قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الآية " من " شرطية وهو الظَّاهِرُ ، ويجوز أن تكون موصولة ، وقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } إما جواب الشَّرط ، وإمَّا خبر الموصول ، وشروط دخول الفاء في الخبر موجودة و { مِنكُمْ } في محلِّ نصب على الحال من فاعل { يَسْتَطِعْ } وفي نصب { طَوْلاً } ثلاثة أوْجُهٍ :
أظهرُهَا : أنَّهُ مفعول ب " يستطيع " وفي قوله " أنْ ينكح " على هذا ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه في محلِّ نصبٍ ب " طولاً " على أنَّهُ مفعول بالمصدر المنون ؛ لأنَّه مصدر ؛ وطلت الشيء أي : نلتُهُ ، والتَّقدير : ومن لم يستطع أنْ ينال نكاح المحصنات [ المؤمنات ] ، ومثله قول الفَرَزْدَقِ : [ الكامل ]
إنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ *** طَالَتْ فَلَيْسَ يَنَالُهَا الأوْعَالاَ{[7419]}
أي : طالت الأوْعَالُ فلم تَنْلها ، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثير قال الشَّاعِرُ : [ الوافر ]
بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُؤُوسَ قَوْمٍ *** أزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ المَقِيلِ{[7420]}
وقول اللَّه تعالى { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا } [ البلد : 14 ، 15 ] وهذا الوجه ذهب إليه الفارسي .
الثاني : { أَن يَنكِحَ } بدل من { طَوْلاً } بدل الشَّيْءِ من الشَّيْءِ ؛ لأنَّ الطول هو القدرة ، أو الفضل ، والنِّكاحُ قدرة وفضل .
الثَّالثُ : أنَّهُ على حذف حرف الجَرِّ ، ثم اختلف هؤلاء ، فمنهم مَنْ قَدَّرَهُ ب " إلى " أي : طولاً إلى أن ينكح المُحْصَنَاتِ ، ومنهم من قَدَّرَهُ باللامِ أي : لأن ينكح ، وعلى هذين التَّقديرين ، فالجارّ{[7421]} في محلِّ الصِّفَةِ لطولاً ، فيتعلَّق بمحذوف ، ثُمَّ لما حُذِفَ حرف الجرِّ فالخلاف المشهُورُ في محل " أن " أنصبٌ هو أم جرٌّ ؟ .
وقيل : اللامُ المقدّرة مع " أنْ " هي لام المفعول من أجله ، أي : لأجل نِكاحِهنَّ .
الوجه الثَّاني من نصب { طَوْلاً } : أن يكون مفعولاً له على حذف [ مضاف ] أي : ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات ، وعلى هذا ف " أن ينكح " مفعول " يستطع " أي : ومن لم يستطع نكاح المُحْصَنَات لعدم الطَّوْلِ .
الوجه الثالثُ : أن يكون مَنْصُوباً على المصدر .
قال ابْنُ عَطيَّة{[7422]} : ويصحُّ أن يكون طَوْلاً نصباً على المَصْدَرِ ، والعامِلُ فيه الاستطاعة [ لأنَّهما بمعنى و { أَن يَنكِحَ } ، على هذا مفعول بالاستطاعة ، أو ]{[7423]} بالمصدر يعني أنَّ الطولَ هو استطاعة في المعنى ، فَكَأنَّهُ قيل : ومن لم يستطع منكم استطاعة ، والطَّوْلُ : [ الفضل ومنه ]{[7424]} التطول وهو التَّفضل قال تعالى { ذِي الطَّوْلِ } [ غافر : 3 ] ويقال : تطاولَ لهذا الشَّيءِ أي تناوله كما يقالُ : يد فلان مبسوطة ، وأصل هذه الكلمة من الطُّولِ الّذي هو ضدّ القصر ؛ لأنَّهُ إذَا كان طويلاً ففيه كمال وزيادة [ كما أنه إذا كان قصيراً ففيه قصور ونقصان ، فسمى الغنى طولاً لأنه ينال به المراد ما لا ينال عند الفقر ]{[7425]} كما أنَّ بالطول ينال ما لا ينال بالقصر .
قال ابنُ عبَِّاس ومُجاهدٌ وسعيدُ بنُ جبيرٍ والسُّديُّ وابنُ زيدٍ ، ومالكٌ : " الطَّول هو السَّعة{[7426]} ، والغنى " {[7427]} قيل : والطَّوْلُ : الحرة ، ومعناه : أنَّ من عنده حرَّة لا يجوز له نكاح [ أمة ]{[7428]} ، وإن عَدمَ السَّعَةَ ، وخاف العَنَتَ ؛ لأنَّهُ طالب شهوة وعنده امرأة ، وهو قول أبِي حنيفَةَ [ وبه قال الطَّبرِيُّ ]{[7429]} .
وقال أبُو يُوسفَ : الطَّوْلُ هو وجود الحرَّة تحته ، وقيل : الطَّوْلُ هو التَّجلد{[7430]} والصبر كمن أحبَّ أمةً ، وهويها حتَّى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج [ عليها ]{[7431]} غيرها ، فإنَّ له أن يتزوّج الأمَةَ إذا لم يملك مهرها ، وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سَعَةً في المال لِنِكَاحِ حرَّةٍ . وهذا قول قَتَادَةَ والنَّخَعِيِّ وعطاءٍ ، وسفيان والثَّوْرِي نقله القُرْطُبِيُّ{[7432]} .
فصل : [ تفسير المراد بالمحصنات ]
والمراد بالمحصنات ههنا الحرائر [ لأنه تعالى أثبت نكاح الإماء عند تعذر نكاح المحصنات ، فلا بد أن يكون المراد بهن الحرائر ]{[7433]} ؛ لأنه ذكرهن كالضّد للإمَاء ووجه تسميتهن بالمحصنات على قراءة من فتح الصَّاد{[7434]} أنَّهن أحصن بحريتهن عن أحوال الإمَاءِ فإنَّ الأمَةَ تكونُ خراجةً مُمْتهنَةً مُبْتَذِلَةً في الظَّاهِرِ ، والحرةُ مصونة عن هذه القَضَايَا ، وأمَّا على قراءة كسر{[7435]} الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهنَّ .
دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُ لا يجوزُ للحرِّ نكاحُ الأمَةِ إلاَّ بشرطين ؛ وهما ألاَّ يجد مهر حرة ، ولا ثمن أمة ، وأنْ يخاف العَنَتَ ، وهو قولٌ جائزٌ ، وبه قال طاوس وعمرو بْنُ دينَار ، وإليه ذهب مالكٌ والشَّافعيُّ وأحْمَدُ ، وجوّز أصحابُ الرَّأي للحر نكاح الأمَةِ .
فإنْ قيل : أيُّ تفاوت بين ثمن الأمة ، أو مهرها وبَيْنَ نكاح الحرَّة الفقيرة .
فَالجوابُ : أنَّ العادة{[7436]} كانت في الإماء{[7437]} التخفيف لاشتغالهن{[7438]} بخدمةِ السَّيِّد فظهر التَّفَاوُتُ .
فصل [ في حكم نكاح الأمة الكتابية ]
دلَّت الآيةُ على أنَّهُ لا يجوز للمُسْلِم نكاحُ الأمَةِ الكتابيَّةِ لقوله : { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ولقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ }
[ المائدة : 5 ] ولأن الأمَةَ الكافرةَ ناقِصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
نَقْصُ الرِّقِّ ، ونَقْصُ الكُفْرِ ، والولدُ تابع للأمِّ في الحريةِ والرق ، فيتعلَّقُ الولدُ رقيقاً على مِلْكِ الكافِرِ وجوز أبُو حنيفة ذلك لعموم قوله : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ }
[ النساء : 3 ] وقوله : { وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ } [ النور : 32 ] وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } [ المائدة : 5 ] والمراد بهذا الإحصان العفّة .
والجَوَابُ أنَّ آيتنا خاصةٌ ، والخاص مُقَدَّمٌ على العام ؛ ولأنها دخلها التخصيص فيما إذا كان تحته حرّة ، وَاتَّفَقُوا على أنَّهُ [ لا ]{[7439]} يجوزُ وطؤها بملك اليمين . انتهى .
ظاهر قوله { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } يقتضي كون الإيمان معتبراً من الحرَّة فعلى هذا لو قدر على طول حرّة كتابيَّة ، ولم يقدر على طول أمةٍ{[7440]} مسلمةٍ فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوّج بالأمةِ ، وأكثرُ العُلماء على أنَّ ذكر الإيمان نذب في الحرائرِ ، ولا فرق بين [ الأمة ]{[7441]} المؤمنة والكتابيَّة في كثرة المؤمنة وقلتها .
في التَّحذيرِ من نكاح الإمَاءِ وجوهٌ منها :- الولد ينبع الأمَّ في الحريَّة والرِّق فيصير الولد رقيقاً .
قال عُمَرُ - رضي الله عنه - : أي حُرٍّ تَزوَّجَ{[7442]} بأمَةٍ ، فقد رَقّ نِصْفُهُ ، يعني : يصير وَلَدُهُ رقيقاً .
وقال سعيدُ بْنُ جُبير : ما نكاح الأمة من الزِّنَا إلا قريب{[7443]} ، قال الله تعالى : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي عنْ نِكَاحِ{[7444]} الإمَاءِ .
ومنها أنَّ الأمَةَ تكون قد تعوّدت الخروجَ ، والبروزَ والمخالطةَ للرِّجَالِ وصارت في غاية الوقَاحةِ ، ورُبَّمَا تَعَوَّدَت الفجورَ .
ومنها أن حقّ المولى عليهم أعظم من حقِّ الزَّوْجِ ، ولا تخلص للزَّوْج كخلوص الحُرَّةِ ، وربَّما احتاج الزَّوْجُ إليها جداً ، ولا يجد إليها سبيلاً [ لحبس السيّد لها ]{[7445]} .
ومنها أنَّ المولى قد يبيعها من إنسان آخر ، فعلى قول من يقول بيع الأمَةِ يُوجِبُ طلاقها تصير مطلَّقَة شاء الزَّوْجُ أم أبى ، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يُسَافِر المولى بها وبولدها ، وذلك من أعْظَمِ المَضَارّ .
ومنها أن مهرها ملك لمولاها ، فلا تَقْدِرُ على هبته لِزوجهَا ، ولا إبرائه بخلاف الحرَّةِ ، فلهذه{[7446]} الوجوه لم يُؤْذَنْ في نِكَاحِ الأمةِ إلا على سبيل الرُّخصةِ .
وروى أبُو هريرة قال : سَمِعْتُ رسولَ اللَّهَ صلى الله عليه وسلم يقول [ الحرائر ]{[7447]} صلاح البيت والإماء هلاك البيت{[7448]} أو قال " فساد البيت " ذكره القرطبي .
قوله : " فممّا " الفاء قد تقدّم أنَّها إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدة في الخَبَرِ على حَسْبِ القولين في " من " وفي هذه الآية سبعة أوْجُهٍ :
أحدها : أنَّها متعلّقة بفعل مقدّر بعد الفاء تقديرُهُ : فينكحُ مِمَّا ملكت أيمانكم و " ما " على هذا موصولة بمعنى الذي أي : نوع الّذي ملكته ، ومفعولُ ذلك الفعل المقدّر محذوفٌ تقديرهُ : فَيَنْكِحُ امرأة ، أو أمَةً مما ملكته أيمانكم ؛ ف " مِمَّا " في الحقيقة متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة لذلك المفعولِ المحذُوفِ و " من " للتَّبعيضِ ، نحو : أكلتُ مِنَ الرَّغيفِ ، و { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } في محلِّ نصب على الحال من الضَّمير المقدّر في " ملكت " العائد على [ " مَا " ]{[7449]} الموصولة و { الْمُؤْمِنَات } صفة لفتياتكم .
الثَّاني : أن تكون " مِنْ " زائدة و " ما " هي المفعولة بذلك الفعل المقدَّر أي : فلينكح ما ملكته أيمانكم .
الثَّالثُ : أنَّ " مِنْ " في { مِّن فَتَيَاتِكُمُ } زائدة و { فَتَيَاتِكُمُ } هو مفعولُ ذلك الفعل المقدَّرِ أي : فلينكح فتياتكم ، و " مما ملكت " متعلق بنفس الفعل و " من " لابتداء الغاية ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من " فتياتكم " قدم عليها و " من " للتَّبعيضِ .
الرَّابعُ : أن مفعول " فلينكح " [ هو المؤمنات أي : فلينكح ]{[7450]} المؤمنات الفتيات و " مما ملكت " على ما تقدَّم في الوجْهِ قبله و " من فتياتكم " حال من ذلك العائد المحذوف .
الخامِسُ : أنَّ مما في محَلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره : فالمنكوحَةُ مِمَّا ملكت [ أيمانكم ]{[7451]} .
السَّادس : أن " ما " في " مِمَّا " مصدريَّةٌ أي : فلينكح من ملك أيمانكم ، ولا بدَّ أن يكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعولِ نحو : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } [ لقمان : 11 ] ليصحّ{[7452]} [ وقوع ]{[7453]} النكاح [ عليه ]{[7454]} .
السَّابعُ : وهو أغربها ونقل عن جماعة منهم ابن جرير أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراًَ وأنَّ التقدير : ومنْ لَمْ يستطعْ منكمْ [ طولاً ]{[7455]} أنْ ينكحَ المُحْصنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فلينكح بعضكم من بعض الفتيات ، فبعضكم فاعل ذلك [ الفعل ]{[7456]} المقدّر ، فعلى هذا يكون قوله { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ } معترضاً بين ذلك الفعل المقدَّر وفاعله ، ومثل هذا لا ينبغي أن يقال .
قال ابن عباس : يُريدُ بقوله { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي : فليتزوّج جاريةَ أخيه{[7457]} ، فإنَّ الإنسانَ لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه ، والفتيات المملوكات جمع فتاةٍ تقُولُ العربُ للأمة : فتاة ، وللعبد : فتى ، قال عليه السلامَ : " لا يَقُولَنَّ أحدكُم عَبْدِي ، ولا أمَتِي ، وَلكِنْ لِيَقُلْ فَتَاي وفَتَاتِي " ويقالُ للجارية الحديثة : فتاة ، والغلام ، فتى ، والغلام ، فتى ، والأمة تسمى فَتَاة .
قوله : { والله أعلم بإيمانكم } جملة من مبتدأ وخبر جيء بها بعد قوله { مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } لتفيد أنَّ الإيمان الظَّاهر كافٍ في نكاحِ الأمَةِ المؤمنة ظاهراً ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها علما يقيناً ، فإنَّ ذلك لا يطلع عليه إلا اللَّه تعالى ، وفيه تأنيس أيضاً بنكاح الإماءِ ، فإنَّهم كانوا يفرون من ذلك .
قال الزَّجَّاجُ : " المعنى : احملوا{[7458]} فتياتكم على ظاهر الإيمانِ ، واللَّهُ أعلمُ بالسَّرائِرِ " .
قوله تعالى : { بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } مبتدأ وخبر أيضاً ، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الأمة [ كما تقدَّم ، والمعنى : أنَّ بعضكم من جنس بعض في النَّسب والدين ، فلا يدفع الحر عن نكاح الأمَّةِ ، عند الحاجة إليه ، وما أحسن قول أمير المؤمنين عَلِيٍّ رضي الله عنه ]{[7459]} : [ البسيط ]
والنَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثيلِ أَكْفَاءُ *** أبوهُمُ آدَمٌ والأمُّ حَوَّاءُ{[7460]}
والحكمَةُ في ذِكْرِ هذه الكَلِمَةِ أنَّ العَرَبَ كانوا يَتفاخَرُونَ{[7461]} بالأنْسَابِ ، فأخبر تعالى أن ذلك لا يلتفت إليه ؛ لأنَّ الإيمان أعظم الفضائل ، وإذا حصل الاشتراك{[7462]} فيه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك .
قال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] وقال :
{ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] وكان أهلُ الجاهليّة يضعون من ابن الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجراً لهم من أخلاق أهل الجاهليَّةِ .
قوله " بإذن أهلهن " متعلق ب " انكحوهنّ " وقدّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي : بإذنِ أهل ولايتهن{[7463]} ، وأهل ولاية نكاحهن هم المُلاَّك .
اتَّفَقُوا على أنَّ نكاحَ الأمَةِ بدون إذن سيِّدهَا باطلٌ بهذه الآية ، فإنها تقتضي كون الإذن شرطاً في جواز النِّكاحِ ، وإن لم يكن النكاح واجباً كقوله عليه [ الصَّلاة و ]{[7464]} السلام :
من أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعلُوم " {[7465]} فالسلم ليس بواجب ، ولكنَّهُ إذا اختار أن يُسْلِمَ فعليه استيفاء هذه الشَّرائط ، ولأنَّ الأمَةَ ملك للسيِّد ، وبالتّزوج تبطل عليه أكْثَرُ منافعها ؛ فوجب ألاّ يجوز ذلك إلا بإذنِهِ ، وأمَّا العبد فلقوله عليه السَّلامُ : " إذَا تَزَوَّجَ العَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ السيّد فهو عاهِرٌ " .
فصل في اشتراط إذن الولي في النكاح
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّه لا يصحُّ نِكَاحُ الحرَّة البالغة العاقلة إلاَّ بإذن الولي ، قالوا : لأنَّ الضَّمِيرَ في قوله { فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } عائد إلى الإماءِ والأمة ذات موصوفة بالرِّق ، وصفة الرِّقِّ صفة زَائِلَةٌ لا تتناول الإشارة بتلك{[7466]} الصّفة ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ حلف لا يَتكلَّمُ مع هذا الشاب فصار شيخاً ثم تَكَلَّمَ معه حَنَثَ ؛ فثبت أن الإشارة إلى الذَّاتِ الموصوفة بصفَةٍ ، عرضية زائلة باقية بعد زوال{[7467]} تلك الصِّفةِ العرضية ، وإذَا كان كذلك ، فوجب أن تكون الإشَارَة إلى الإمَاءِ باقيةً بعد زَوَالِ الرِّقِّ ، وحصول صفة الحريّة لهنّ ، وإذا ثبت أنَّ ذلك في الصُّورَةِ الباقية ؛ وجب ثبوته في سائر الصُّورِ ، لأنَّهُ لا قائل بالفرق .
قال الرازيُّ{[7468]} : هذه الآية ترد على الشافعيِّ ، فإنَّهُ يقول : لا عِبَارَةَ للمرأة في النِّكاح ، فإذا ملكت المرأةُ جارية وكلتْ مَنْ يزوجها ، واللَّهُ تعالى شرط إذن أهلهنّ مطلقاً فقد ترك [ الظاهر ]{[7469]} والجوابُ من وُجُوهٍ :
الأوَّلُ : المرادُ بالإذن الرِّضَا ولا بدَّ مِنْهُ .
الثَّاني : أنَّ المرادَ بأهلهنّ من يقدر على نكاحهن ، فإن كانت امرأةً فموْلاَهَا .
الثَّالِثُ : أنَّ الأهْلَ يتناولُ{[7470]} الذكورَ والإناثَ ، لكنَّهُ عام والأدلَّةُ الدَّالَّةُ على المرأة لا تنكح نفسها خاصّة ، والخاصُّ مقدَّمٌ وفي الحديثِ : " العَاهِر هي التي تنكِحُ نَفْسَهَا " {[7471]} ولذا كانت مسلوبةَ العبارة في [ حقّ ]{[7472]} نفسها ، فهي في حقّ مملوكها أولى .
قوله تعالى { فآتوهن أجورهن } قال بعضهم : هو المهر ، قال : والمُرادَ به مهر المثل لقوله تعالى : { بِالْمَعْرُوفِ } وهذا إنَّمَا ينطلق فيما كان مبنياً على الاجتهاد وغالب الظنِّ{[7473]} في المعتاد والمتعارف كقوله : " وعلى الوارث مثل ذلك " { وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] .
وقال القاضي{[7474]} : " المرادُ من [ الأجُورِ : ]{[7475]} النَّفَقةُ عليهنّ قال : لأنَّ المهر مقدّر ، فلا معنى لاشتراط المعروف فيه ، فكأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ كونها أمَةً لا يقدحُ في وُجُوبِ نفقتها ، وكفايتها كما في حقّ الحرة ، وأكثر المفسَِّرينَ حملوا قوله : { بِالْمَعْرُوفِ } على تَرْكِ المطْلِ ، والتَّأخيرِ عند المطالبة على العَادَةِ الجميلَةِ .
فصل في من المستحق لقبض مهر الأمة ؟
نقل أبُو بكرٍ الرَّازِي{[7476]} في أحكام القرآن عن بعض أصْحَابِ مالكٍ ، أنَّ الأمة هي المستحقّة لقبض مهرها بهذه الآيةِ .
أحدُهَا : أنَّا إذا حملنا [ قوله ]{[7477]} الأجور على النَّفَقَةِ ، زال تمسكهم .
وثانيها : إنَّمَا أضاف إيتاء المهور إليهن ، لأنَّهُ ثمن بعضهن ، وليس{[7478]} في قوله " وآتوهن " ما يوجب كون المَهْرِ ملكاً لهنَّ .
وثالِثُهَا : ثبت{[7479]} أنَّهَا تقتضي كَوْنَ المَهْرِ ملكاً{[7480]} لهُنَّ ، ولكنَّهُ عليه السلامُ قال : " العَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ [ ملِكٌ ]{[7481]} لمولاهُ " وقال تعالى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } [ النحل : 75 ] فنفى الملك عنه .
ورابعهَا : أنَّ المهر عِوَضٌ عن منافِع البُضْعِ ، وهي مملوكةٌ للسيِّدِ .
قوله : " بالمعروف " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أنَّه متعلِّق ب { وَآتُوهُنَّ } أي : آتوهن مهورهن بالمعروف .
الثَّاني : أنَّهُ حالٌ من أجورهن أي : ملتبسات بالمعروف ، يعني : غير ممطولة{[7482]} .
الثالِثُ : - أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله { فَانكِحُوهُنَّ } أي : فانكحوهن بالمعروف [ بإذن أهلهن ومهر مثلهن ، والإشهاد عليه ، وهذا هو المعروفُ ]{[7483]} وقيل : في الكلامِ حذف تقديره : وآتوهُنَّ أجورهن بإذن أهلهنَّ فحذف من الثَّاني لدلالة الأوَّلِ عليه ، نحو { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } [ الأحزاب : 35 ] . أي الذاكرات الله .
وقيل : ثَمَّ مُضَاف مقدر أي : وآتوا مواليهن أجورهن ؛ لأنَّ الأمة لا يسلّم لها شيءٌ من المهر .
قوله تعالى { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حالان من مفعول { فَآتُوهُنَّ } ومحصنات على هذا ، بمعنى مزوجات .
وقيل : { مُحْصَنَاتٍ } حال من مفعول { فَانكِحُوهُنَّ } ، ومحصنات على هذا بمعنى عفائف ، أو مسلمات ، والمعنى : فانكحوهن حال كونهن محصنات لا حال سفاحهن واتِّخَاذِهِنَّ للأخدان ، وقد تقدم أن " محصنات " بكسر الصَّاد وفتحها وما معناها{[7484]} ، وأن { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } حال مؤكدة . و { وَلاَ مُتَّخِذَات } عطف على الحال قبله ، والأخدان مفعول بمتخذات ، لأنَّهُ اسم فاعل ، وأخدان جمع " خِدْن " كعِدْل وأعْدَال . والخِدْنُ : الصَّاحب .
قال أبو زيد : الأخدانُ : الأصدقاء على الفاحشة ، واحدهُمْ خِدْنٌ وخدين وهو الّذي يخادنك ، ورجل خُدْنَةٌ : إذا اتَّخَذَ أخداناً أي : أصحاباً وقد تقدَّمَ أنَّ المُسَافح هو المجاهر بالزِّنَا ، ومتخذ الأخْدَان هو المستتر [ به ]{[7485]} ، وكان الزِّنَا في الجاهليَّة منقسماً{[7486]} إلى هذين القسمين ، ولم يحكموا على ذاتِ الخدن بكونها زانية .
قوله : " فإذا أحصن " قرأ{[7487]} نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم{[7488]} { أُحْصِنَّ }{[7489]} بضمّ الهمزة وكسر الصَّادِ على البِنَاءِ للمفعول والباقون بفتحها على البنَاءِ للفاعل ، فمعنى الأوَّلِ أحصن بالتزويج فالمحصن بهنَّ هو الزوجَ ، هكذا قاله ابنُ عباسٍ ، وسعيدُ بْنُ جُبيرٍ والحَسَنُ ومُجاهِد{[7490]} .
ومعنى الثَّانية : " وأحصن فروجهن أو أزواجهن " .
وقال عُمَرُ وابنُ مسعودٍ والشعبيُّ والنخعيُّ والسديُّ : أسلمن{[7491]} {[7492]} . وطعنوا في هذا الوجه بِأنَّهُ تعالى وصف الإماء بالإيمان في قوله { فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ويبعد أن يقال : فتياتكم المؤمنات ، ثم يقال : فإذا آمن فإن حالهن كذا وكذا ، ويمكن جوابه بأنَّهُ تعالى حكم حكمين :
الأوَّلُ : حال نكاح الإمَاءِ فاعتبر الإيمان فيه بقوله : { فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } .
والثَّاني : ما يجبُ عليهنَّ عند إقدامهن على الفاحشَةِ ، فذكر [ حال ]{[7493]} إيمانهنَّ أيضاً في هذا الحكم وهو قوله تعالى { فَإِذَا أُحْصِنَّ } .
قوله : " فإن أتين بفاحشة فعليهن " الفاء في " فإنْ " جواب " إذَا " وفي " فعليهن " جواب " إن " فالشَّرط الثَّاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأوَّلِ ، ونظيره : إن أُكلت فإن ضربت عمراً فأنت حرٌّ ، لا يُعْتق{[7494]} حتى يأكل أولاً ، ثم يضرب عمراً ثانياً ولو{[7495]} أسقطت الفاء الدّاخلة على " إن " في مثل هذا التّركيب انعكس{[7496]} الحكم ، ولزم أن يَضْرب أولاً ثُمَّ يأكل ثانياً ، وهذا يُعْرف من قواعد النَّحْوِ ، وهو أن الشَّرْطَ الثَّاني يُجْعل حالاً ، فيجب التَّلبُّسُ به أولاً .
قوله : " من العذاب " متعلق بمحذوف ؛ لأنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في صلة " ما " وهو " على " ، فالعامل فيها معنوي ، وهو في الحقيقة ما تعلَّقَ به هذا الجار ، ولا يجوز أن يكون حالاً من " ما " المجرورة بإضافة " نصف " إليها ؛ لأنَّ الحال لا بدَّ أن يعمل فيها [ ما يعمل ]{[7497]} في صاحبها [ إن ]{[7498]} و " نصفُ " هو العامل في صاحبها الخفض بالإضافة ، ولكنه لا يعمل في الحال ، لأنَّهُ [ ليس ]{[7499]} من الأسماء العاملة إلا أنَّ بعضهم يرى أنَّهُ إذا كان جزءاً من المضاف جاز ذلك فيه ، والنصفُ جزء فيجوز ذلك .
في الآية إشكال ، وهو أنَّ المحصنات في قوله : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ } إمَّا أن يكون المرادُ منه الحرائِر المتزوّجات ، أو الحرائر الأبكار ، والسَّبَبُ في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن ، والأول مُشْكِلٌ ؛ لأن الواجبَ على الحرائر المتزوجات في الزِّنَا الرَّجم ، فهذا يقتضي أن يجب في زِنَا الإماء نصفُ الرَّجْمِ وذلك باطل .
والثَّاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار ، فنصف ما عليهنَّ خمسون جَلْدَةً وهذا القدر واجب في زنَا الأمَةِ ، سواء كانت مُحْصَنَةً أو لم تكن ، فحينئذ يكون هذا الحكمُ معلقاً{[7500]} بمجرَّدِ صُدُورِ الزِّنَا عنهنَّ ، وظاهر الآية يقتضِي كونه معلقاً{[7501]} بمجموع الأمرين : الإحصان والزِّنا ، لأنَّ قوله { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } شرط بعد شرط . فيقتضي كون الحكم مشروطاً بهما نصاً .
فالجوابُ أن يُخْتارَ القسم الثَّاني ، وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } ليس المرادُ منه جعل هذا الإحْصَانِ شرطاً لأن يجب في زَنَاهَا خمسُونَ جَلْدَةً ، بل المعنى أنَّ حدَّ الزِّنَا يغلظ عند التَّزوُّجِ فهذه إذَا زَنَتْ ، وقد تزوَّجت فحدُّهَا{[7502]} خمسون جلدة ، لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التَّزوُّجِ هذا{[7503]} القدر [ أيضاً ]{[7504]} أولى ، وهذا مما يَجْرِِي [ فيه مجرى ]{[7505]} المفهوم بالنَّصِّ لأنَّهُ لما خفف الحدَّ لمكان الرّق عند حصول ما يُوجبُ التَّغليظَ فبأن يجب هذا القدر عندما لا يوجد المغلظ{[7506]} أولى ، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا جلد على من لم يتزوّج من المماليك إذَا زَنَا لقوله تعالى : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ وبه قال طاووس .
ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلامُ ، وإن كان المرادُ منه التزويج ، فليس المراد منه أنَّ التزويج شرط لوجوب الحدّ عليه ، بل المرادُ منه التّنبيه على أنَّ الممْلُوكَ إذا{[7507]} كان محصناً بالتَّزويج ؛ فلا رجم عليه ، إنَّمَا حده الجلد بخلاف الحر ، فحدُّ الأمةِ ثابت بهذه الآية ، وبيان أنَّه الجلد قوله عليه السلامُ " إذا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولا يُثربْ عليْهَا ، ثُمَّ إن زَنَتْ الثَّالِثَةُ ؛ فَلْيَبِعْها وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعِرٍ " {[7508]} .
فصل في من يقيم الحد على الإماء ؟
اختلفوا{[7509]} فيمن يقيمُ{[7510]} الحدَّ على العَبْدِ والأمَةِ إذَا زَنَيَا ، قال بن شهاب : مضت السُّنَّةُ أن يَحُدَّ العَبْدَ والأمَةَ أهلُوهُم في الزِّنَا ، إلاَّ أنْ يُرْفَع أمرُهُمْ إلى السَّلطان ، فليس لأحَدٍ أن يفتات عليه قوله عليه السلامُ " إذَا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا الحَدَّ " ، وقال عليه السلامُ : " أقيمُوا{[7511]} الحُدُودَ عَلى مَا مَلَكتْ أيْمانُكُمْ مَنْ أحْصِنَ مِنْهُمْ{[7512]} ، ومَنْ لَمْ يُحْصِن " {[7513]} .
قال مَالِكٌ : يَحُدَّ المولى عبده في الزِّنَا وشرب الخمر ، والقَذْفِ إذا شهد عنده الشُّهُودُ ، ولا يقطعُهُ في السَّرقَةِ إلاَّ الإمام .
وقال أبُو حنيفةَ : " لا يقيمُ الحُدُودَ عليهم إلاَّ السُّلْطَان " .
قال القُرطبيُّ{[7514]} : إذَا زنتِ الأمَةُ ثُمَّ عُتِقَتْ قَبْلَ أن يحدَّها سيِّدُهَا لم يحدَّهَا إلا السُّلْطَان ، فإنْ زَنَتْ ثم تزوَّجَتْ لم يكُنْ لسيِّدِهَا أن يجلدَهَا لحقِّ الزَّوْجِ ؛ إذ قد يَضُرُّهُ ذلك ، إذَا لم يكن الزَّوْجُ ملكاً للسَّيِّدِ ، فلو كان ملكاً للسَّيِّدِ ؛ جازَ ذلك لأن حقَّهُمَا حَقُّهُ .
إذا أقرَّ العَبْدُ بالزِّنَا ، وأنْكَرَهُ المولى فالحدُّ يجبُ على العبد لإقرارِهِ ، ولا يلتفت لإنكار السَّيِّد ، فلو عفا السَّيِّدُ عن عَبْدِهِ ، أو أمته إذا زَنَيَا ، فقال الحَسَنُ : له أن يغفر{[7515]} وقال غيرُهُ : لا ينفَعُهُ إلاَّ إقامَةُ الحدِّ ، كما لا يسع السُّلطانَ أنْ يعفو عن حدٍّ إذا عَلِمَهُ .
قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } " ذلك " : مبتدأ ولمن خشِيَ : جارٌّ ومجرورٌ [ خبره ] ، والمشارُ إليه ب " ذلك " إلى نكاح الأمة المؤمنة لمنْ عدِمَ الطَّوْلَ ، والعَنَتُ في الأصْلِ انكسارُ العَظْمِ بعد الجَبْرِ ؛ فاستعير لكلِّ مَشَّقَّةٍ .
قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ } أي : لشدَّدَ الأمرَ عليكم ، وأُريدَ بِهِ هاهُنَا ما يجرُّ إليه الزِّنَا منَ العذاب الدُّنْيَوِيِّ ، والأخرويِّ .
وقال بعضُ المفسِّرينَ : إنَّ الشَّبق الشَّديدَ في حقِّ النساء قد يؤدِّي إلى اختناق{[7516]} الرَّحم ، وأمَّا في حقِّ{[7517]} الرِّجالِ فقد يؤدي إلى أوجاعِ الوركين والظهر والأوَّل هو اللائِقُ ببيان القرآن .
و " منكم " حالٌ من الضَّميرِ في " خشيِ " أي : في حال كَوْنِهِ مِنْكُمْ ، ويجوزُ أن تكون " من " للبيان .
قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } . مبتدأ وخبر لتأوله بالمصدَرِ وهو كقوله { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ البقرة : 237 ] والمعنى وأنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء متعفِّفِينَ خيرٌ لكم لما بَيَّنَا من المفاسدِ الحاصلة في هذا النَّكَاحِ .
قال عليه الصلاة والسلام : " الحَرَائِرُ صَلاَحُ البَيْتِ ، والإمَاءُ هَلاَكُهُ " {[7518]} .
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ قَهْرَمَانَةٌ *** فَذلِكَ بَيْتٌ لا أبَالَكَ ضَائِعُ{[7519]}
إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ المَرْءِ حُرَّةٌ *** تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ{[7520]}
مذهب أبي حنيفة وأحمد : أنَّ الاشتغال{[7521]} بالنِّكاح أفضل من الاشتغال بالنَّافلة ، فإن قالوا بهذا سواء كان نكاح حرَّةٍ أو نكاح أمةٍ فهذه الآية نصٌّ في بطلان قولهم ، وإن قالوا : إنَّا لا نرجِّح نكاح الأمة على النَّافلة ، فحينئذٍ يسقط{[7522]} استدلالهم .
ثم قال : { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهذا كالمؤكّد لما ذكره ؛ لأنَّ الأولى ترك هذا النِّكاح يعني أنَّهُ وإنْ حصل ما يقتضي المَنْعَ من هذا النِّكَاحِ إلا أنَّهُ تعالى أباحه لاحتياجكم إليه ، فكان ذلك من باب المغفرة والرَّحْمَةِ .