( قوله ){[44353]} تعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَة } قرأ حمزة وحفص مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف مفرداً ، والكسائي كذلك إلا أنه كسر الكاف والباقون مَسَاكِنِهِمْ جمعاً{[44354]} فأما الإفراد فلعدم اللبس لأن المراد الجمع كقوله :
4125- كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[44355]} . .
والفتح هو القياس لأن الفعل متى ضمت عين مضارعه أو فتحت جاء المفعل منه زماناً أو مكاناً أو مصدراً بالفتح والكسر مسموع على غير قياس{[44356]} ، وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشيةٌ وهي لغة الناس اليوم والكسر لغة الحجاز وهي قليلة{[44357]} وقال الفراء : هي لغة يمانية فَصِيحةٌ{[44358]} .
و «مسكنهم » يحتمل أن يراد به المكان ، وأن يراد به المصدر أي السُّكْنَى{[44359]} ، ورجح بعضهم الثاني ، قال : لأن المصدر يشمل الكل ، فليس فيه وَضْعُ مفرد مَوْضع جمع بخلاف الأول فإن فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمع ، كما تقرر{[44360]} ، لكن سيبويه يأباه إلاَّ ضَرُورةً{[44361]} كقوله :
4126- . . . . . . . . . . . . . . . . . قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهُمْ جلدُ الجَوَامِيس{[44362]}
أي جلود ، وأما الجمع فهو الظاهر لأن كل واحد مسكن ، ورسم في المصاحف دون ألف بعد الكاف فلذلك احتمل القراءات المذكورة .
لما بين حال الشاكرين لِنِعَمِهِ بذكر داود وسليمان وبيَّن حال الكافرين بأنْعُمهِ{[44363]} ، بحكاية أهل «سبأ »{[44364]} وقرئ سَبَأ بالفتح على أنه اسم بُقْعَة ، وبالجر مع التنوين على أنه اسم قبيلة{[44365]} ، وهو الأظهر لأن الله جعل الآية لسبأ والظاهر هو العاقل لا المكان فلا يحتاج إلى إضمار الأهل{[44366]} ، وقوله «آية » أي من فضل ربهم دلالةً على وحدانيتنا وقدرتنا وكانت مساكنهم بمأرب من اليمن واسم سَبَأ عبد شمس بن يشجُب بن يَعْرُب بن قَحْطَان{[44367]} وسمي ( سبأ{[44368]} ) لأنه أول من سبأ من العرب .
قال السُّهَيْليّ{[44369]} : ويقال : إنه أول من تبرج{[44370]} ، وذكر بعضهم أنه كان مسلماً وكان له شعر يشير فيه بوجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم{[44371]} - قال ( يعني سليمان{[44372]} عليه الصلاة والسلام ) :
4127- سَيَمْلكُ بَعْدنا ملكاً عَظِيماً . . . نَبِيُّ لاَ يرخِّصُ في الحَرَامِ
وَيملِكُ بَعْدُ منهم مُلُوك . . . يدينون العباد بغير دامِ
وَيملِكُ بعده منهم ملوك . . . يصيرُ الملك فينا باقتِسام
وَيملك بَعْدَ قَحْطَانَ نَبِيُّ . . . نفى جنته خير الأنام
يسمى أحمدَ يَا لَيْتَ أنّي . . . أُعَمَّر بعد مَبْعثَهِ بعَامِ
فأعضُدُه وأحبُوه بنَصْرِي . . . بكُلّ مُدَجَّج وبِكُلِّ رَامِي
مَتَى يَظْهَرْ فكُونوا ناصِرِيهِ . . . ومن يلقاه يُبْلِغْه سَلامِي{[44373]}
روى ابن عباس{[44374]} قال سأل فروة بن مسيك الغطيفي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبأ ما هو ؟ أكان رجلاً أو امرأة أو أرضاً ؟ قال : بل هو رجل من العرب ولد عشرة من الولد فسكن اليمن منهم ستة وبالشام منهم أربعة فأما الذين تيامنوا{[44375]} فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحِمير فقال رجل وما أنمار ؟ قال : الذين منهم خثْعم وبجيلة ، وأما الذين تشامُوا{[44376]} فلَخم وجُذام وعاملة وغسان ، ولما هلكت أموالهم وخربت بلادهم تفرقوا في غور البلاد ونجدها أيدي سبا شَذَر مذر ، فلذلك قيل لكلّ متفرقين بعد اجتماع : «تَفَرَّقُوا أَيَادي سَبَا »{[44377]} فنزلت طوائف منهم الحجاز فمنهم خُزَاعة نزلوا بظاهر مكة ومنهم الأوسُ والخَزْرج نزلوا بيثرب فكانوا أول من سكنها ثم نزلت عندهم ثلاث قبائل من اليهود بنو قَيْنُقَاع وبنو قُرَيْظَة والنَّضير فخالفوا الأوس والخزرد وأقاموا عندهم ونزلت طوائف أُخَرُ منهم الشام وهم الذين تنصروا فيما بعد وهم غَسَّان وعامِلة ولخم وجذام وتنوخ وتغلب وغيرهم ، و «سبأ » يجمع هذه القبائل كلها .
والجمهور على أن جميع العرب ينقسمون{[44378]} إلى قسمين قحطانية وعَدْنَانيَّة ، فالقحطانية شَعْبَان سبأ وحَضْرَمَوْتَ والعَدْنَانيَّة شعبان ربيعةُ ومُضَر وأما قُضَاعَةُ فمختلف فيها فبعضهم نسبها إلى قَحْطَان وبعضهم إلى عدنان ، قيل : إن قحطان أول من قيل له : أنْعِمْ صباحاً ، وأبَيْتَ اللَّعْنَ قال بعضهم : إن جميع العرب ينتسبون إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما ( الصلاة و ){[44379]} السلام وليس بصحيح فإن إسماعيل نشأ بين جرهم بمكة وكانوا عرباً . والصحيح أن العرب العاربة كانوا قبل إسماعيل منهم عاد وثمود وطسم وجديس وأَهم وجرهم والعماليق يقال : إن «أهم » كان ملكاً يقال إنه أول من سقَّف البيوت بالخشب المنشور وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر وبنوه قبيلة ، يقال لها : وَبَار هلكوا بالرمل انثال عليهم فأهلكهم وطمَّ ( مناهلهم ){[44380]} وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
4128- وَكَرَّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارِ . . . فَهَلَكت عَنْوَةً وَبَارُ{[44381]}
قوله : «جنتان » فيه ثلاثة أوجه :
الرفع على البدل من{[44382]} «آية » وأبدل مُثَنَّى من مفرد لأن هذا المفرد يصدق على هذا{[44383]} المثنى وتقدم في قوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر{[44384]} . وضعف ابن عطية الأول ولم يبينه{[44385]} . ولا يظهر{[44386]} ضعفه بل قوته وكأنه توهم أنهما مختلفان إفراداً أو تثنية فلذلك ضعف البدل عنده والله أعلم{[44387]} .
الثالث - وإليه نحا ابن عطية - أن يكون جنتان مبتدأ وخبره «عَنْ يَمِينٍ وشِمَالٍ »{[44388]} .
وردَّة أبو حيان بأنه ابتداء بنكرة من غير مسوغ واعْتُذِرَ عنه بأنه قد يعتقد حذف صفة أي جَنَّتَانِ لهم أو جنتان عَظِيمَتان فيصح ما ذهب إليه{[44389]} وقرأ ابن أبي عبلة جنتين بالياء نصباً على خبر كان واسمها «آية »{[44390]} .
فإن قيل : اسم كان كالمبتدأ ولا مسوغ للابتداء به حتى يجعل اسم كان والجواب أنه يخصص بالحال المتقدمة عليه وهي صفته في الأصل ألا ترى أنه لو تأخر «لِسَبأٍ » لكان صفة «لآية » في هذه القراءة{[44391]} .
قوله : «عَنْ يَمينٍ » إما صفة لجنتان أو خبر مبتدأ مضمر أي هما عن يمين{[44392]} . قال المفسرون أي عن يمين الوادي وشماله .
وقيل : عن يمين من أتاها وشماله وكان لهم وادٍ قد أحاط الجنتان بذلك الوادي{[44393]} .
قال الزمخشري : أيَّةُ آيَةٍ في جنتين مع أن بعض بلاد العراق فيها ألف من الجِنَان ؟ وأجاب بأن المراد لكل واحد جنتين أو عن يمين أيديهم وشمالهم جماعات من الجنان ولإيصال بعضها ببعض جعلها جنة واحدة{[44394]} .
قوله : «كُلُوا » على إضمار القول أي قَالَ اللَّه أو المَلَكُ كُلُوا من{[44395]} رزق ربكم .
وهذه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم واشكروا له على ما رزقكم من النعمة فإن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة أي اعملوا له بطاعته{[44396]} . قوله «بَلْدَةٌ » أي بَلْدَتكُمْ بلدةً ( طيبة ){[44397]} وربكم «رَبُّ غَفُورٌ » والمعنى أن أرض سبأ بلدة طيبة ليست مسبخة{[44398]} .
قال ابن زيد : لم ير في بلدتهم بَعُوضَة ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا وباءٌ ولا وَخَم وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل فيموت القمل كلها{[44399]} من طيب الهواء ، فذلك قوله : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي طيبة الهَوَاءِ «ورب غفور »{[44400]} قال مقاتل : وربكم إن شَكَرْتُمْ فيما رزقكم رب غفور للذنوب{[44401]} . وقيل ورب غفور أي لا عقاب عليه ولا عذاب في الآخرة{[44402]} وقرأ رويس{[44403]} بنصب «بلدةٍ ، وَرَب » على المدح أو اسكنوا أو اعبدوا{[44404]} وجعله أبو البقاء مفعولاً به والعامل فيه «اشْكُرُوا »{[44405]} وفيه نظر ؛ إذ يصير التقدير اشكروا لربكم رَبًّا غفوراً{[44406]} ،