اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ذَٰلِكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلۡغَيۡبِ نُوحِيهِ إِلَيۡكَۚ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يُلۡقُونَ أَقۡلَٰمَهُمۡ أَيُّهُمۡ يَكۡفُلُ مَرۡيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيۡهِمۡ إِذۡ يَخۡتَصِمُونَ} (44)

قوله : { ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ } يجوز فيه أوجه :

أحدها : أن يكون " ذَلِكَ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، وتقديره : الأمر ذلك . و{ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } - على هذا - يجوز أن يكون من تتمة هذا الكلام ، حالاً من اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الوقف على " ذَلِكَ " ويكون { مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } متعلقاً بما بعدَه ، وتكون الجملة من " نُوحِيهِ " - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالاً .

الثاني : أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ ، و{ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } خبره ، والجملة من " نُوحِيهِ " مستأنفة ، والضميرُ من " نوحِيهِ " عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في " نُوحِيهِ " . وهذا أحسن من عَوْده على " ذَلِكَ " ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على " ذَلِكَ " اختص بما مَضَى وتقدم .

الثالث : أن يكون " نُوحِيهِ " هو الخبر و { مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك ، أو متعلقاً ب " نُوحِيه " .

ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول " نُوحِيهِ " أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ .

فصل

الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء ، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة .

كما في قوله : [ الطويل ]

. . . *** فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا{[5408]}

وقال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . ويكون بالكتابة ، قال زهير : [ الطويل ]

أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ *** بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ{[5409]}

ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال : [ الكامل ]

فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا *** خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا{[5410]}

قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً .

قال القرطبيُّ : " وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ " .

وتعريفُ الوحي بأمر خفي من إشارة ، أو كتابة ، أو غيرها ، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً ، كقوله تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ }

[ النحل : 68 ] وقال - في الشياطين - : { لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً }[ مريم : 11 ] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً .

قوله تعالى : { إِذْ يُلْقُونَ } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً .

والثاني - وإليه ذهب الفارسي - : أنه منصوب ب " كُنْتَ " . وهو منه عجيب ؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ ، فكيف يعمل في الظرف ، والظرف وعاء للأحداث ؟

والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية ، وهو أن تكون " كان " تامة بمعنى : وما وُجدتَ في ذلك الوقت .

والضمير في " لَدَيْهِمْ " عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ - ؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم .

فإن قيل : لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها ، وهو أمر مجوز ؟

فالجواب : أن هذا الكلامَ ونحوه ، كقوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ } [ القصص : 46 ] وقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ }

[ يوسف : 102 ] وقوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا } [ هود : 49 ] - وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جارٍ مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي ، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك ، ولم تُدارِس أحداً في العلم ، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي .

ومعنى الآية : ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك ، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك . ثم قال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } .

أقلام : جمع قَلَم ، وهو فَعَل بمعنى مفعول ، أي : مَقْلُوم .

والقَلْمُ : القَطْع ، ومثله : القبض بمعنى المقبوض ، والنقض بمعنى المنقوض ، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة .

وقيل له : قَلَم ؛ لأنه يُقْلَم ، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته .

قال زهير : [ الطويل ]

لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ{[5411]}

وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً ، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف .

فصل

في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ :

أحدها : التي يُكْتَب بها ، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء ، فالحقُّ معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك ، فسلموا الأمر له ، وهذا قول الأكثرين .

الثاني : قال الربيع : ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء .

الثالث : قال أبو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة ، يكتبون عليها أسماءَهُمْ ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر ، قال تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً ؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى ، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً .

واختلفوا فيهم ، فقيل : هم سَدَنَةُ{[5412]} البيت ، وقيل : هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي .

قوله : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } هذه الجملة منصوبة المحل ؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف ، ذلك الفعل في محل نصب على الحال ، تقديره : يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم .

وجوز الزمخشريُّ : أن يقدَّر ب " يقولون " فيكون مَحْكيًّا به ، ودل [ على ذلك ] {[5413]} قوله ، يُلْقُون .

وقوله : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } كقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } .

فصل

اختلفوا في السبب ، الذي لأجله رغبوا في كفالتها ، حتى تنازعوا فيها :

قيل : لأن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم ، ومتقدِّماً فيهم ، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها .

وقيل : لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته ، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها . وقيل : لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها .

فصل

دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة ، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة .

قال القرطبيُّ : وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة ؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم ، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه{[5414]} ، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا معنى لها ، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها .

قال أبو عبيد : " وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم " .

قال ابنُ المُنْذِرِ : " واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء " .

فصل

قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما عدا الجَدَّة ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال : " الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ " .


[5408]:ينظر: اللسان (وحي)، والبحر المحيط 2/474، والدر المصون 2/93.
[5409]:البيت لكعب بن زهير وليس كما قال المصنف ينظر ديوانه (64) والبحر المحيط 2/474 وتفسير الطبري 2/406 والمحرر الوجيز 1/435 والدر المصون 2/93.
[5410]:البيت للبيد بن أبي ربيعة ينظر ديوانه 310 والخصائص 1/196 والجمهرة 1/172 وشرح القصائد العشر ص 201 واللسان (روى) 1/385 والبحر 2/475 والدر المصون 2/93.
[5411]:ينظر البيت في ديوانه ص 28 وشرح القصائد السبع ص 277 وشرح القصائد العشر ص 190 والبحر 2/474 والخزانة 3/16.
[5412]:في أ: خزنة.
[5413]:في ب: عليه.
[5414]:في أ: أحد.