في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان :
الأوَّلُ : أنَّهُ تعالى لَمَّا بَيَّن الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه ، بَيَّنَ في هذه الآية كيفية تملك الأيتام{[6772]} المال بالإرث .
الثَّاني : أنَّهُ لَمَّا بين حكم الميراث مجملاً في قوله :
{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } [ النساء :7 ] فذكر هنا تفصيل ذلك المجمل .
اعلم أنَّ الوراثة كانت في الجاهليَّةِ بالذُّكورة والقوّة ، وكانوا يورثون الرِّجال دون النِّسَاء والصّبيان ، فأبطل الله ذلك بقوله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ } الآية . وكانت أيضاً في الجاهليَّة وابتداء الإسلام بالمخالطة{[6773]} ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }{[6774]} [ النساء : 33 ] .
ثم صارت الوراثة بالهجرة ، قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الأنفال : 72 ] فنسخ اللَّهُ ذلك كله بقوله : { وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ الأنفال : 75 ] وصارت الوراثة بأحد الأمور الثَّلاثة : النّسب ، أو النكاح ، أو الولاء .
وقيل : كانت الوراثة أيضاً بالتَّبنِّي ، فإنَّ الرَّجل منهم كان يتبنَّى ابنَ غَيْره فَيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النَّسب فيرثه ، وهو نوع من المعاهدة المتقدِّمَةِ ، وكذلك بالمؤاخَاةِ .
وقال بعض العلماء : لم ينسخ شيء من ذلك بل قررهم اللَّهُ عليه فقوله :
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ }[ النساء : 33 ] المراد التوارث بالنسب ثم قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [ النساء :33 ] [ ليس المراد منه النصيب من المال ، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة ]{[6775]} والنصيحة وحسن العشرة .
روى عطاء قال : استشهد سعدُ بْنُ الرَّبِيع النَّقيب ، وترك ابنتين وامرأة وأخاً ، فأخذ الأخ المال كُلَّهُ ، فأتت المرأةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول اللَّهِ هاتان ابنتا سَعْدٍ ، وإن سعداً قتل ، وأن عمهما أخذ مالهما ، فقال عليه السَّلام : " ارجعي فَلَعَلَّ اللَّهَ سَيَقْضِي [ فيه ]{[6776]} " ثم إنها عادت إليه بعد مدة وبكت ، فأنزل اللَّهُ هذه الآية ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّهما ، وقال له : " أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ ، وَأمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقي فَهُوَ لَكَ " ، فهذا أوَّلُ ميراث قُسِّمَ في الإسلام{[6777]} .
وقال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ : نزلت في أم كُحَّة امرأة أوس بْنِ ثَابتٍ وبناته .
وروى جابر قال : جاء رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعْقِلُ فتوضّأ فَصَبَّ عَلَيَّ من وضوئه فقلتُ : يا رسول الله لمن المِيرَاثُ ، وَإنَّمَا يرثُنِي كَلاَلَةٌ فنزلت آية الفرائض{[6778]} .
قال القَفَّالُ : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } أي : يقول لكم قولاً يوصلكم{[6779]} إلى إيفاءِ حقوق أولادكم بعد موتكم ، وأصل الإيصاء هو الإيصَالُ يقال : وصى يصي إذا وَصَلَ ، فإذا قيل : أوصاني{[6780]} ، فمعناه : أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه ، وكذلك وَصَّى وهو على المبالغة .
وقال الزَّجَّاج{[6781]} : معنى قوله هاهنا { يُوصِيكُمُ } أي : يَفْرِضُ عليكم ؛ لأنَّ الوصية مِنَ الله إيجابٌ لقوله بعد نَصِّه على المحرمات { ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } [ الأنعام : 151 ] .
وقرأ الحسن{[6782]} وابن أبي عبلة { يُوَصِّيكُم } بالتَّشديد ، وقد تَقَدَّمَ أنَّ أوْصَى ووصَّى لغتان .
قوله : { فِي أَوْلاَدِكُمْ } قيل : ثَمَّ مضاف محذوف أي : في أولاد موتاكم .
قالوا : لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُخَاطَبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولاده ، ويُفْرَضَ عليه ذلك .
وقال بعضهم : إن قلنا إنَّ معنى { يُوصِيكُمُ } " يبين لكم " لم يحتج إلى هذا التقدير ، وَقَدَّر بَعْضُهُم قبل : { أَوْلاَدِكُمْ } مضافاً ، أي : في شأن أولادكم ، أو في أمر أولادكم .
قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ } هذه الجملة من مبتدأ وخبر ، يُحْتَمل أن تكونَ في محلِّ نَصْبٍ ب " يوصي " ؛ لأنَّ المعنى : يَفْرِضُ لكم ، أو يُشَرِّع في أوْلادَكُمْ ، كذا قاله أبُو البَقَاءِ ، وهذا يقرب من مذهب الفرَّاء ، فإنَّهُ يُجْري ما كان بمعنى القول مُجْرَاه في حكاية الجملِ ، فالجملةُ في موضع نَصْب ب " يوصيكم " .
وقال مَكِّيٌّ : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ } ابتداءُ وخبر في موضع نصب تَبْيينٌ لِلْوَصِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا .
وقال الكِسَائِيُّ : ارتفع " مثل " على حذف " أنَّ " تقديره : أنَّ للذكرِ مثلُ حظّ ، وبه قرأ ابن أبي عبلة{[6783]} ، ويحتمل ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب ، بل جيء بها للبيان والتَّفسير فهي جُملةٌ مفسِّرةٌ للوصيَّةِ ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين ، وهو ظاهر عبارة الزمخشريِّ ، فَإنَّهُ قال : وهذا إجمالٌ تفصيلُه { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } .
وقوله : { لِلذَّكَرِ } لا بُدَّ من ضمير يعود على { أَوْلاَدِكُمْ } من هذه الجملة ، فيحتمل أن يكون محذوفاً أي : للذكر منهم نحو : " السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم " قاله الزمخشريُّ ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند مَنْ يرى ذلك ، والأصل : لذكرهم و " مثل " صفة لموصوفٍ محذوفٍ أي : للذَّكَر منهم حَظٌّ مثلُ حَظِّ الأنثيين .
فإن قيل : لا يقال في اللُّغَةِ : أوصيك لكذا ، فكيف قال هنا : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ } ؟ .
فالجوابُ : أنَّهُ لما كانت الوصية قولاً ، فلهذا قال بعد قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ } قولاً مستأنفاً وهو قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } ونظيره قوله تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً }{[6784]} [ الفتح : 29 ] أي : قال لهم مغفرة ؛ لأن الوعد قولٌ .
اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأوْلاَدِ ؛ لأنَّ تعلُّق الإنسان بولده أشدّ التّعلقات ، وللأولاد حال من انفراد وحال اجتماع مع الوالدين .
فحال الانفراد [ ثلاثة ]{[6785]} إمَّا أن يَكُونُوا ذكوراً و إناثاً ، أو ذكوراً فقط ، أو إناثاً فقط ، فإنْ كانوا ذكوراً وإناثاً فقد بَيَّنَ اللَّهُ تعالى حكمهم بقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } فبين تعالى أن للذكر مثل ما للأنثى مرتين{[6786]} .
قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } الضمير في " كُنَّ " يعودُ على الإناثِ اللاَّتي شَمَلَهُنَّ قوله : { فِي أَوْلاَدِكُمْ } .
فإنَّ التَّقدير : في أولادكم الذُّكور والإناث ، فعادَ الضَّمِيرُ على أحد قِسمي الأولادِ ، وإذا عاد الضَّمِيرُ على جمع التكسير{[6787]} العاقل المراد به مَحْضَ الذُّكور ، وفي قوله عليه السَّلام
" ورب الشياطين ومن أضللن " لعوده على جماعة الإناث ، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأوْلى [ والأحرى ]{[6788]} ، وهذا معنى قول أبي حيَّان : وفيه نَظَرٌ لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقودٍ هنا وهو طلب المشاكلة لأنَّ قبله{[6789]} " اللهم رب السموات ومن أضللن وربّ الأرضين وما أقللن " ذَكَر ذلك النحويون .
وقيل : الضَّمير يعود على المتروكات أي : فإن كانت المتروكات ، وَدَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه ، قاله أبُو البقاء{[6790]} ومكيٌّ وقدَّره الزمخشريُّ : فإنْ كانت البنات أو المولودات .
فإذا تقرر هذا ف " كُنَّ " كان واسمُها و " نسَاءً " خبرُها ، و " فوق اثنتين " ظرف في محلّ نصب صفة ل " نساء " وبهذه الصّفة تحصُل فائدةُ الخبرِ ، ولو اقتصِرَ عليه لم تَحْصُلْ فائدةٌ ، ألا ترى أنَّهُ لو قيل : " إنْ كان الزيدون رجالاً كان كذا " لم يَكُنْ فيه فائدةٌ .
وأجاز الزَّمخشريُّ في هذه الآية وَجْهين غريبين :
أحدهما : أن يكون الضمير في " كُنَّ " ضميراً مبهماً ، و " نساء " منصوبٌ على أنَّهُ تفسيرٌ له يعني : تمييزاً ، وكذلك قال في الضَّمِير الَّذي في " كَانَتْ " من قوله : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً } على أنَّ " كان " تَامَّةٌ . والوجه الآخر : أن يكون " فوق اثنتين " خبراً ثانياً ل " كُنَّ " وَرَدَّهما عليه أبو حيّان : أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ " كانَ " ليسَتْ من الأفعالِ الَّتي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بَعْدَهُ بل هذا مختصٌّ من الأفعال ب " نعم " و " بئس " وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا وبَابُ التنازع عند إعْمَالِ الثاني ، وأمَّا الثاني : فَلِمَا تَقَّدَمَ من الاحتياج إلى هذه الصفةِ ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أنْ تَسْتَقِلَّ به فَائِدةُ الإسناد ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ لو اقتصر على قوله " فإن كن نساء " لم يُفِدْ شيئاً ؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ .
قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } قرأ الجمهور " ثلُثا " بضمِّ اللام ، وهي لغة الحجاز وبني أسد .
قال النَّحَّاسُ : من الثُّلث إلى العشر .
وقرأ الحسن{[6791]} ونعيمُ بن ميسرةَ " ثُلْثا " و " الثُّلْثُ " و " النِّصْفُ " و " الرُّبْع " و " الثُّمْن " كلُّ ذلك بإسكان الوسط .
وقال الزَّجَّاجُ : هي لغة واحدة ، والسُّكونُ تخفيف .
بَيَّنَ في هذه الآية ما إذا كانوا إناثاً فقط ، فقال : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ }{[6792]} ، إلا أنَّه تعالى لم يَبيِّن حُكْمَ الْبِنْتَين تصريحاً ، واختلفوا فيه : فعن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال : الثُّلثان فرض الثلاث من البنات فصاعداً ، وأمَّا فرض البنتين فهو النّصف ؛ لهذه الآية{[6793]} ؛ لأنَّ لفظة " إن " في اللُّغة للاشتراط ، وذلك يدلُّ على أن أخذ الثُّلثين مشروط بكونهن فوق الاثنتين وهو الثلاث فصاعداً .
الأول : قوله تعالى : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فجعل حصول{[6794]} النّصف مشروطاً بكونها واحدةً ، وذلك ينفي حصول النّصف نصيباً للبنتين وقد جعل النّصف نصيبَ البنتين ، فهذا لازم لَهُ{[6795]} .
الثَّاني : لا نُسَلِّمُ أنَّ كلمة " إنْ " تَدُلُّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف ، لأنَّهُ لو كان الآمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين ؛ لأن الإجماع دَلَّ على أنَّ نَصِيبَ البنتين إمَّا النِّصْفُ ، وإمَّا الثُّلثان ، وبتقدير أن تكون كلمة " إن " للاشتراط وجب القول بفسادهما ، فثبت أنَّ القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فيكون باطلاً ولأنَّهُ تعالى قال : { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } [ البقرة : 283 ] وقال : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] ولا يمكن أن{[6796]} يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات .
الثَّالث : أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير : فإن كُنَّ نِسَاءً اثنتين فما فَوْقَهُمَا فلهن الثُّلثان .
وَأمَّا سَائِرُ الأمَّةِ ، فأجمعوا على أنَّ فرض البنتين الثلثان .
قال أبو مسلم الأصفهاني{[6797]} : عرفناه من قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } فإذا كان نصيب الذكر مثل حظ الأنثيين ، ونصيبُ الذكر هاهنا هو الثُّلثان وجب لا محالةَ أن يكون نصيب البنتين الثلثين .
وقال أبو بكر الرَّازي{[6798]} : إذا مات وخلف ابناً وبنتاً فهاهنا نصيب البنتِ الثّلث لقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذّكر هو الثُّلث ، فأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى ؛ لأنَّ الذكر أقوى من الأنْثَى ، وإذا كان حظ البنتين أزيد من حظ الواحدة ، وَجَبَ أن يكون ذلك هو الثُّلثان ؛ لأنَّهُ لا قائل{[6799]} بالفرق ، وأيضاً فلما ذكرنا من سبب النُّزول أنه عليه السَّلام أعطى بنتي سعد بن الرَّبيع الثّلثين ، ولأنَّه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن ، ولم يذكر حكم البنتين ، وقال في ميراث الأخوات
{ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ }
[ النساء : 176 ] فذكر ميراث الأخت الواحدة والأختين ، ولم يذكر ميراث الكثير فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مُجْمَلاً من وجه ومبيناً من وجه ، فنقول : لما كان نصيبُ الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بذلك ؛ لأنَّهُمَا أقرب إلى الميّت من الأختين ، وَلَمَّا كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيدُ على الثُّلثين ، وجب ألاَّ يزيدَ نصيبُ الأخوات الكثيرة على ذلك ؛ لأنَّ البنت لَمَّا كانت أشد اتِّصالاً بالميت ؛ امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقْوَى .
وأما القسم الثَّالِثُ : وهو أن يكون الأولاد ذكوراً فقط ، فللواحد المنفرد أخذ المال كلّه ، لقوله تعالى { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } ثم قال في البنات { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فلزم من مجموع الآيتين{[6800]} أن نصيب الابن المنفرد جميع المال ، وقال عليه السَّلام : " ما أبْقَتِ السِّهَامُ فللأوْلَى عَصَبةٍ ذَكَرٍ " {[6801]} وَإذَا أخَذَ كل ما يبقى بعد السِّهَام ، وجب أن يأخذ الكلَّ إذا لم يكن سهام .
فإن قيل : حظُّ الأنثيين الثُّلثان فقوله{[6802]} { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } يقتضي أن يكون حظُّ الذَّكر مطلقاً هو الثُّلث{[6803]} ، وذلك ينفي أن يأخذ المال كله .
فالجوابُ : أنَّ المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد ؛ لأن قوله { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } يقتضي حصول الأولاد ، وقوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك ، هذا كلُّهَ إذا كان ابناً واحداً فقط ، فلو كان أكثر من واحد تشاركوا في جهة الاستحقاق ؛ ولا رجحان ، فوجب قسم المال بينهم بالسَّويَّةِ ، واللَّه أعلم .
فإن قيل : إنَّ المرأة أكثر عجزاً من الرجل ، وأقل اقتداراً من الرَّجُل لعجزها عن الخروج والبروز ، فإنَّ زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك ، ولنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها ، وإذا ثبت أنَّ عجزها أكمل ، وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر ، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة ، فما الحكمة في أنَّه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل ؟ .
فالجواب : لأن خرج المرأة أقل ، لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرَّجل أكثر ، لأنَّهُ هو المنفق على زوجته ، ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج ؛ ولأنَّ الرَّجُلَ أكملُ حالاً من المرأة في الخلقةِ وفي العقل والمناصب الدينيَّة ، مثل صلاحية القضاء والإمامة ، وأيضاً شهادة المرأة نِصْفُ شهادة الرَّجُلِ ، ومن كان كذلك ؛ وجب أن يكون الإنعام إليه أكثر ؛ ولأنَّ المرأة قليلةُ العقل كثيرةُ الشَّهْوَةِ ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفسادُ ، ولهذا قال الشَّاعرُ : [ الرجز ]
إنَّ الفَرَاغَ وَالشَّبَابَ وَالْجِدَهْ *** مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهُ{[6804]}
وروي أنَّ جعفر الصادق سُئِلَ عن هذه الآية فقال : " إنَّ حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم ، فلما جعلت نصيبها ضعف نصيب الرجل أقلب اللَّهُ الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصفَ نصيب الرَّجل " .
فإن قيل : لِمَ لم يَقُل للأنثيين مثل حظ الذَّكر ، أو للأنثى مثلاً حظ الذَّكر ؟
فالجواب أنَّه لمَّا كان الذَّكر أفضل من الأنثى قدَّمَ ذِكْرَهُ على ذكر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، ولأنَّ قوله { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } يدلُّ على فضل{[6805]} الذكر بالمطابقة ، وعلى نقص الأنثى بالالتزام ، ولو قال كما ذكرتم لَدَلَّ على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذَّكر بالالتزام ، فرجح الطريق فترجح الطرف الأوَّل تنبيهاً على أنَّ السَّعي في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحاً على السعي في تشهير الرَّذائل ، ولهذا قال { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرَّة واحدة ، وأيضاً فلأنهم كانوا يورثون دون الإناث ، وهو سبب نزول الآية ، فقيل{[6806]} : كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى ، فلا ينبغي أن يطمع في حِرْمَانِ الأنْثَى بالكليَّةِ .
فإن قيل : قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَاءً } جمع ، وأقلُّ الجمع ثلاثة فما فائدة قوله : { فَوْقَ اثْنَتَيْنِ } ؟ .
فالجواب : للتأكيد كقوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] وقوله :
{ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ } [ النحل : 51 ] .
اسم الولد يقع على ولد الصّلب حقيقة ، وهل يستعمل في ولد الابن حقيقة أو مجازاً ؟ خلاف .
فإن قلنا : إنَّهُ مجاز ، فنقول : ثَبتَ في أصول الفقه أنَّ اللَّفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعةً واحدةً في حقيقته وفي مجازه معاً ، فحينئذ يمتنع أنْ يكون المراد بقوله { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } ولد الصّلب ، وولد الابن معاً ، ويُدْفَعُ هذا الإشكال بأن يقال : إنَّا لا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ ولد الابن من هذه الآية ، [ بل ]{[6807]} من دليل آخر ، وذلك أن أولاد{[6808]} الابن لا يرثون إلا عند عدم الولد ، وإذا لم يستغرق ولد الصّلب كلَّ الميراث ، وإن ثبت أنَّه حقيقة فيهما فيكون مشتركاً بينهما فيعود الإشكال ، لأنَّه ثبت أنَّهُ لا يجوزُ استعمال اللَّفظ المشترك لإفادة معنييه معاً ، بل الوَاجِبُ أنَّ اللفظ يكون متواطئاً{[6809]} فيهما كالحيوان{[6810]} بالنِّسبةِ إلى الإنسان ، والفرس ، [ والذي ]{[6811]} يدلّ على صحَّةِ ذلك قوله
{ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ النساء : 23 ] وأجمعوا على أنه يدخل فيه ابن الصّلب ، وأولاد الابن ، فعلمنا أنَّ لفظ الابن يتواطأ بالنسبة إلى ولد الصّلب وولد الابن وعلى هذا التَّقدير يزول الإشكال ويدخل في هذا البحث هل يتناول اسم الأب الأجداد والجدّات . وقد وقع ذلك في قوله تعالى : { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] والأظهر أنَّهُ ليس على سبيل الحقيقة ، فإن الصَّحَابَةَ اتَّفقوا على أنه ليس للجدِّ حكم مذكور في القرآن ، ولو كان اسم الأب يتناول الجد لما صحَّ ذلك .
قالوا إن عموم قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } مخصوص بأربع صور :
أحدها : لا يتوارث الحرّ والعبد .
وثانيها : أنه إذا{[6812]} قتل مورثه عمداً لا يرث .
ورابعها : أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لا يورثون ، وروي أنَّ فاطمة - رضي الله عنها - لما طلبت الميراث ومنعوها ، احتجوا عليها بقوله عليه السلام : " نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة " فعند هذا احتجت فاطمة - عليها السلام - بعموم قوله تعالى : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } وكأنها أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد .
وقوله : { وإن كانت واحدة } قرأ نافع{[6813]} " وَاحِدَةٌ " رفعاً على أن " كَانَ " تامة أي : وإن وُجِدَتْ واحدةٌ ، والباقون " واحدة " نصباً على أن " كَانَ " ناقصة واسمُها مستتر فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة و " واحدة " نَصْبٌ على خبر " كان " ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الزَّمَخشريَّ أجاز أن يكون في " كان " ضمير مبهمٌ مفسَّر بالمنصوبِ بعد .
وقرأ السُّلمي{[6814]} : " النُّصف " بضم النون ، وهي قراءةُ عليِّ وزيد بن ثابت - رضي الله عنهما - وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ويعني : كون البنت الواحدة لها النّصف ؛ لأن الابن الواحد له جميع المال إذا انفرد ، فكذلك البنت إذا انفردت لها نصف ما للذكر إذا انفرد ؛ لأنَّ الذَّكر له مثل حظ الأنثيين .
قوله : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ } .
{ السُّدُسُ } مبتدأ و { وَلأَبَوَيْهِ } خبرٌ مقدَّمٌ ، و { لِكُلِّ وَاحِدٍ } بدل من { وَلأَبَوَيْهِ } ، وهذا نص الزمخشريِّ فإنَّه قال : { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } بدل من { وَلأَبَوَيْهِ } بتكرير العامل ، وفائدة هذا البدل أنَّهُ لو قيل : " ولأبويه السدس " لكان ظاهرهُ اشتراكهما فيه ، ولو قيل : " لأبويه السدسان " لأوْهَمَ قِسْمَةَ السدسين عليهما بالسويّة وعلى خلافهما .
فإن قُلْتَ : فهلا قيل : " ولكل واحد من أبويه السدس " وَأيُّ فائدةٍ في ذكر الأبوين أولاً ثم في الإبدال منهما ؟ .
قلت : لأنَّ في الإبدال والتفصيل بَعْدَ الإجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمع بين المفسَّر والتفسير .
و { السُّدُسُ } مبتدأ ، وخبره { لأَبَوَيْهِ } والبدلُ متوسط بينهما للبيان . انتهى .
ونَاقَشَهُ أبو حيان فِي جَعْلِهِ { لأَبَوَيْهِ } الخبر دون قوله : { لِكُلِّ وَاحِدٍ } قال : " لأنه ينبغي أن يكون البدل هو الخبر دونَ المبدل منه " يعني : أنَّ البدل هو المعتمد عليه ، والمبدل منه صار في حكم المُطَّرح{[6815]} ، ونَظَّره بقولك : " إنَّ زيداً عينهُ حسنةٌ " فكما أنَّ " حَسَنَةٌ " خبر عن " عينه " دون " زيد " في حكم المُطَّرح فكذلك هذا ، ونَظَّره أيضاً بقولك : [ أبواك لكل واحد منهما يصنع كذا ف " يصنع " خبر عن كل واحد منهما .
ولو قلت : ]{[6816]} " أبواك كُلُّ واحدٍ منهما يصنعان كذا " لَمْ يَجُزْ .
وفي هذه المناقشة نَظَرٌ ، لأنه إذا قيل لك : ما مَحَلُّ لأبويه من الإعراب ؟ تُضطر إلى أن تقول : في مَحَلِّ رفع خبراً مقدّماً ، ولكنه نقل نسبة الخيريّة إلى { لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } دون { لأَبَوَيْهِ } قال : وقال بعضهم : { السُّدُسُ } رفع بالابتداء ، و { لِكُلِّ وَاحِدٍ } الخبرُ و{ لِكُلِّ } بَدَلٌ من الأبوين ، و " منهما " نعت لواحد ، وهذا البدلُ هو بدلُ بعضِ من كُلِّ ، ولذلك أتَى معه بالضَّمير ، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ بدلُ شيءٍ من شَيْءٍ وهما لعين واحدةٍ لجواز أبواك يَصْنعان كذا وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا ، بل تقول : يصنع . انتهى .
والضَّمير في " لأبويه " عائد على ما عاد عليه الضَّمير في " ترك " ، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوة الكلام ، والتثنية في " أبويه " من التَّغليب ، والأصل : لأبيه وأمه{[6817]} وَإِنَّما غَلَّبَ المذكر على المؤنَّث كقولهم : " القمران ، والعمران " وهي تثنية لا تنقاس .
وقيل : إنَّ الأصل في الأم أنْ يقال لها : " أبة " والتثنية على الأصل .
إذا كان مع الأبوين ولد أو أكثر{[6818]} كان لِكُلِّ واحد منهما السُّدس وسوى اللَّهُ بين الأب والأمّ في هذا الموضع ؛ لأنَّ الأبَ وإن كان يستوجب التفضيل لما كان ينفقه على الابن ، وبنصرته له والذب عنه صغيراً ، فالأم أيضاً حملته كُرهاً ووضعته كُرْهاً ؛ وكان بطنها له وعاءً ، وثديها له سقاء ، وحِجْرُهَا له فناء ، فتكافأت الحجتان ، فلذلك سوَّى بينهما ، فإن كانت بنتاً واحدةً وبنت ابن فللبنت النصف وللأمِّ السُّدس وللأب ما بقي ، وهو الثلثُ [ نصف بفرضه ، وهو السُّدس ]{[6819]} وباقيه بالتَّعصيب فإن قيل : حقُّ الأبوين على الإنسان أعظمُ من حقِّ ولده عليه ، لأنَّ الله تعالى قرن طاعته بطاعتهما فما الْحِكَمةُ في جَعْلِ نصيب الأولادِ أكبر ؟ .
فالجواب : أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلاَّ القليل ، فكان احتياجهما إلى المال قَلِيلاً ، وأمَّا الأولاد فهم في زمن الصِّبا ، فكان احتياجهم إلى المال أكثر [ فظهر الفرق ]{[6820]} .
قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ }
قرأ الجمهور { فَلأُمِّهِ } وقوله : { فِي أُمِّ الْكِتَابِ } [ الزخرف : 4 ] .
وقوله : { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا } في القصص [ آية : 59 ] .
وقوله : { مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] .
وقوله : { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النور : 61 ] و { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] بضم الهمزة من " أمّ " وهو الأصلُ .
وقرأ حمزة{[6821]} والكسائيُّ جميعَ ذلك بكسر الهمزة .
وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من " إمِّهات " في الأماكن المذكورة ، هذا كله في الدَّرْجِ .
أمَّا في الابتداءِ بهمزة " الأم " و " الأمهات " فإنَّهُ لا خلاف في ضَمِّها .
أمَّا وجه قراءة الجمهور فظاهرٌ ، لأنَّهُ الأصل كما تَقَدَّمَ .
وَأمَّا قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا : لمناسبة{[6822]} الكسرة أو الياء الَّتي قبل الهمزة ، فكسرت الهمزةُ إتباعاً لما قَبْلَها ، ولاستثقالهم الخروج من كَسْرِ أو شبهه إلى ضم .
قال الزَّجَّاجُ : وليس في كلام العرب " فِعُل " بكسر الفاء وضمِّ العين ، فلا جَرَمَ جُعِلَت الضمةُ كسرةً ، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزة ضَمَّاها لزوال الكسر أو الياء ، وأمَّا كسر حمزة الميم من " إمَّهات " في المواضع المذكورة فللإتْبَاع ، أتبعَ حركة الميم لحركةِ الهمزةِ ، فكسرةُ الميم تَبَعُ{[6823]} التَّبَع ، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميم ؛ لما تقدَّمَ من زوال موجب ذلك .
وكَسْرُ همزة " أم " بعد الكسرة أو الياء حكاه سبيويْهِ لُغَةً عن العرب ، ونَسَبَها الكِسائِي والفرَّاء إلى " هوازن " و " هذيل " .
ذكر هاهنا أنَّ الأبوين إذا لم يكن معهما وَارِثٌ غَيرُهُمَا ، فإنَّ الأم تأخذ الثُّلث ، ويأخذ الأبُ ما بقي وهو الثُّلثان ، وإذا ثبت أنَّهُ يأخذ الباقي بالتَّعْصِيبِ ، وجب أن يأخذ المال كُلَّهُ إذا انفرد ؛ لأنَّ هذا شأن التَّعصيب ، فإن كان مع الأبوين أحد الزَّوجين ، فذهب أكثر الصَّحَابة إلى أنَّ الزَّوْجَ يأخذ فَرْضَهُ ، ثم تأخذ الأم ثُلُثَ ما بقي ، ويأخذ الأب ما بقي .
وقال ابن عباس : يأخذ الزوج فَرْضَهُ ، وتأخذ الأم الثلث كاملاً ، ويأخذ الأب ما بقي{[6824]} .
وقال : لا أجد في كتاب اللَّهِ - تعالى - ثلث ما بقي .
وعن ابن سيرينَ أنَّهُ وافق ابن عبَّاس في الزَّوْجَة والأبوين ، وخَالَفَهُ في الزَّوْجِ والأبوين ، لأنَّهُ يُفْضِي إلى أن يكون للأنثى مثل حَظِّ الذكرين .
وَأمَّا الزَّوْجَةُ ، فلا يفضي إلى ذلك .
وحجَّةُ الجمهور أنَّ قاعدة الميراث متى اجتمع ذكر وأنثى من جنس واحد ، كان للذَّكَرِ مثل حَظِّ الأنثيين ، كالأبوين مع البنت ، والأخ مع الأخت ، وابن الابن مع بنت الابن ، والأم مع الأب كذلك إذا لم يكن للميِّتِ وارث سواهما كما تَقَدَّمَ .
وإن كان كذلك ، فإنَّ الزَّوْجَ يأخذ نصيبه ، ويقسَّمُ الباقي بين الأبوين للذَّكر مثل حظ الأنثيين ؛ ولأن الزَّوج يأخذ نصيبه بحكم عَقْدِ النِّكَاحِ لا بحكم القرابة ، فأشبه الوصيَّة في قسمة الباقي .
وأيضاً فإنَّ الزَّوْجَ إذا أخذ النصف ، فلو دفعنا ثلث جميع المال للأم والسدس إلى الأب{[6825]} ، يلزم منه أن يكون للأنثى مثل حظِّ الذكرين ، وهذا خلاف قوله : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ } .
قوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } .
" إخوة " أعم من أن يكونوا ذكوراً أو إناثاً ، أو بعضهم ذكوراً وبعضهم إناثاً ، ويكون هذا من باب التغليب ، وزعم قومٌ أن الإخوة خاصٌّ بالذُّكور ، وأنَّ الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثُّلثِ إلى السُّدس ، فقالوا : لأن " إخوة " جمع " أخ " ، والجمهور على أنَّ الإخوة وإن كانوا بلفظ الجمع يقعون على الاثنين ، فيحجب الأخوان أيضاً الأم من الثُّلث إلى السُّدس خلافاً لابن عبَّاسٍ ، فإنَّهُ لا يحجبُ بهما والظاهر معه .
روي أنَّ ابن عباس قال لعثمان بِمَ صار الأخوان يَرُدّان الأم من الثُّلث إلى السُّدس ، وَإنَّمَا قال اللهُ تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } والأخوان في لسان قومك ليس بإخوة ؟ فقال عثمان : لا أستطيعُ أنْ أرُدَّ قضاءً قُضِيَ به قبلي ، ومضى في الأمصار{[6826]} .
وهذه المسألة مبنيَّةٌ على أنَّ أقل الجمع ثلاثة ، والموجب لذلك هو القياس يخص هذه المسألة بأنَّ الأختين ميراثهما ميراث الثَّلاث ، كما أنَّ ميراث البنتين مثل ميراث الثلاثة فكذلك نصيبُ الأختين من الأمِّ مثل نصيب الثلاثة ، وإذا كان كذلك ؛ وجب أن يَحْصُلَ الحَجْبُ بالأختين ، وإذا وجب الحَجْبُ بالأختين لزم ثبوته في الأخوين{[6827]} ؛ لأنَّهُ لا قَائِلَ بالفرق [ فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن ] إجراء القياس في التقديرات صعب لأنَّهُ غير معقول ، فيكونُ ذلك مجرَّدُ تشبيه من غير جامعٍ .
فالجوابُ أن يقال : لا يُتَمَسَّكُ به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء ، لأنَّ الكثرة أمارةُ العموم .
[ والأخوة ]{[6828]} إذا حجبوا الأم من الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ ، فلا يرثون مع الأب شيئاً [ ألبتة ]{[6829]} بل يأخذ الأب باقي المال ، وهو خمسة أسْدَاسٍ ، سدس بالفرض ، والباقي بالتَّعصيب ، وقال ابن عبَّاسٍ{[6830]} : الإخوة يأخذون السُّدُسَ الذي حجبوا الأم عنه ، وما بقي فللأب ، وحجته الاستقراء دَلَّ على أن مَنْ لا يرث لا يحجب ، فهؤلاء الإخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا ، وهذا يختص{[6831]} بالإخوة للأم إذا اجتمعوا مع الأبوين فإنَّهُمْ يحجبون الأم من الثُّلث إلى السُّدس ، ولا يرثون شيئاً ؛ لأن الأب يسقطهم{[6832]} .
قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهُ متعلقٌ بما تقدمه من قسمة المواريث كُلِّهَا لا بما يليه وحده ، كأنَّهُ قيل : قسمةُ هذه الأنصباء من بعد وصية قاله الزَّمَخْشَرِيُّ ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ } وما بعده .
والثاني : قاله أبُو حيَّان أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ ، أي : يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّلَ من بعد وصية .
[ والثالث : أنَّهُ حال من السُّدس ، تقديره : مستحقاً من بعد وصيَّة ]{[6833]} ، والعاملُ الظرفُ قاله أبُو البَقَاءِ{[6834]} ، وَجَوَّزَ فيه وَجْهاً آخر ، قال : [ ويجوزُ أن يكون ظرفاً ] أي : يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصيّةِ ، ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف لأنَّ الوصيَّةَ هنا المالُ المُوصَى به ، وقد تكون " الوصيَّةُ " مَصْدراً مثل " الفَريضَة " ، وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وَجْهٌ .
وقوله : والعاملُ الظَّرف ، يعني بالظَّرف : الجارَّ والمجرور في قوله تعالى : { فَلأُمِّهِ السُّدُسُ } فإنه شبيه بالظرفية ، وعمل في الحال لما تضمنه من الفعل لوقوعه خبراً ، و " يوصي " فعل مضارع المرادُ به المضمر ، أي : وصية أوْصَى بها و " بها " متعلق به ، والجملة في محلِّ جَرِّ صفةً ل " وصية " .
وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ وأبُو بكرٍ{[6835]} " يُوصَى " مبنيّاً للمفعول في الموضعين ، ووافقهم حفص في الأخير ، والباقون مبنياً للفاعل .
وقُرِئَ{[6836]} شاذاً " يُوصَّى " بالتشديد مبنياً للمفعول ، ف " بها " في قراءة البناء للفاعل في مَحَلِّ نصب ، وفي قراءة البناء للمفعول في مَحَلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل .
قوله : " أو دين " ، " أو " هنا لأحدِ الشيئين ، قال أبو البقاء{[6837]} : " وَلا تَدُلُّ على ترتيب ، إذْ لا فرقَ بين قولك : " جاءني زيد أو عمرو " ، وبين قولك : " جاءني عمرو أو زيد " ؛ لأنَّ " أو " لأحد الشيئين ، والواحدُ لا ترتيب فيه ، وبهذا يفسد قولُ مَنْ قَالَ : " من بعد دين أو وصية " وإنَّمَا يَقَعُ الترتيبُ فيما إذا اجتمعا ، فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ على الوصيَّةِ " .
وقال الزَّمخشريُّ : " فإنْ قُلْتَ : فما معنى أو ؟ قلت : معناها الإباحةُ ، وأنَّهُ إن كان أحدهما ، أو كلاهما قُدِّمَ على قِسْمَةِ الميراثِ ، كقولك : " جالس الحسنَ أو ابن سيرين " ، فإن قلت : لم قُدِّمَتِ الوصيّة على الدَّيْنِ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عليها في الشَّرِيعَةِ ؟ .
قلت : لما كانت الوصيَّةُ مُشْبهَةً للميراثِ في كونِها مَأخوذةً مِنْ غير عوضٍ ، كان إخراجُها مِمَّا يَشُقُّ على الورَثةِ ، بخلاف الدَّيْن ، فإن نفوسهم مطمئنَّةٌ إلى أدائه ، فلذلك قُدِّمَتْ على الدَّيْنِ بَعْثاً على وجوبها ، والمسارعة إلى إخراجها مع الدَّيْنِ ، ولذلك جيءَ بكلمةِ " أو " للتَّسْوِيَةِ بينهما في الوجوب " . وقال ابن الخَطِيبِ{[6838]} : إنَّ كلمة " أو " إذا دخلت على{[6839]} النفي صارت في معنى الواو ، كقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً }
[ الإنسان : 24 ] وقوله : { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } [ الأنعام : 146 ] فكانت " أو " هاهنا بمعنى الواو ، وكذلك قوله تعالى : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال : إلاَّ أن يكون هناك وَصِية أوْ دين فيكون المراد بعدهما جميعاً .
قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } مبتدأ ، و { لاَ تَدْرُونَ } وما في حَيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له .
أشهرهُمَا : [ عند المعربين ]{[6840]} أني يكونَ { أَيُّهُمْ } مبتدأ وهو اسم استفهام ، و " أقربُ " خَبَرُهُ ، والجملة من هذا لمبتدأ وخبره في محلِّ نصب ب " تدرون " ؛ لأنَّهَا من أفْعَالِ القُلُوبِ ، فَعَلَّقَها اسمُ الاستفهامِ عَنْ أنْ تَعْمَلَ في لفظه ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعْمَلُ فيه ما قبله في غير الاستثبات .
والثَّاني : أنَّهُ يجوزُ أن يكون { أَيُّهُمْ } موصولةً بمعنى { الَّذِي } و{ وَالأَقْرَبُونَ } : خبرُ مبتدأ مضمر ، وهو عائدُ الموصولِ ، وجازَ حذفه ؛ لأنه يجوز ذلك مع " أي " مطلقاً : أي : أطالت الصِّلَةُ أم لم تَطُلْ ، والتَّقدير : أيُّهم هو أقربُ ، وهذا الموصول وَصِلَتُهُ في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعول به ، نَصَبَه { تَدْرُونَ } ، وإنَّمَا بُنِيَ لوجودِ شَرْطَي البناء ، وهما : أنْ تُضافَ " أي " لفظاً ، وَأنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا ، وصارت الآيةٌ نظيرَ قوله تعالى :
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] ، فصار التقدير : لا تدرون الذي هو أقربُ .
قال أبو حيَّان : " ولم أرهم ذكروه " ، يعني هذا الوجه ، ولا مانع منه لا من جهة المعنى ، ولا من جهة الصِّنَاعة{[6841]} .
فعلى القول الأوَّلِ تكونُ الجملةُ سَادَّةً مَسَدَّ المفعولين{[6842]} ، ولا حاجة إلى تقدير حذف .
وعلى الثَّاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مَفْعُولاً أوَّلَ ، ويكون الثَّاني محذوفاً ، وبعدم الاحتياج إلى حَذْفِ المفعول الثَّاني ، يترجَّحُ الوجه الأوَّلُ .
ثم هذه الجملةُ ، أعني قوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ } لا محلَّ لها من الإعراب ، لأنَّها جملة اعتراضية .
قال الزمخشريُّ ، بعد أن حَكَى في معانيها أقوالاً اختار منها الأوَّلَ : لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضيّة ، ومن حقِّ الاعتراض أنْ يؤكِّد ما اعْتَرَضَ بينه وبين ما يناسِبُه .
يعني بالاعتراض : أنَّهَا واقعةٌ بين قصة المواريث ، إلاَّ أنَّ هذا الاعتراض غيرُ مرادِ النحويين ، لأنَّهُمْ لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصْطِلاحِهِمْ إلاَّ ما كان بين شيئين مُتَلاَزِمَيْنِ كالاعتراض بين المبتدأ وخبره ، والشرط وجزائه{[6843]} والقَسَمِ وجوابه ، والصِّلَةِ وموصولها .
فصل في معاني { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ }
ذكر الزَّمخشريُّ في معانيها أقوالاً :
أحدها : - وهو الذي اختاره - أنْ جَعْلَها متعلَِّقةً بالوصيَّة ، فقال : ثم أكَّد ذلك - يعني الاهتمام بالوصيَّة - ورَغَّبَ فيه بقوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ } أي : لا تدرون مَنْ أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يَمُوتون ، أمَنْ أوْصَى منهم أم مَنْ لم يوص ، يعني : أنَّ مَنْ أوصى ببعض ماله فعرَّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفَّر عليكم عَرَضَ الدُّنيا ، وجعل ثَوَابَ الآخرة أقرب وأحضر من عَرَضِ الدُّنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر ؛ لأنَّ عَرَضَ الدُّنيا ، وإن كان قريباً عَاجِلاً في الصُّورَةِ إلاَّ أنَّهُ فانٍ ، فهو في الحقيقة الأبعدُ الأقصى ، وثوابُ الآخرة ، وَإنْ كان آجلاً ، إلاَّ أنَّهُ بَاقٍ ، وفي الحقيقة الأقربُ الأدنى .
وقيل : إنَّ الله - تعالى - لما ذكر أنصباء الأولاد ، وأنصباء الأبوين ، وكانت العقول لا تدرك{[6844]} معاني تلك التَّقديرات ، فربَّما خطر ببال الإنسان أنَّ القسمةَ لو وقعت على غير هذا الوَجْهِ كانتْ أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوَجْه فأزال اللَّهُ - تعالى - هذه الشُّبْهَة بأنْ قال : إنَّ عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فَرُبَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ صالح لكم ، وهو عين المضرة ، وربَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ مضرة ، ويكون عين المصلحة ، وأمَّا الإله الرَّحيم فهو يعلمُ مغيبات الأمور وعواقبها ، وكَأنَّهُ قال : اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قَدَّرَهَا اللَّهُ تعالى عليكم بقوله { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } إشارةً إلى ترك ما يميل الطبعُ إليه من قسمة المواريث .
قوله : { فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ } إشارة إلى وجوب الانقياد إلى المقادير الشَّرعيَّة .
وقال ابن عباس{[6845]} : { لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً } أي : أطوعهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - من الآباء والأبناء أرفع درجة يوم القيامة [ والله تعالى يُشَفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإذا كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة ]{[6846]} رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم .
قوله : { نَفْعاً } نُصِبَ على التَّمييز من " أقرب " ، وهو منقول من الفاعلية ، واجب النّصب ؛ لأنَّهُ متى وقع تمييزٌ بَعْدَ " أفْعَلِ " التفضيل ، فَإن صَحَّ أنْ يُصَاغَ منها فِعْلٌ مُسْندٌ إلى ذلك التَّمييز على جهةِ الفاعليَّة وجل النَّصب كهذه الآية ، إذْ يَصِحُّ أن يُقَالَ : أيُّهم أقَرُبَ لكم نَفْعُهُ ، وإن لم يَصحّ ذلك وجب جَرُّهُ نحو : " زيد أحسن فقيه " بخلاف " زيد أحسن فقهاً " ، وهذه قاعدة مفيدة و " لكم " متعلق ب " أقرب " .
قوله : { فَرِيضَةً } فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنَّها مصدرٌ مؤكد{[6847]} لمضمون الجملة السَّابقة من الوصية ؛ لأن معنى " يوصيكم " : فَرَضَ عليكم ذلك ، فصار المعنى : " يوصيكم الله وصية فرض " ، فهو مصدر على غير الصَّدْرِ .
والثاني : أنَّها مصدر [ منصوبٌ بفعل ]{[6848]} محذوف من لفظها .
قال أبو البَقَاء{[6849]} : و { فَرِيضَةً } مصدر لفعل محذوف ، أي : فرض اللَّهُ ذلك فريضة .
والثالث : قاله مَكيٌّ وغيره : أنَّهَا حال ؛ لأنَّهَا ليست مصدراً ، وكلامُ الزمخشريِّ محتمل للوجهين الأوَّلَيْن ، فإنَّهُ قال : " فريضة " نصبت نَصْبَ المصدر المؤكد ، أي : " فرض الله ذلك فرضاً " . ثم قال : { إن الله كان عليماً } أي : بأمور العباد " حكيماً " بنصب الأحكام .
فإن قيل : لِمَ قال كان عليماً حكيماً مع أنَّهُ لم يزل كذلك ؟ .
فالجوابُ قال الخليلُ : الخبرُ عن اللَّه تعالى بهذه الألفاظ ، كالخبر بالحال والاستقبال ؛ لأنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الدخول تحت الزمان .
قال سيبويه : القومُ لما شاهدوا علماً وحكمةً وفضلاً وإحساناً تعجبوا ، فقيل لهم : إنَّ اللَّهَ كذلك ، ولم يزل موصوفاً بهذه الصفات .