قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } اللام في «لمن » فيها أوجه :
أحدها : أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة قال أبو البقاء{[44537]} : وفيه نظر وهو أنه يلزم أحد أمرين إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها وإما حذف مفعول «تنفع » وكلاهما خلافُ الأصل{[44538]} .
الثاني : أنه استثناء مفرغ من مفعول الشّفاعة المقدر أي لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ له ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له وهو الظاهر والشافع ليس مذكوراً إنما دل عليه الفحوى والتقدير :
لاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعة لأحدٍ من المشفوع لهم إلا لِمَنْ أَذِنَ له تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه ويجوز أن يكون هو الشافع والمشفوع له ليس مذكوراً تقديره لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع وعلى هذا فاللام في «لَهُ » لام التبليغ{[44539]} لا لام العلة{[44540]} .
الثالث : أنه استثناء مفرغ أيضاً لكن من الأحوال العامة تقديره لا تنفع الشفاعةُ إلا كائنة لمن أذن له{[44541]} . وقدره الزمخشري فقال : تقول الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع كما تقول : الكرم لزيد على معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل قوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعةُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه } أن يكون على أحد هَذَيْن الوَجْهَينِ أي لا تنفع الشافعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له أو لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا كائنة لمن أذن له أي لشفيعه أو هي اللام الثانية في قولك : «أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أي لأجله فكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وهذا وجه لطيفٌ وهو الوجهُ . انتهى{[44542]} . فقوله : " الكرم لزيد " يعني أنها ليست{[44543]} لام العلة بل لام الاختصاص{[44544]} . وقوله : القيام لزيدٍ يعني أنها لام العلة{[44545]} كما هي في : «القيامُ لزيدٍ » وقوله : «أَذِنَ زَيْدٌ لِعَمْرو » أن الأولى للتبليغ والثانية لام العلة ، وقرأ الأخَوانِ وأبو عمرو «أُذِنَ » مبنياً للمفعول والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور والباقون مبنياً للفاعل أي أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى وقد صرح به في قوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ } [ النجم : 26 ] و «إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَن »{[44546]} .
معنى الآية إلاَّ لِمَنْ أَذِنَ اللَّهُ له في الشفاعة قاله تكذيباً لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ويجوز أن يكون المعنى إلا لمن أذن الله في أن يَشَفْعَ لَهُ{[44547]} .
قوله : { حَتَّى إذَا } هذه غاية لا بدّ لها من مُغَيَّا وفيه أوجه :
أحدها : أن قوله : «فَاتَّبعوه » على أن يكون الضمير في «عَلَيْهِمْ » من قوله : «صَدقَ عَلَيْهِمْ » وفي «قُلُوبِهم » عائداً على جميع الكفار ويكون التفريغ حالة مفارقة الحياة أو يجعل اتباعهم إياه مفارقة{[44548]} إلى يوم القيامة مجازاً . والجملة من قوله «قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زعمتُمْ » معترضة بين الغاية والمغيا . ذكره أبو حيان . وهو حسن{[44549]} .
والثاني : أنه محذوف قاله ابن عطية كأنه قيل : ولا هم شفاء كما تُحبّون أنتم بل هم عبدة أو مسلمون أي منقادون «حَتَّى إذَا فُزِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ » انتهى{[44550]} . وجعل الضمير في «قُلُوبِهِمْ » عائدا على الملائكة وقدر ذلك وضعف قول من جعله عائداً على الكفار أو على جميع العالم .
وقوله : { قَالُوا مَاذَا } هو جواب «إذا » ، وقوله : { قَالُوا الحَقَّ } جواب لقوله : «مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ »{[44551]} و «الحَقَّ » منصوب بقَال مُضْمَرة أي قالوا : قَالَ رَبُّنَا الحَقَّ أي القَوْلَ الحَقَّ{[44552]} ، إلاَّ أنَّ أبا حيان ردّ هذا فقال : وما قدّره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ( و ){[44553]} هم منقادون عنده دائماً لا ينفكون عن ذلك لا إذَا فُزِّع عَن قُلُوبِهِمْ ولا إذا لم يُفَزَّعْ{[44554]} .
الثالث : أنه «زَعَمْتُمْ » أي زعمتم الكفر في غاية التفريغ ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله : «زعَمْتُمْ » إلى الغيبة في قوله : «قُلُوبِهِمْ »{[44555]} .
الرابع : أنه ما فهم من سياق الكلام{[44556]} ، قال الزمخشري : فإن قلت{[44557]} : بأي شيء اتصل قوله : «حَتَّى إذَا فزع » ؟ ولأي شيء وقَعَتْ «حَتَّى » غايةً ؟ قلتُ : بما فهم من هذا الكلام من أن ثَمَّ انتظاراً للأذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين الشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لايؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلاَّ بعد مليِّ من الزمان وطول من التَّربُّص ودل على هذه الحالة قوله - عزّ من قائل - { رَّبِّ السماوات والأرض } [ النبأ : 37 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملِيًّا فزعين وَجِلينَ{[44558]} حتى إذا فُزِّعَ عن قلوبهم أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تَبَاشَرُوا بذلك وقال بعضهم لبعض : ماذَا قَالَ رَبَّكم قالوا الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى وقرأ ابن عامر فَزَّعَ مبنياً للفاعل{[44559]} . فإن كان الضمير في «قلوبهم » للملائكة فالفاعل في «فزع » ضمير اسم الله تعالى لتقدم ذكره وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مُغْويهِمْ . كذا قال أبو حيان{[44560]} . والظاهر أنه يعود على الله مطلقاً وقرأ الباقون مبنياً للمفعول{[44561]} والقائم مقام الفاعل الجارّ بعده{[44562]} ، وفعل بالتشديد معناه السلب هنا نحوه «قَرَّدْتُ البَعِيرَ » أي أزلتُ قُرَادَهُ كذا هنا أي أزال الفَزَعَ عنها أي كشف الفَزَعَ وأخرجه عن قلوبهم فالتفزيعُ لإزالة الفزع كالتَّمْريض والتَّقْرِيد{[44563]} .
وقرأ الحَسَنُ فُزِعَ مبنياً للمفعول مخففاً{[44564]} كقولك «ذُهِبَ{[44565]} بِزَيْدٍ »{[44566]} ، والحسن أيضاً وقتادة ومجاهد فَرَّغَ مشدداً مبنياً للفاعل{[44567]} من الفَرَاغِ وعن الحسن أيضا تخفيف الراء ، وعنه{[44568]} أيضا وعن ابن عمر وقتادة مبنيا للمفعول{[44569]} والفراغ الفَنَاءُ والمعنى حتى إذا أفنى الله الرجل أو انتفى بنفسه أو نفى الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مَقَامه وقرأ ابنُ مسعود وابنُ عمر افْرُنْقِعَ من{[44570]} الافرنقاع{[44571]} وهو التفرق قال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب «اقمطَرَ » من حروف القمط مع زيادة الراء{[44572]} ، قال أبو حيان : فإن عنى أن العين من حروف الزيادة ( وكذا الراء وهو{[44573]} ظاهر كلامه فليس بصحيح لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة ) وإن عنى أنَّ الكلمة فيها حروف ما ذكر وزاد إلى ذلك العين والراء والمادة «فَرْقَعَ وقَمْطَرَ » فهو صحيح انتهى{[44574]} ، وهذه قراءة مخالفة للشواذ ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ نص أهل البيان عليها{[44575]} ومثلوا بها وحكي عن عيسى{[44576]} بن عمر أنه غُشِيَ عليه ذات يوم فاجتمع عليه النَّظَّارة فلما أفاق قال : «ما لي أرَاكُمْ تَكَأكأتم عَلَيَّ تكأكؤكم عَلَى ذِي جِنَّةٍ افْرَنْقِعُوا عنّي » أي اجتمعتم عليّ اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني فعابها الناس عليه حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة ، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع الحق على أنه خبر مبتدأ مضمر أي قالوا : قَوْلُهُ الحَقُّ{[44577]} .
اختلفوا في الموصوفين بهذه الصفة فقيل : هم الملائكة{[44578]} ، ثم اختلفوا في ذلك السبب فقال بعضهم إنَّما يفزع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله - عزّ وجلّ - لِمَا روى أبو هريرة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال «إذَا قَضَى اللَّهُ الأمر فِي السَّمَاءِ ضَرَبت المَلاَئِكَةُ بأجْنِحَتِهَا خُضْعَاناً »{[44579]} لِقَوْلِهِ كأنه سلسلة على صَفْوان{[44580]} فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير{[44581]} . وقال - عليه ( الصلاة{[44582]} و ) السلام- : «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خَوْفاً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإذَا سَمِعَ بِذَلِكَ أهْلُ السَّمَواتِ ضَعُفُوا وخَرُّوا لِلَّهِ سُجَّداً فيكُونُ أَوّلَ مَنْ يَرْفَعُ رَأسَهُ جبريل فُيَكلِّمهُ مِنْ وَحِيْهِ بَمَا أَرَادَ ثُمَّ يَمُرُّ جِبْريلُ عَلَى المَلاَئِكَةِ كُلَّمَا مَرَّ بسَماءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا ماذَا قَال رَبُّنَا يَا جبريلُ ؟ فيقُول جِبْريلُ الحقّ وهُو العَليُّ الكبيرُ قال : فيَقُولُون كُلُّهُمْ مثْلَ مَا قَالَ جبْريل . فَيَنْتَهِي جِبْريلُ بالوحي حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ »{[44583]} . وقيل : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة{[44584]} . قال مقاتل والسدي : كانت الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما ( الصلاة{[44585]} و ) السلام - خمسمائة سنة . وقيل : سمتائة سنة{[44586]} لم تسمع الملائكة فيها وحياً فلما بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - كلَّم جبريل - عليه ( الصلاة و ) السلام - بالرسالة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعت الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمدا – عليه ( الصلاة و ) السلام- عند أهل السموات من أشراط الساعة فصعقوا مما سمعوا خوفاً من قيام الساعة فلما انْحدَرَ جبريلُ جعل يمُرُّ بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربُّكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير وقيل : الموصوف بذلك المشركون . قال الحسن{[44587]} وابن زيد : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت إقامةً للحجة عليهم قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فأقروا به حين لم ينفعهم الإقرار .
قوله : «وهو العلي الكبير » فقوله : «الحق » إشارة إلى أنه كامل وقوله : «وهو العلي الكبير » إشارة إلى أنه فوق الكاملين في ذاته وصفاته .