اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأۡكُلُونَ أَمۡوَٰلَ ٱلۡيَتَٰمَىٰ ظُلۡمًا إِنَّمَا يَأۡكُلُونَ فِي بُطُونِهِمۡ نَارٗاۖ وَسَيَصۡلَوۡنَ سَعِيرٗا} (10)

قال مقاتل بن حيّان : نزلت في رجل من غَطَفَانَ يقال له مرثدُ بْنُ زَيْدٍ وَلِي مالَ ابن أخيه وهو يتيمٌ صغيرٌ ، فَأكَلَهُ فأنزل اللَّهُ هذه الآية{[6750]} .

قوله : { ظُلْماً } فيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ مفعول من أجله ، وشروط النصب موجودة .

الثاني : أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي : يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ } هذه الجملة في محل رفع خبرا " إنَّ " ، وفي ذلك خلاف .

قال أبُو حيان : وَحَسَّنَه هنا وقوعُ [ اسم ]{[6751]} " أن " موصولاً فطال{[6752]} الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبالِ بذلك ، وهذا أحْسَنُ من قولك : " إنَّ زيداً إنَّ أبَاهُ منطلق " ، ولقائلٍ أن يقول : ليس فيها دلالة على ذلك ؛ لأنها مكفوفة ب " ما " ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك ، في المعنى : " إنَّ زيداً ما انطلق إلاَّ أبوه " وهو محل نظر .

قوله : { فِي بُطُونِهِمْ } فيه وجهان : أحدهما : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ ب { يَأْكُلُونَ } أي : بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ ، إمَّا حَقِيقَةً : بأنْ يَخلق اللَّهُ لهم ناراً يأكلونَهَا في بُطُونِهِم ، أوْ مَجَازاً بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه ، كما يطلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .

قال القاضِي{[6753]} : وهذا أوْلَى ؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ .

وَالثَّاني : أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنَّه حال{[6754]} مِنْ " ناراً " وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالاً .

وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في " تَذْكِرَتِهِ " ، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفاً ل { يَأْكُلُونَ } فَإنَّهُ قال : { فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } حال من نار ، أي : نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ ، وليس بِظَرْفٍ ل { يَأْكُلُونَ } ذكره في " التَّذْكِرَةِ " .

وفي قوله : " وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع " فيه نَظَرٌ ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ { فِي بُطُونِهِمْ } حالاً من " نَار " هنا يجوزُ أن يكون حالاً من " النَّار " في البقرة ، وفي [ إبداء ]{[6755]} الفرقِ عُسْرٌ ، ولم يظهر [ منع أبي عليٍّ كَوْنَ { فِي بُطُونِهِمْ } ظرفاًَ للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل : الأكل لا يكون إلا ]{[6756]} في البَطْنِ فما فائدةُ قوله : { إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } ؟ .

فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] والقول لا يكون إلا بالفم ، وقوله : { وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ ، وقوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ }{[6757]} [ الأنعام : 38 ] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالجَنَاحِ .

فصل في جواز الأكل من مال اليتيم

هذه الآيةُ توكيدٌ للوعيدِ المُتَقَدِّمِ لأكل مال اليتيم ، وخَصَّ الأكل بالظلم ، فأخرج الأكل بغير الظُّلْمِ مثل أكْلِ الوليّ بالمعروف من مال اليتيم ، وإلاَّ لم يكن لهذا التَّخصيص فائدة{[6758]}

فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم

ذكر تعالى الأكل إلا أنَّ المراد منه كُلّ أنواع الإتلافات فإنَّ ضرر اليتيم لا يختلفُ بأن يكون إتلاف مال بالأكْلِ ، أو بطريقٍ آخَرَ ، وإنَّمَا ذكر الأكْلَ ، وأراد به كُلَّ التَّصرفات المُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ :

أحدها : أنَّ عامَّة أموال اليَتَامَى في ذلك الوقت هو الأنعام الَّتي يؤكل لحومها وَيُشْرَبُ ألبانها فخرجَ الكَلاَمُ على عاداتهم .

وثانيها : أنَّهُ جَرَتِ العَادَةُ فيمن أنْفَقَ مَالَهُ في وجوه مراداته{[6759]} خيراً كانت أو شراً أنَّهُ يقال : إنَّهُ أكل ماله .

وثالثها : أنَّ الأكل هو المعظم فما يبتغي من التصرُّفات .

قوله : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } ، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام ، وابن عامر وأبو بكرٍ{[6760]} بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً للمفعول من الثُّلاَثِيِّ ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ ، وابن أبي عبلة{[6761]} بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي ، والأصل على هذه القراءة : سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم{[6762]} ، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت ، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضُمَّ ما قبل الواو ليصح و " أصْلَى " يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو { سَعِيراً } ، وأن تكون للتَّعدية ، فالمفعول محذوف أي : يُصْلُونَ أنفْسهم سعيراً .

وأبو حَيْوَةَ{[6763]} بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً .

قال أبُو البَقَاءِ{[6764]} : والتّضعيفُ للتكثير .

والصَّلْي{[6765]} : الإيقاد بالنَّارِ ، يقال : صَلِيَ بكذا - بكسر العين - وقوله { لاَ يَصْلاَهَا } أي : يَصْلَى بها .

وقال الخليلُ : صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي : قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ ، هكذا قال الرَّاغِبُ{[6766]} . وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِل وَأفْعَل [ بمعنى ]{[6767]} ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ ، وقد يُحْذَف .

وقال غيره : " صَلِيَ بالنَّارِ أي : تَسَخَّنَ بقربها " ف { سَعِيراً } على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض . وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ " يَصْلاها " يَصْلَى بها قول الشاعر : [ الطويل ]

إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ *** فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا{[6768]}

وقيل : صَلَيْتُه النَّارَ : أدْنَيْتُه منها ، فيجوزُ أنْ يكونَ منصوباً مِنْ غير إسقاطِ خافضٍ .

قال الفرَّاءُ{[6769]} : الصلى : اسم الوقود وهو الصِّلاء إذا كسرت مدّت ، وإذا فتحت قُصِرَتْ ، ومن ضَمَّ الياء فهو من قولهم : أصْلاَهُ اللَّه حَرَّ النَّار إصلاء ، قال : { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } [ النساء : 30 ] وقال : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [ المدثر : 26 ] .

وقال أبو زَيْدٍ : يقال : صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً ، وهُوَ صَالِي النَّارِ ، وقوم صالون وصلاء ، قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [ الصافات : 163 ] وقال : { أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً } [ مريم : 70 ] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل ، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها ، ومنه : مُسْعِرُ حَرْبٍ ، على التشبيه ، والمِسْعَرُ : الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ .

فصل

روي أنَّهُ لما أنزلت هذه الآية ثقل ذلك على النَّاسِ فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكليَّةِ ، فصعب الأمر على اليتامى ، فنزل قوله تعالى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ }

[ البقرة : 220 ] وزعم بعضهم أنَّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد ؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلْمِ وهذا لا يصير منسوخاً ، بل المقصود أنَّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظُّلم فهو إثم عظيم كما في{[6770]} هذه الآية ، وَإنْ كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [ أبواب ]{[6771]} البرّ ، لقوله : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] .


[6750]:ينظر: تفسير البغوي (1/398).
[6751]:سقط في أ.
[6752]:في أ: فقال.
[6753]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 9/163.
[6754]:في أ: قال.
[6755]:سقط في أ.
[6756]:سقط في أ.
[6757]:في أ: بجناحين.
[6758]:ينظر: الرازي 9/162.
[6759]:في ب: إرادته.
[6760]:انظر: السبعة 227، والحجة 3/136، وحجة القراءات 191، والعنوان 83، وشرح شعلة 332، 333، وإعراب القراءات 1/129، وشرح الطيبة 4/193، وإتحاف 1/504.
[6761]:انظر: المحرر الوجيز 2/14، والدر المصون 2/318.
[6762]:في أ: يكرم.
[6763]:ونسبها في البحر 3/187 إلى ابن أبي عبلة فقط. وانظر: السابق.
[6764]:ينظر: الإملاء 1/169.
[6765]:في أ: ويصلي.
[6766]:في أ: المراغني.
[6767]:سقط في ب.
[6768]:تقدم.
[6769]:ينظر: الفخر الرازي 9/164.
[6770]:في أ: كأنني.
[6771]:سقط في أ.