اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن جَآءَكُمۡ فَاسِقُۢ بِنَبَإٖ فَتَبَيَّنُوٓاْ أَن تُصِيبُواْ قَوۡمَۢا بِجَهَٰلَةٖ فَتُصۡبِحُواْ عَلَىٰ مَا فَعَلۡتُمۡ نَٰدِمِينَ} (6)

قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } قال المفسرون : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان لأمه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق بعد الموقعة والياً ومصدقاً ، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تَلقَّوْه تعظيماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحثه{[52004]} الشيطان أنهم يريدون قتله فهابهم فرجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنهم منعوا صدقاتهم وأراد قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمَّ أن يَغْزُوَهُمْ فبلغ القومَ رجوعُه فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله : سَمِعْنَا برسُولك فخرجنا نلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله تعالى فأبطأ في الرجوع فخشينا أنه إنما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله . فاتَّهمُهمْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث خالدَ بنَ الوليد خفْيةً في عسكره وقال : انظر فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم وإن لم تَرَ ذلك فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفار ، ففعل ذلك خالد ووافاهم فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء فأخذ منهم صدقاتهم ولم يَرَ منه إلا الطاعة والخَيْرَ وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره فنزل { يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } يعني الوليد بن عقبة «بِنَبأ » بخبر ، { فتبينوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } كيلا تصيبوا بالقتل والقتال قوماً بجهالة { فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ } من إصابتكم بالخَطَأ ، «نَادِمينَ »{[52005]} .

قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف ، لأن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا والنبي عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه أنه قال : وردت الآية لبيان ذلك حسب ، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت وهو مثل تاريخ نزول{[52006]} الآية ، ومما يصدِّق ذلك ويؤكده أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد ، بعيد لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطئ لا يسمَّى فاسقاً ، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن رتبة الإيمان ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ المنافقون : 6 ] وقوله تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] وقوله : { وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ السجدة : 20 ] إلى غير ذلك ؟ ! .

فصل

دلت الآية على أن خبر الواحد حجة وشهادة الفاسق لا تقبل أما في المسألة الأولى فلأنه علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقاً ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على النسق فائدة وأما في المسألة الثانية فلوجهين :

أحدهما : أنه أمر بالتبين{[52007]} وقيل قوله كان الحاكم مأموراً بالتبين ، فلم يفد قوله الفاسق شيئاً ، ثم إنَّ الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ وباب الشهادة أضيق من باب الخبر .

الثاني : أنه تعالى قال : { أَن تُصِيبُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } ، والجهل فوق الخطأ ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلاً فالذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصف جاهلاً{[52008]} فلا يجوز البناءُ على قَوْلِهِ{[52009]} .

قوله : «أَنْ تُصِيبُوا » مفعول له كقوله : «أَنْ تَحْبَطَ » . قال ابن الخطيب : معناه على مذهب الكوفيين لئَلاّ تُصِيبُوا ، وعلى مذهب البصريين كَرَاهَةَ أَنْ تُصِبُوا .

قال : ويحتمل أن يكون المراد فتبينوا واتقوا{[52010]} قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ، فقوله : «بِجَهَالةٍ » في تقدير حال أي تُصيبوهُمْ جَاهلينَ ، ثم حقق ذلك بقوله : { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } . وهذا بيان ، لأن الجاهل لا بد وأن يندم على فِعْلِهِ . وقوله : «تصبحوا » معناه تصيبوا . قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه :

أحدها : بمعنى دخول الإنسان في الصباح .

والثاني : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كما يقال : أصبحَ المريضُ اليومَ خَيْراً مما كان يريد كونه في وقت الصبح على حالةِ خير .

الثالث : بمعنى صار كقوله : «أصْبحَ زَيدٌ غَنَياً » أي صار من غير إرادة وقتٍ دونَ وقتٍ{[52011]} .

وهذا هو المراد من الآية . وكذلك «أمسى وأَضْحَى » . قال ابن الخطيب : والصيرورة قد تكون من ابتداء أمرٍ وَتدُومُ وقد تكون في آخر الأمر بمعنى آل الأمر إليه ، وقد تكون متوسطة ؛ فمثال الأول قولك : صَارَ الطِّفْل فاهِماً أي أخذ فيه وهو في الزيادة . ومثال الثالث قولك : صَار زيدٌ عالماً إذا لم ترد أخذه فيهِ ولا بلوغه ونهايته بل كونه ملتبساً به . وإذا علم هذا فنقول : أصلُ استعمال أصبح فيما يصير الشيء بالغاً في الوصف نهايته{[52012]} وأصل أضحى التوسط ، لا يقال : أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحداً ، لأنَّا نقول : إذا تقارَبتِ المعاني جاز الاستعمال ، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل ، وكثير من الألفاظ أصله معنى واستعمل استعمالاً شائعاً فيما يشاركه . وإذا علم هذا فقوله تعالى { فَتُصْبِحُوا } أي فتَصِيروا آخذين في الندم ثم تِسْتَدِيمُونَهُ ، وكذلك في قوله : { فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] أي أخذتم في الأخوَّة وأنتم فهيا زائدونَ مستمرُّون .

قوله : «نَادِمينَ » الندم هَمٌّ دائم ، والنون والدال والميم في تقلبها لا تَنْفَكُّ عن معنى الدوام كقول القائل : أدْمَنَ في الشُّرْب ومُدْمِنٌ أي أقام ومنه : المَدِينَةُ{[52013]} .

/خ9


[52004]:في ب فحدثه.
[52005]:ذكره البغوي والخازن في تفسيريهما معالم التنزيل ولباب التأويل 6/222 وانظر الرازي 28/119.
[52006]:في الرازي: وهو مثل التاريخ لنزول الآية.
[52007]:في ب التبيين.
[52008]:كذا في النسختين وفي الرازي: جاهل.
[52009]:وهذه الكلمات رأي الرازي نقلها عن الأصحاب العدول. انظر الرازي السابق 28/120.
[52010]:الرازي السابق.
[52011]:وقد ذكر كل هذا الإمام في تفسيره الكبير المرجع السابق. أقول: وقد ذكر الإمام السيوطي في الهمع 1/114 ذلك وذكر ظل وأضحى وأمسى وكان قد قال: "ترد كان وأصبح وأضحى وأمسى وظل بمعنى صار". انظر الهمع 1/114.
[52012]:في الرازي: وأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء أخذا في وصف ومبتدئا في أمر وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغا في الوصف نهايته.
[52013]:وانظر هذا كله في تفسير الإمام الفخر الرازي 28/121. وانظر دوران مادة الندم في الكشاف 3/560.