اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱلَّذِيٓ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلۡمُقَامَةِ مِن فَضۡلِهِۦ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٞ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٞ} (35)

قوله : { الذي أَحَلَّنَا } أي أنزلنا «دارَ المُقَامَةِ » مفعول ثانٍ «لأَحَلَّنَا » ولا يكون ظرفاً لأنه مختص فلو كان ظرفاً لتعدي إليه الفعل بفِي{[45427]} والمُقَامَةُ الإقامة{[45428]} . والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال : ما له مَعْقُول أي عَقْل . قال تعالى : { مُدْخَلَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو{[45429]} المفعول في الحقيقة فإنه هو الذي فعل ( فجاز{[45430]} إقامة المفعول مُقَامَهُ ) .

فصل

في قوله : { دَارَ المقامة } إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العَرَصَات{[45431]} التي فيها الجَمْع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها .

قوله : { مِن فَضْلِهِ } متعلق «بأَحَلَّنَا »{[45432]} و «من » إما لِلْعِلَّة وإما لابتداء الغاية{[45433]} ومعنى فضله أي يحكم وعده لا بإيجاب من عنده .

قوله : { لاَ يَمَسُّنَا } حال من مفعول «أَحَلَّنَا » الأول{[45434]} والثاني{[45435]} ، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر{[45436]} والنَّصْبُ التَّعَبُ{[45437]} والمشقَّة ، واللُّغُوبُ الفُتُورُ النَّاشِيءُ عنه{[45438]} وعلى هذا فيقال إذا انتفى السَّبَبُ فإذا قيل : لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و ( في ){[45439]} الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته ؟ وقد أجاب ابن الخطيب : بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبَرَاري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل : لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ لأنها ليست مظانَّ المتاعب كدار الدنيا ولا يَمَسُّنَا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى موضع يتعب{[45440]} ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذاك{[45441]} والذي يقال : إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس . وقيل : اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل{[45442]} وقرأ عليُّ والسُّلَمِيُّ بفتح لام لغوب{[45443]} وفيه أوجه :

أحدهما : أنه مصدر على فَعُول{[45444]} كالقَبُول .

والثاني : أنه اسم لما يلغب{[45445]} به كالفَطُورِ والسَّحُور . قاله الفراء{[45446]} .

الثالث : أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يَمَسُّنَا لُغُوبٌ لَغُوبٌ نحو : شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ{[45447]} وقيل : صفة لشيء غير مقدار أي أمرٌ لَغُوب{[45448]} .


[45427]:قاله أبو البقاء في تبيانه 1076 والسمين في الدر 4/483 .
[45428]:الكشاف 3/310 .
[45429]:في ((ب)) غير لحن وتغيير للمعنى.
[45430]:زيادة يقتضيها السياق فإن ((مدخلا)) مفعول به وهو مصدر ميمي مفعول لقوله: ((أدخلني)) قبله و ((كل ممزق)) مفعول مطلق نائب عن المصدر الذي من الفعل أي مزقناهم تمزيقا. والمقامة مصدر ميمي من غير الثلاثي وهو مفعول بالدخول والإحلال.
[45431]:كذا هي بالصاد هنا. وفي ((ب)) العرضات بالضاد. تحريف والعرصات جمع عرصة وتجمع أيضا على عراص وعرصة الدار وسطها. وقيل: ما لا بناء فيه والعرصة أيضا بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، وفي حديث قُسٍ: في عَرَصَاتِ بجثْجَاتٍ. بتصرف من اللسان عرص والصِّحاح. وانظر: اللسان 2883 .
[45432]:الدر المصون 4/483 .
[45433]:السابق .
[45434]:التبيان 1076 .
[45435]:السمين السابق ويقصد بالأول ((نا)) وبالثاني ((دار المُقَامَةِ)) .
[45436]:الدر المصون السابق .
[45437]:قاله النحاس في الإعراب 4/374 والزجاج في المعاني 4/271 .
[45438]:قاله في القرطبي 14/351 وفي معاني الفراء 2/370 وفي معاني القرآن وإعرابه 4/271 وفي الكشاف 3/310 .
[45439]:سقط من ((ب)) .
[45440]:في ((ب)) التعب .
[45441]:التفسير الكبير للرازي 26/8 .
[45442]:انظر: البحر المحيط لأبي حيان 7/315 والدر المصون للسمين 4/483 .
[45443]:نسبها كل من الزجاج والفراء في المعاني إلى السلمي فقط انظر: معاني الزجاج 4/271 ومعاني الفراء 2/370 ونسبها ابن خالويه له ولعلي ولسعيد بن جبير. المختصر 124 ونسبها ابن جني في المحتسب إلى السلمي وعلي كما فعل المؤلف أعلى . المحتسب 2/200 .
[45444]:قاله الزمخشري في الكشاف 3/310 وابن جني في المحتسب 2/200 .
[45445]:في ((ب)) يلقب بالقاف تحريف .
[45446]:المعاني 2/370 قال: ((كأنه جعله ما يلغبُ)) .
[45447]:الكشاف 3/310 والمحتسب 2/201 وانظر كذا كله الدر المصون 4/483 والبحر المحيط 7/315 .
[45448]:ذكر هذا الرأي صاحب اللوامح فيما نقله عنه أبو حيان في البحر المحيط ، وهو أبو الفضل الرازي رحمه الله . انظر: البحر المحيط 7/315 .