اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞قُلۡ إِنَّمَآ أَعِظُكُم بِوَٰحِدَةٍۖ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَٰدَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِيرٞ لَّكُم بَيۡنَ يَدَيۡ عَذَابٖ شَدِيدٖ} (46)

قوله : { قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال : { أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ } أي لأجل الله .

قوله : «أن تقوموا » فيه أوجه :

أحدها : أنها مجرورة المحل بدلاً من «وَاحِدَةٍ » على سبيل البيان . قاله الفارسي{[44804]} .

الثاني : أنها عطف بيان «لواحدة » قاله الزمخشري{[44805]} . وهو مردود لتخالفها تعريفاً وتنكيراً ، وقد تقدم هذا عند قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] .

الثالث : أنها منصوبة بإضمار «أَعْنِي »{[44806]} .

الرابع : أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا{[44807]} ، و «مَثْنَى وفُرَادَى » حال{[44808]} . وتقدم تحقيق القول في «مثنى » وبابه في سورة النساء{[44809]} ، ومضى القول في «فُرَادَى » في الأنعام{[44810]} ، ومعنى «مَثْنَى » أي اثنين اثنين ، و «فُرَادَى » واحداً واحداً . ثم قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } عطف على «أنْ تَقُومُوا » أي قِيَامكُمْ ثم تَفَكُّركُمْ ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية ثم يتبدئ : «مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ »{[44811]} . وقال مقاتل : تم الكلام ( عند ){[44812]} قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له{[44813]} .

قوله : { مَا بِصَاحِبكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } وفي «ما » هذه قولان :

أحدهما : أنها نافية{[44814]}

والثاني : أنها استفهامية{[44815]} لكن لا يراد به حقيقة الاستفهام فيعود إلى النفي . وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تَتَفَكَّرُوا » لأنه فعل تحقيق كتَبَيَّنَ وبابه ؟ ثلاثة أوجه نَقَل الثَّالِثَ ابنُ عطية{[44816]} . وربما نسبه لِسِيبويهِ ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و «مِنْ جنَّةٍ » يجوز أن يكون فاعلاً بالجار{[44817]} لاعتماده{[44818]} وأن يكون مبتدأ{[44819]} ، ويجوز في «ما » إذا كانت نافية أن تكون الحجَازيَّة أو التَّمِيميَّة{[44820]} .

قوله : { مثنى وفرادى } إشارة إلى جميع الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله «مَثْنَى » وإن كان وحده دخل في قوله : «فُرَادَى » فكأنه قال : تَقُومُوا لله مجتَمعِينَ ومُنْفَرِدِين لا يمنعكم الجمعيَّةُ من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يُعينكم على ذكر الله{[44821]} ، ثم تتفكروا في حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة » جنون . وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القيام بالأمر الذي هو طلب الحق{[44822]} كقوله : { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } [ النساء : 127 ] قال ابن الخطيب{[44823]} : وقوله : { بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ } يفيد كونه رسولاً وإن كان لا يلزم في كل من لا يكون به جنة أن يكون رسولا ، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من{[44824]} يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي - عليه السلام- بواسطة الجن بل{[44825]} بقدرة الله من غير واسطة وعلى التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطُّرق ، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسِّ الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول كانوا يقولون فيه النِّزاع فإذا قال : ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك ، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه ، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده : { إنْ هُوَ إلا نَذِيرٌ لَكُمْ } يعني إما هو به جِنّة أو هو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير .

وقوله : { بَيْنَ يَدِيْ عَذَابِ شَدِيدٍ } إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال ينذركم بعذاب حاضر يَمَسّكم عن قريبٍ{[44826]} .


[44804]:وقاله أبو البقاء أيضا في التبيان 2/1070 والبيان لابن الأنباري 2/283 ومكي في مشكل الإعراب 2/212 وأبو حيان في البحر 7/290 والشهاب السمين في الدر 4/454. وقد نقل أبو حيان في بحره السابق رأي أبي علي.
[44805]:الكشاف 3/294.
[44806]:قاله التبيان 1070.
[44807]:التبيان السابق، والبيان والمشكل السابقان أيضا.
[44808]:الدر المصون 4/454.
[44809]:عند قوله: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} وهي الآية 3 منها.
[44810]:من قوله: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم} وهي الآية 94. والقائلون بالجمع اختلفوا في مفرده فقيل فرد، أو فريد أو فرد أو فردان. وقيل: اسم جمع وانظر اللباب 3/197 ب.
[44811]:انظر: البحر 7/291.
[44812]:سقط من "ب".
[44813]:البغوي 5/295.
[44814]:قاله في التبيان 1070.
[44815]:قال بذلك الزمخشري في الكشاف 3/295 والفراء في معانيه 2/363 فقد قال الزمخشري: "وقد جوز بعضهم أن تكون ما استفهامية " وقال الفراء : "ثم تتفكروا هل جربتم على محمد كذبا أو رأيتم به جنونا ففي ذلك ما يتيقنون أنه نبي".
[44816]:البحر المحيط 7/291 وقد نقل وجهي التعليق والاستئناف أبو حيان في بحره 7/291 وكذلك شهاب الدين السمين في الدر 4/454 بينما نقل وجه جواب القسم السمين فقط 4/454 والتعليق يكون بالنفي والجملة تكون حينئذ في محل نصب وهو محط التفكر، أي تتفكروا في انتفاء الجنة عن محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يشبه قول الله: "وظنوا ما لهم من محيص " بتصرف 7/291 والهمع 1/154.
[44817]:وهو صاحب.
[44818]:على نفي أو استفهام.
[44819]:على اعتبار "من" مزيدة والخبر "بصاحب" وتحقق زيادة "من" بعد وقوعها بعد استفهام أو نفي.
[44820]:فإذا كانت حجازية كان اسمها "جنة" وخبرها "بصاحب" وإذا كانت تميمية كان "بصاحب" خبر مقدم و "جنة" مبتدأ مؤخر كما قال أعلى. ولست أدري كيف جعل المؤلف "ما" حجازية لتقدم الخبر لأن الخبر إذا تقدم على اسمها لا تعد "ما" عاملة بل مهملة. انظر: السمين 4/355 والكتاب 1/122.
[44821]:قاله الرازي 25/268.
[44822]:قاله البغوي في معالم التنزيل 5/295.
[44823]:قاله في تفسيره "التفسير الكبير" 25/295.
[44824]:فيه: ممن.
[44825]:فيه: أو بقدرة الله تعالى من غير واسطة بحرف العطف "أو".
[44826]:الفخر الرازي 25/269 المرجع السابق.