اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ أَرُونِيَ ٱلَّذِينَ أَلۡحَقۡتُم بِهِۦ شُرَكَآءَۖ كَلَّاۚ بَلۡ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (27)

قوله : «أَرْوني » فيها وجهان :

أحدهما : أنها علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين فلما جيء بهمزة النقل تعدت لثلاثةٍ أولها «ياء » المتكلم ثانيها «الموصول » ، ثالثها : «شركاء » وعائد الموصول محذوف أي أَلْحَقْتُمُوهُمْ .

والثاني : أنها بصرية متعدية قبل النقل لواحد وبعده لاثنين أولهما : يَاء المتكلم وثانيهما : الموصول و «شركاء » نصب على الحال من عائد الموصول أي بَصِّرُوني المُلْحَقِينَ به حالَ كونهم شركاء{[44608]} . قال ابن عطية في هذا الثاني «ولا غناء »{[44609]} له أي لا مَنْفَعَة فيه يعني أن معناه ضعيف{[44610]} . قال أبو حيان : وقوله : «لا غناء له » ليس بجيد بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ولا يريد حقيقة التنزيل{[44611]} بل المعنى الذين هم شركاء لله على زعمكم هم ممن إن أريتموهم افتضحتم لأنه خشب وحجر وغير ذلك{[44612]} .

فصل

الضمير في «به » أي بالله أي أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في العبادة معه هل يخلقون وهل يرزقون ؟ كلاّ لا يَخْلُقُون ولا يرزقون{[44613]} .

قوله : «بل هو الله » في هذا الضمير قولان :

أحدهما : أنه ضمير عائد على الله تعالى أي ذلك الذي ألحقتم به شركاء هُو الله ، و «الْعَزِيزُ الحَكِيمُ » صفتان .

والثاني : أنه ضمير الأمر والشأن و «اللَّهُ » مبتدأ ، و «الْعَزِيزُ والْحَكِيمُ » خبران ، والجملة . . . خبر{[44614]} «هو » والعزيز هو الغالب على أمره ، ( و ) الحكيمُ في تدبيره لخلقه فأنى يكون له شريك في ملكه ؟

قوله : «كافَّةً » فيه أوجه :

أحدها : أنه حال من كاف{[44615]} «أَرْسَلْنَاكَ » والمعنى إلا جامعاً للناس في الإبلاغ . والكافة بمعنى الجامع والهادي لله{[44616]} للمبالغة كَهي في «علاَّمَة » و «رَاوِيَة »{[44617]} قال الزجاج : وهذا بناء منه على أنه اسم فاعل من كَفَّ يَكُفُّ{[44618]} ، قال أبو حيان : أما قول الزجاج إنّ كافة بمعنى جامعاً ، والهاء فيه للمبالغة فإن اللغة لا تساعده على ذلك لأن كف ليس معناه محفوظاً بمعنى «جَمَعَ » . يعني أنَّ المحفوظ معناه «مَنَعَ » يقال : كَفّ يكُفُّ أي منع والمعنى إلا مانعاً لهم من الكفر وأن يشِذّوا من تبليغك ، ومنه الكف لأنها تَمْنَعُ مَا فِيهِ{[44619]} .

الثاني : أن كافة مصدر جاءت على الفَاعِلَةِ كالعَاقِبَة والعافية وعلى هذا فوقوعها حالاً إما على المبالغة وإما على حذف مضاف أي ذَا كَافَّةٍ لِلنَّاسِ{[44620]} .

الثالث : أن كافة صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إرْسَالَةً كَافَّةً قال الزمخشري : إلاَّ إرْسَالَة عامَّةً لهم محيط بهم لأنها إذا شَمِلتْهُمْ فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم{[44621]} . قال أبو حيان : أما كافة بمعنى عامة فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفةً لموصوفٍ محذوفٍ{[44622]} .

الرابع : أن «كافة » حال من «لِلنَّاس » أي للناس كافةً إلا أنّ هذا قدره الزمخشري فقال : «وَمَنْ جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار وكم ترى من يرتكب مثل هذا الخطأ ثم لا يَقَْنَعُ به حتى يضُمَّ إليه أن يجعل اللام بمعنى «إلَى » ؛ لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فيرتكب{[44623]} الخطأين معاً »{[44624]} . قال أبو حيان : أما قوله كذا{[44625]} فهو مختلف فيه ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز ، وذهب أبو علي{[44626]} وابن كَيْسَانَ{[44627]} وابن بَرْهَانَ{[44628]} وابن مَلْكُون{[44629]} إلى جَوَازِهِ قال : وهو الصحيح{[44630]} قال : ومن أمثله أبي علي : «زيدٌ خَيْراً مَا يكونُ خَيْرٌ مِنْكَ » التقدير : زيد خير منك خَيْراً ما يكون فجعل «خَيْراً ما يَكُونُ » حالاً من الكاف في «منك » وقدمها عليها وأنشد :

4134- إذَا الْمَرْءُ أَعَيَتْهُ المُرُوءَةُ نَاشِئاً . . . فَمَطْلَبُها كَهْلاً عَلَيْهِ شَدِيدُ{[44631]}

أي فمطلبها عليه كهلاً ، وأنشد أيضاً :

4135- تَسَلَّيْتُ طُراً عَنْكُمُ بُعْدَ بَيْنِكُمْ . . . بِذِكْرَاكُمْ حَتَّى كَأنَّكُمْ عِنْدِي{[44632]}

أي عَنْكُمْ طُرًّا ، وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور على ما يتعلق به قال الشاعر :

4136- مَشْغُوفَةً بِكَ قَدْ شُغِفْتُ وإنَّمَا . . . حُمَّ الفِرَاقُ فَمَا إلَيْكَ سَبِيلُ{[44633]}

أي قد شغفت بك مشغوفة وقال الآخر :

4137- غَافِلاً تَعْرِضُ المِنَيَّةُ لِلْمَرْءِ . . . فَيُدْعَى وَلاتَ حِينَ إباءِ{[44634]}

أي تَعْرِضُ المنيةُ للمرء غافلاً قال : وإذا جاز تقديمها{[44635]} على صاحبها وعلى العامل فيه فتقديمها على صاحبها وحده أجْوَز{[44636]} قال : وممن حمله{[44637]} على الحال ابن عطية فإنه قال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله إلى العرب وللعجم ولسائر الأمم وتقديره إلى الناس كافةً{[44638]} . وقول الزمخشري : لا يستوي له الخطأ الأول إلى آخره شنيع لأن القائل بذلك لا يحتاج إلى جعل اللام بمعنى «إلى » لأن «أَرْسَلَ » يتعدى باللام قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } [ النساء : 79 ] وأرسل مما يتعدى باللام وبإلى وأيضاً فقد جاءت اللام بمعنى «إلَى » و «إلَى » بمعناها{[44639]} .

قال شهاب الدين : أما أرسلناك للناس فلا دلالة فيه لاحتمال أن تكون اللام لام المجازيَّة وأما كونها بمعنى «إلى » والعكس فالبصريونَ{[44640]} لا يَتَجَوَّزُونَ{[44641]} في الحروف ، و «بَشِيراً » و «نَذِيراً » حالان أيضاً .


[44608]:هذا قول أبي حيان في البحر 7/280 والشهاب السمين في الدر 4/440 ومعنى كلام القرطبي في الجامع 14/300 قال: "يكون أروني هنا من رؤية القلب فيكون "شركاء" المفعول الثالث أي عرفوني الأصنام التي جعلتموها شركاء لله عز وجل وهل شاركت في خلق شيء فبينوا ما هو؟ وإلا فلم تعبدونها؟ ويجوز أن تكون من رؤية البصر فيكون "شركاء" حالا".
[44609]:في "ب" ولا غنى قصر وكلتاهما صحيحتان.
[44610]:بحر أي حيان المرجع السابق.
[44611]:في البحر "الأمر" لا التنزيل.
[44612]:البحر المرجع السابق.
[44613]:القرطبي 14/300.
[44614]:هذا معنى عبارة الزمخشري في الكشاف 3/290 قال: "كأنه قال أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات وهو راجع إلى الله وحده أو ضمير الشأن".
[44615]:قاله في المشكل 2/209 والبيان 2/280 والمعاني للفراء 2/362 والتبيان 1069.
[44616]:القرطبي 14/300 والبيان 2/280 والتبيان 1069.
[44617]:المراجع السابقة.
[44618]:هذا معنى كلامه في إعراب القرآن له قال: "معنى كافة الإحاطة في اللغة والمعنى أرسلناك للناس جامعا في الإنذار والإبلاغ".
[44619]:تكاد التفاسير تجمع على أن كافة بمعنى تمامه فقد قال بذلك ابن قتيبة في الغريب 357، والزمخشري في الكشاف 3/290، وأبو عبيدة في مجاز القرآن 2/149 والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 14/300 وزاد المسير لابن الجوزي 6/546 والخازن والبغوي 5/291 و 292 والفخر الرازي في تفسيره 25/258.
[44620]:البحر المحيط 7/281.
[44621]:قاله في الكساف 3/290.
[44622]:قال ذلك في البحر المحيط 7/281.
[44623]:في الكشاف : "فلا بد له من ارتكاب الخطأين".
[44624]:انظر: الكشاف 3/290.
[44625]:قاله في البحر المحيط 7/281.
[44626]:هو الفارسي.
[44627]:هو أبو الحسن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان كان يحفظ أقوال البصريين والكوفيين فقد أخذ عن ثعلب والمبرد له مصنفات في النحو منها المهذب، والمختار في علل النحو، مات سنة 299 هـ انظر: إنباه الرواة 3/57-59 ونزهة الألباء 161.
[44628]:أبو القاسم عبد الواحد بن علي العكبري نظر في النحو واشتهر فيه وله آراء منثورة في كتب النحو مات سنة 456 هـ. انظر: المرجع السابق إنباه الرواة 2/113-215 وانظر: بغية الوعاة للسيوطي 2/120.
[44629]:ترجم له سابقا.
[44630]:قال السيوطي في الهمع: "فقد قال بالجواز مطلقا الفارسي وابن كيسان وابن برهان وصححه ابن مالك" الهمع 1/241.
[44631]:من الطويل وهو للمخبل السعدي. وشاهده: "كهلا عليه" حيث قدم الحال على صاحبها المجرور بحرف وهناك حال آخر وهو "ناشئا" ولا شاهد فيه، انظر: الأشموني 2/178 والدر المصون 4/442 والبحر المحيط 7/281 وشرح رضي الدين على كافية ابن الحاجب 1/207 وفتح القدير برواية "السيادة" بدل "المروءة" 4/327 ومجمع البيان 7/791 وعيون الأخبار لابن قتيبة 1/247، وشرح ديوان الحماسة 1148.
[44632]:من الطويل كسابقه ولكنه في تلك المرة مجهول وشاهده كسابقه أيضا حيث تقدم الحال على صاحبه المجرور بالحرف "طرا عنكم" ومعنى "طرا" : جميعا والبين الفراق. انظر: الأشموني على ابن مالك 2/177، والدر 4/442، والبحر 7/281 والتصريح 1/379 وشرح ابن الناظم 129 وفتح القدير للشوكاني 4/327.
[44633]:من تمام الكامل مجهول القائل وشغفه الحب شغافة وهو غلاف القلب ويجوز "شعفه" بالعين من شعفه أي أحرقه وقيل: أمرضه وحم: قدر. والفاء للتعليل و "ما" نفي. والشاهد: مشغوفة بك حيث وقع حالا مقدما من المجرور وهو الكاف مجرور محلا، وقدم الحال على "بك" وما تعلق به الجار وهو "شغفت"، وانظر: الأشموني 2/177 وشرح ابن الناظم 129 والبحر المحيط 7/271 والدر المصون 4/442.
[44634]:من الخفيف مجهول القائل وشاهده كما قبله "غافلا تعرض المنية للمرء" حيث قدم الحال على صاحبه المجرور "للمرء" وما تعلق به الجار وهو "تعرض و "لات" بمعنى ليس واسمها محذوف والخبر هو "حين إباء" أي وليس الحين إباء "أي امتناع" وقد تقدم.
[44635]:البحر المرجع السابق.
[44636]:كذا هي في البحر وما في "ب" أجود.
[44637]:المرجع السابق.
[44638]:المرجع السابق.
[44639]:البحر المحيط مع تصرف ببعض كلماته.
[44640]:كذا هي في الدر المصون 4/443.
[44641]:في (ب) لا يجوزون. وقد قال أبو البقاء في التبيان: "وذاك أن اللام على هذا تكون بمعنى إلى إذ المعنى أرسلناك إلى الناس، ويجوز أن يكون التقدير: من أجل الناس" التبيان 1069.