَنَّى به ، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ .
والتضعيف في " الْمُقَرَّبِينَ " للتعدية ، لا للمبالغةِ ؛ لما تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً ، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف : قَطَّعْتُ الأثوابَ ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك .
وجيء بالرابعة - بقوله : { مِّنَ الصَّالِحِينَ } مراعاةً للفاصلةِ ، كما تقدم في " الْمُقَرَّبِين " .
والمعنى : إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ .
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من " الْمَسِيحِ " أو من " عِيسَى " أو من " ابْن مرْيَمَ " قال : " لأنها أخبارٌ ، والعاملُ فيها الابتداءُ ، أو المبتدأ ، أو هما ، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ " .
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في " اسْمُهُ " قال : " للفصل الواقعِ بينهما ، ولعدمِ العاملِ في الحال " .
قال شهابُ الدينِ{[5430]} : " ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ ، وهو مرادُهُ بقولِهِ : ولعدم العامل . وجاءت الحالُ من النكرةِ ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها . وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من " عِيسَى " فإنَّه قال : والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً ، كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه ، قطعَ منه التعريف . فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ { وَجِيهًا } من صفةِ " عِيسَى " في الأصلِ ، فقطع عنه ، والحالُ وصفٌ في المعنى " .
والوجيه : ذو الجاه ، وهو القوةُ ، والمنعةُ ، والشرفُ .
وجمع " وَجيه " وُجَهاءُ ، ووِجَاهٌ ، يقال : وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة ، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ .
وقال بعضهم : الوجيهُ : الكريمُ .
و " كَهْلاً " من قولهم : اكتهلت الدوحة ، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة .
وقال الراغب : " والكهل : مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ ، واكتهل النباتُ : إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ " .
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها - : [ البسيط ]
يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ *** مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ{[5431]}
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته ، عند ذِكْر " غلام " .
وقال بعضهم : " ما دامَ في بطن أمِّه ، فهو جنين ، فإذا وُلِدَ فوليد ، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ ؛ وما دام يرضع فهو رضيع ، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع ؛ فجَحْوَش ، فإذا دبَّ ونما : فدراج ، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور ، [ فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء ] {[5432]} ، فإذا جاوز العشر : فمترعرع ، وناشئ . فإذا رَاهَق الحُلم : فيافع ، ومُراهق . فإذا احتلم فحَزَوَّر . والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة ، فإذا اخضر شارُبه ، وسال عذاره : فباقِل ، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ : ففتًى وشارخ ، فإذا اكتملت لحيته ؛ فمُجْتَمِع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ ، ومن الأربعين إلى ستين كهل " ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك ، وهذا أشهرها .
فإن قيل : المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد ، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب .
أحدها : قالوا : لم يتكلم صبيٌّ في المهد ، وعاش ، أو لم يتكلمْ أصلاً ، بل يبقى أخرس أبداً ، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً ، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته ، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها .
وثانيها : قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم : " يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة " .
وثالثها : يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه ، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة .
ورابعها : قال الأصَمُّ : المراد منه : بيان أنه يبلغ من [ الصِّبَا ، إلى ]{[5433]} الكهولة .
وخامسها : أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم : إن عيسى كان إلهاً ، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة ، والتغيُّر على الإلهِ محال .
فإن قيل : قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً ، وعلى هذا التقدير ، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ .
فالجوابُ : قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً .
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ : " ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناسَ ، ويقتل الدَّجَّالَ ، قال : وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض " .
و " وَجِيهاً " اشتقاقه من الوجه ؛ لأنه أشرف الأعضاء . والجاه مقلوب منه ، فوزنه " عَفل " .
قوله : { فِي الدُّنْيَا } متعلق ب " وَجِيهاً " ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ ، ومعنى كونه { وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا } بسبب النبوة ، و " في الآخرة " بسبب عُلُوِّ المنزلة .
وقوله : { فِي الدُّنْيَا } بأنه مُسْتَجَاب الدعاء ، ويُحْيي الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه ، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته .
وقيل : في الدنيا ؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها ، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته .
فإن قيل : كيف كان وجيهاً في الدنيا ، واليهود عاملوه بما عاملوه ؟
والجوابُ : أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه ، مع أن اليهودَ طعنوا فيه ، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا ، ولم يقدح ذلك في وجاهته ، فكذا هنا .
قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } قيل " كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة ؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل .
وقيل : معناه : سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ .
وقيل : ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً ؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم .