قوله : { ذلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ } يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون " ذَلِكَ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، وتقديره : الأمر ذلك . و{ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } - على هذا - يجوز أن يكون من تتمة هذا الكلام ، حالاً من اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الوقف على " ذَلِكَ " ويكون { مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } متعلقاً بما بعدَه ، وتكون الجملة من " نُوحِيهِ " - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالاً .
الثاني : أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ ، و{ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } خبره ، والجملة من " نُوحِيهِ " مستأنفة ، والضميرُ من " نوحِيهِ " عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في " نُوحِيهِ " . وهذا أحسن من عَوْده على " ذَلِكَ " ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على " ذَلِكَ " اختص بما مَضَى وتقدم .
الثالث : أن يكون " نُوحِيهِ " هو الخبر و { مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ } على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك ، أو متعلقاً ب " نُوحِيه " .
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول " نُوحِيهِ " أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ .
الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء ، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة .
. . . *** فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا{[5408]}
وقال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . ويكون بالكتابة ، قال زهير : [ الطويل ]
أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ *** بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ{[5409]}
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال : [ الكامل ]
فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا *** خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا{[5410]}
قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً .
قال القرطبيُّ : " وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ " .
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من إشارة ، أو كتابة ، أو غيرها ، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً ، كقوله تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ }
[ النحل : 68 ] وقال - في الشياطين - : { لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً }[ مريم : 11 ] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً .
قوله تعالى : { إِذْ يُلْقُونَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً .
والثاني - وإليه ذهب الفارسي - : أنه منصوب ب " كُنْتَ " . وهو منه عجيب ؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ ، فكيف يعمل في الظرف ، والظرف وعاء للأحداث ؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية ، وهو أن تكون " كان " تامة بمعنى : وما وُجدتَ في ذلك الوقت .
والضمير في " لَدَيْهِمْ " عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ - ؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم .
فإن قيل : لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها ، وهو أمر مجوز ؟
فالجواب : أن هذا الكلامَ ونحوه ، كقوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ } [ القصص : 46 ] وقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ }
[ يوسف : 102 ] وقوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا } [ هود : 49 ] - وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جارٍ مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي ، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك ، ولم تُدارِس أحداً في العلم ، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي .
ومعنى الآية : ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك ، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك . ثم قال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } .
أقلام : جمع قَلَم ، وهو فَعَل بمعنى مفعول ، أي : مَقْلُوم .
والقَلْمُ : القَطْع ، ومثله : القبض بمعنى المقبوض ، والنقض بمعنى المنقوض ، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة .
وقيل له : قَلَم ؛ لأنه يُقْلَم ، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته .
لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ *** لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ{[5411]}
وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً ، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف .
في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ :
أحدها : التي يُكْتَب بها ، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء ، فالحقُّ معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك ، فسلموا الأمر له ، وهذا قول الأكثرين .
الثاني : قال الربيع : ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء .
الثالث : قال أبو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة ، يكتبون عليها أسماءَهُمْ ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر ، قال تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً ؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى ، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً .
واختلفوا فيهم ، فقيل : هم سَدَنَةُ{[5412]} البيت ، وقيل : هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي .
قوله : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } هذه الجملة منصوبة المحل ؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف ، ذلك الفعل في محل نصب على الحال ، تقديره : يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم .
وجوز الزمخشريُّ : أن يقدَّر ب " يقولون " فيكون مَحْكيًّا به ، ودل [ على ذلك ] {[5413]} قوله ، يُلْقُون .
وقوله : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } كقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } .
اختلفوا في السبب ، الذي لأجله رغبوا في كفالتها ، حتى تنازعوا فيها :
قيل : لأن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم ، ومتقدِّماً فيهم ، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها .
وقيل : لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته ، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها . وقيل : لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها .
دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة ، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة .
قال القرطبيُّ : وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة ؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم ، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه{[5414]} ، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا معنى لها ، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها .
قال أبو عبيد : " وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم " .
قال ابنُ المُنْذِرِ : " واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء " .
قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما عدا الجَدَّة ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال : " الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ " .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.