اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُمۡ يَصۡطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخۡرِجۡنَا نَعۡمَلۡ صَٰلِحًا غَيۡرَ ٱلَّذِي كُنَّا نَعۡمَلُۚ أَوَلَمۡ نُعَمِّرۡكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُۖ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (37)

قوله : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ } يستغيثون ويصيحون » فِيهَا «وهو يَفْتَعِلُون من الصَّراخ وهو الصِّياح . وأبدلت الفاء صاداً لوقوعها قبل الطاء ، » يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْهَا «من النار فقوله : » ربنا «على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلاً مفسراً ليَصْطَرِخُونَ أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالاً من فاعل » يصطرخون «أي قَائِلينَ ربَّنا{[45474]} .

قوله : { صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل } يجوز أن يكونا نَعْتَيْ{[45475]} مصدر محذوف أي عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي{[45476]} مفعول به محذوف أي نعمل شيئاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكون » صالحاً «نعتاً لمصدر و » غيرالذي كنا نعمل «هو المفعول به . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : فهلا اكتفي بصالِحاً كما اكتفي به في قوله : فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل ؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صالحاً آخر غير الصالح الذي عملوه ؟ قلتُ : فائدته زيادة التحسرّ على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] فقالوا : أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِجاً غَيْرَ الِّذي كُنَا نَحْسَبُهُ صَالِحاً فنعمله{[45477]} .

قوله : » أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ «( أي فيقول{[45478]} لهم توبيخاً : أو لم نعمركم أي عَمَّرْنَاكُمْ مِقْداراً يمكن التذكرُ فيه .

قوله : { مَّا يَتَذَكَّرُ } جوزوا في » ما «هذه وجهين :

أحدهما : ولم يحك أبو حيان غيره- : أنها مصدرية{[45479]} ظرفية قال : أي مُدَّةَ تَذَكُّر ، وهذه غلط لأن الضمير ( في ){[45480]} ( فيه ) يمنع ذلك لعوده على » ما «ولم يَقُلْ باسمية ما المصدرية إلا الأخْفَشُ وابنُ السِّرِّاجِ{[45481]} .

والثاني : أنها نكرة موصوفة أي تَعَمُّراً يُتّذَكَّرُ{[45482]} فيه أو زماناً يُتَذَكَّرُ فيه . وقرأ الأعمش ما يذَّكَّرُ بالإدغام من «اذَّكَّر »{[45483]} قال أبو حيان : بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدَّرج{[45484]} وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلاَّ أَنْ يكون حافَظَ على{[45485]} سكون «من » وبيَان ما بعدها .

فصل

معنى قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } قيل : هو البلوغ . وقال قتادة وعطاء والكلبي : ثماني عشرة سنة وقال الحسن : أربعون سنة . وقال ابن عباس : ستون سنة . رُويَ ذلك عن عَلِيِّ وهو العمر الذي أَعْذَرَ الله إلى ابن آدم{[45486]} . قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : «أعْذَرَ اللَّهُ إلَى آدَم امْرىءٍ أخَّر أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً »{[45487]} وقال عليه ( الصَّلاَةُ و ) السلام- : «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوز ذَلِكَ »{[45488]} .

قوله : { وَجَآءَكُمُ } عطف على «أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ » ؛ لأنه في معنى{[45489]} قَدْ عَمَّرناكُمْ كقوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ } [ الشعراء : 18 ] ثم قال : وَلَبِثْتَ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [ الشرح : 1 ] ثم قال : { وَوَضَعْنَا } [ الشرح : 2 ] إذْ هما في معنى رَبَّيْنَاك وشَرَحْنا ، والمراد بالنَّذير محمد - صلى الله عليه وسلم - في قول أكثر المفسرين . وقيل : القرآن . وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع : هو الشيب{[45490]} والمعنى أو لم نعمركم حتى شِبْتُم . ويقال : الشَّيْبُ نذير الموت . وفي الأثر : مَا مِنْ شَعْرَةٍ تَبْيَضُّ إلاَّ قَالَتْ لأُخْتِهَا : اسْتَعِدِّ ] فَقَدْ قَرُبَ الْمَوتُ{[45491]} وقرئ : النّذُر جمعاً{[45492]} .

قوله : { فَذُوقُواْ } أمر إهانة «فَمَا » لِلظّالِمينَ «الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها . » مِنْ نَصيرٍ «في وقت الحاجة ينصرهم ، و » من نصير «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالجار قبله{[45493]} .


[45474]:انظر: البحر المحيط 7/316 .
[45475]:في النسختين بمعنى خطأ. والتصحيح ما أثبت أعلى حيث إن المعنى والقاعدة تؤيدان أن ما ذهبت إليه. وقد ذكر كل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان 1076 والسمين في الدر 4/485 .
[45476]:في النسختين بمعنى خطأ. والتصحيح ما أثبت أعلى حيث إن المعنى والقاعدة تؤيدان أن ما ذهبت إليه. وقد ذكر كل هذه الأوجه أبو البقاء في التبيان 1076 والسمين في الدر 4/485 .
[45477]:المرجع السابق .
[45478]:ما بين القوسين كله ساقط من ((ب)) .
[45479]:البحر 7/316 وكما ذكر هذا الوجه أيضا أبو حيان في البحر ذكره أبو البقاء في التبيان 1076 .
[45480]:سقط من ((ب)) .
[45481]:وقال بذلك المصدر أبو عبيدة في المجاز وهو قبل الأخفش وفاة فقد قال في كتابه مجاز القرآن: ((ومجاز ((ما)) هاهنا مجاز المصدر أو لم نعمركم عمرا يتذكر فيه)) المجاز 2/156.
[45482]:قال بذلك الوجه أبو البقاء في التبيان 1075 وانظر: الدر المصون 4/485 .
[45483]:ذكرها أبو حيان 7/316 والسمين في الدر 4/485 وفي مختصر ابن خالويه 124 وانظر أيضا الزمخشري في كشافه 3/311 موافقا لما ذكر أعلى وهي من الشواذ .
[45484]:البحر 7/316 .
[45485]:نقله السمين في الدر 4/486 .
[45486]:وانظر هذه الأقوال في القرطبي 14/353 وزاد المسير 6/494 .
[45487]:أخرجه البخاري عن أبي هريرة 4/116 .
[45488]:أخرجه البغوي في معالم التنزيل عن أبي هريرة 5/305 .
[45489]:قاله شهاب الدين السمين في الدر 4/486 والزمخشري في الكشاف 3/311 وأبو حيان في البحر 7/316 .
[45490]:انظر في هذا القرطبي 14/353 وزاد المسير 6/494 و 495 والبغوي 5/305 ومعاني الفراء 2/370 ومعاني الزجاج 4/372 .
[45491]:قاله الخازن والبغوي 5/305 .
[45492]:القرطبي 14/353 والكشاف 3/311 بدون نسبة وكذلك فعل أبو حيان في بحره 7/316 ونسبها صاحب الشواذ إلى ابن مسعود. انظر الشواذ 103 .
[45493]:نقله في الدر 4/486 .