قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } «الكتاب الذين اصطفينا » مفعولا أوْرَثْنَا و «الكتابَ » هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس{[45361]} وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن . وقيل : المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ{[45362]} الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] ومعنى أورثنا أعطينا لأن الميراث عطاء . قال مجاهد . وقيل : أورثنا : أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميِّت ومعناه : أخرنا{[45363]} القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له{[45364]} .
قوله : { مِنْ عِبَادِنَا } يجوز أن يكون للبيان على معنى إنَّ المُصْطَفينَ هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنَّ المصطفين بعضُ عبادنا لا كلهم{[45365]} .
وقرأ أبو عِمْرَان الجَوْنِي{[45366]} ويعقوبُ وأبو عمرو - في رواية - سَبَّاق مثال مبالغة{[45367]} .
قال ابن عباس : يريد بالعباد أمة محمد- صلى الله عليه وسلم - ثم قسَّمهم ورتَّبهم فقال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } وروى أسامةُ بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم من هذه الأمة{[45368]} وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر «ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا » الآية فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالمنا مَغْفُورٌ لَهُ{[45369]} .
وروى أبو الدَّرْداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية «ثُمَّ أُوْرَثنا الْكِتَاب . . . . » الآية وقال «أما السابق بالخيرات فيدخُلُ الجنةَ بغير حساب وأما المقتصد فيُحاسَبُ حساباً يسيراً وأما الظالم لنفسه فيجلسُ في المَقام حتى يدخله الهم ثم يَدْخل الجنة ثم قرأ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ ربنا لَغَفُورٌ شكُورٌ{[45370]} .
وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول الله - عزّ وجلّ - : أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية . فقالت : يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالخير{[45371]} وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم . فجعلت نفسها معنا{[45372]} وقال مجاهد والحسن وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة ، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم . وعن ابن عباس قال : السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة{[45373]} . وقيل : الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هو الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسابق هو الذي رَجَحَتْ حسناته . وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطنه خير من ظاهره . وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد . وقيل : الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد التالي العالم والسابق التالي العالم العامل . وقيل : الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم{[45374]} . وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة{[45375]} . وقال أبو بكر الوراق{[45376]} : رتبهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قربة فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين .
وقيل غير ذلك{[45377]} وأما من قال : المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله : { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير } [ فاطر : 25 ] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصطفى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله : { مِنْ عِبَادِنَا } يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين ( منهم ){[45378]} أشرف ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً .
فإن قيل : كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده{[45379]} وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع ؟
فالجواب : أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال- عليه ( الصلاة{[45380]} و ) السلام - : «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ » الحديث . وقال آدمُ- عليه ( الصلاة و ) السلام- مع كونه مصطفى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاَءِ الله{[45381]} ووجه آخر وهو أن قوله : «منهم » غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى : إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً «ومنهم » أي ومن قومكم{[45382]} «ظالم » كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به{[45383]} ولم يأت بجميع ما أمر به وسابق آمن وعمل صالحا . وقال الكلبي : المراد{[45384]} بالظالم لنفسه هو الكافر . وقيل المراد{[45385]} منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.