قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا . . . } الآية . لما حذر المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق أشار إلى ما يلزم استدراكاً لما يفوت فقال : فإن اتفق أنكم تبنون على قوله من يوقع بينكم من الأمر المُفْضِي إلى اقتتال طائفتين من المؤمنين { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي } أي الظالم يجب عليكم دفعه ثم إن الظالم إن كان هو الرعية فالواجب على الأمير دفعهم وإن كان هو الأمير فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها وشرطه أن لا يُثيرَ فتنة مثل التي في اقتتال الطائفتين أو أشد منهما{[52040]} .
الضمير في قوله : «اقْتَتَلُوا » عائد أفراد الطائفتين كقوله ( تعالى ){[52041]} : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } [ الحج : 19 ] والضمير في قوله : «بينهما » عائد على اللفظ .
وقرأ ابن أبي عبلة : اقْتَتَلَتَا{[52042]} مراعياً للَّفْظِ . وزيد بن علي وعُبَيْدُ بْنُ عَمْرو اقتَتَلا{[52043]} أيضاً إلا أنه ذكر الفعل باعتبار الفريقين ، أو لأنه تأنيث مجازي .
روى أنس ( رضي الله عنه ){[52044]} قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لَوْ أتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أبيّ ( ابْنِ سَلُول ) فانطلق إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وركب حماراً ( وانطلق المسلمون{[52045]} يمشون معه ) وهو بأرض سَبِخَةٍ ، فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إِلَيْكَ عَنِّي وَالله لَقَدْ نَتَنُ حِمَارِكَ فقال رجل من الأنصار منهم : واللهِ لَحِمَارُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجل من قومه فَتَشَاتَمَا فغضب لكل واحد منهم أصحابهُ ، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال فنزلت : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاصطلحوا وكف بعضهم عن بعض . وقال قتادة : نزل في رجلين من الأنصار كان بينهما مداراة{[52046]} في حق بينهما فقال أحدهما للآخر : لآخُذَنَّ حقِّي منك عَنْوةً لكثرة عشيرته وإن الآخر دعاء ليُحَاكِمَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أن يتبعه فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال و( إنْ ){[52047]} لم يكن قتال بالسيوف . وقال سفيان عن السدي : كانت امرأة من الأنصار يقال لها : أم زيد تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فرقي بها إلى عُلِّيّة وحبسها فبلغ ذلك قومها فجاءوا وجاء قومه فاقْتَتَلُوا بالأيْدي والنِّعال فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله والرِّضا بما فيه لهُمَا وَعَليهِمَا{[52048]} .
قوله : «وَإنْ طَائِفَتَانِ ( من المؤمنين ) » إشارة إلى نُدْرَةُ وقُوع الاقتتال بين طوائف المسلمين .
فإن قيل : نحن نرى أكثر الاقتتال في طوائفهم ؟
قوله تعالى : { أقْتَتَلُوا } ولم يقل يَقْتَتِلُوا ( بصيغة الاستقبال } ؛ لأن صيغة الاستقبال تنبئ عن الدوام والاستمرار عن الدوام والاستمرار فيفهم{[52049]} من أن طائفتين من المؤمنين إنْ تمادى الاقتتال بينهما فأصلحوا ، وهذا لأن صيغة المستقبل تنبئ عن ذلك ، يقال : فُلاَنٌ يَتَهَدَّدُ وَيَصُومُ .
قال : «اقْتَتَلُوا » ولم يقل : اقْتَتَلاَ وقال : «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا » ولم يقل : بَيْنَهُمْ لأن الفتنة قائمة عند الاقتتال{[52050]} ، وكل أحد{[52051]} برأسِهِ{[52052]} يكون فاعلا فعلاً فقال : اقْتَتَلُوا وعند الصلح تتفق كلمةُ كُلِّ طائفة وإلا لم يتحقق ( الصلح ){[52053]} فقال : «بَيْنَهُمَا » لكون الطائفتين حينئذ كَنَفْسَيْنِ .
قوله : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى } وأَنبت الإجابة إلى حكم كتاب الله . وقيل : إلى طاعة الرسول وأولي الأمر . وقيل : إلى الصُّلْحِ .
كقوله تعالى : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } [ الأنفال : 1 ] وقيل : إلى التقوى ، لأن من خاف الله لا يبقى له عدو إلا الشيطان ، لقوله : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] .
فإن قيل : كيف يصح في هذا الموضع كلمة «إنْ » من أنها تستعمل في الشرط الذي لا يتوقع وقوعه وبغي أحدهما عند الاقتتال متحقق الوقوع فيكون مثل قوله القائد : إنْ طَلَعْتْ الشَّمْسُ ؟
فالجواب : أن فيه معنى لطيفاً وهو أن الله تعالى يقول : الاقتتال بين طائفتين لا يكون إلا نادر الوقوع لأن كل طائفة تظن أن الأخرى فئة الكفر والفساد كما يتحقق{[52054]} في الليالي المظلمة ، أو يقع لكل طائفة أن القتال جائز باجتهاد خطأ ، فقال تعالى : الاقتتال لا يقع إلى كذا فإن بَانَ لَهُمَا أو لأحدهما الخطأ واستمرّ عليه فهو نادر وعند ذلك يكون قد بغى فقال : «فَإنْ بَغَتْ » يعني بعد انكشاف الأمْر ، وهذا يفيد النُّدْرة وقِلَّةَ الوقوع .
فإنْ قيل : لم قال : فإنْ بَغَتْ ولم يقل : فَإن تَبْغِ ؟
فالجواب : ما تقدم في قَوْلِهِ تَعَالَى : { اقْتَتَلُوا } ولم يقل : يَقْتَتلُوا{[52055]} .
قوله : «حَتَّى تَفِيء » العَامة على همزة من فَاء يَفِيءُ أي رَجَعَ كجَاء يَجِيءُ .
والزهري : بياء مفتوحة كمضارع وَفَا{[52056]} وهذا على لغة من يقصر فيقال{[52057]} : «جاَ ، يَجِي » دون همز ؛ وحينئذ فتح الياء{[52058]} لأنها صارت حرف الإعراب{[52059]} .
المعنى حتى تفيء إلى أمر الله في كتابه وهذا إشارة إلى أن القتال جزاء الباغي كحدِّ الشرب الذي يُقَامُ وإن ترك الشرب بل القتال إلى حدّ الفيئة ، فإن فاءت الفئةُ الباغيةُ حَرُم قتالهُم . وهذا يدل على جواز قتال الصَّائِل ، لأن القتال لما كان للفيئة فإذا حصلت لم يوجد المعنى{[52060]} الذي لأجله القتال . وفيه دليل أيضاً على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بفعل الكبيرة ؛ لأن الباغي من أحدى الطَّائِفَتَيْنِ وسماهما مؤمنين .
قوله : «فَإِنْ فَاءَتْ » أي رَجَعَتْ إلى الحَقِّ .
فإن قيل : قد تقدم أن «إنْ » تدل على كون الشرط غير متوقع الوقوع وقلتم بأن البغي من المؤمن نادرٌ فإذن تكون الفئةُ متوقعةً فيكف قال : «فَإنْ فَاءَتْ » ؟
فالجواب : هذا كقول القائل لعبده : ن مُتّ فَأَنْتَ حُرٌّ ، مع أن الموت لا بدّ من وقوعه لكن لما كان وقوعه بحيث لا يكون العبد مَحَلاًّ للعِتْق بأن يكون باقياً في ملكه حياً يعيش بعد وفاته غير معلوم . فكذلك ههنا لما كان المتوقَّع فيئتهم{[52061]} من تلقاء أنفسهم لما لم يقع دل على تأكيد الأمْر بينهم فقال تعالى : { فَإنْ فَاءتْ } أي بعد اشتداد الأمر والتحام القتال فَأَصْلِحُوا ، وفيه إشارة إلى أنَّ من لم يَخفِ الله وبغى يكون رجوعه بعيداً .
قوله : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } بحملهما على الإنصاف والرضا بحكم الله «وَأَقْسِطُوا » اعِدْلُوا { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
فإن قيل : لم قال ههنا : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل } ولم يذكر العدل في قوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ؟
فالجواب : أن الإصلاح هناك بإزالة الاقتتال نفسه وذلك يكون بالنصيحة وبالتهديد والزجر والتعذيب والإصلاح ههنا بإزالة آثار الاقتتال بعد ارتفاعه{[52062]} من ضمان المتلفات وهو حكم فقال : «بالْعَدْلِ » فكأنه قال : فاحكموا بينهما بعد تركهما القتال بالحق وأَصْلِحُوا بالْعَدْل فيما يكون بينهما لئلا يؤدي إلى ثَوَرَان الفتنة بينهما مرة أخرى .
فإن قيل : لما قال : فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعدل فأيةُ فائدة في قوله : وَأَقْسِطُوا ؟
فالجواب : أنّ قوله : «فَأَصْلحُوا بَيْنَهُمَا » كأن فيه تخصيصاً بحال{[52063]} الاقتتال فعمَّ الأمر بالعدل وقال : وأقسطوا أي في ( كل ){[52064]} أمر فإنه مفض إلى أشرف درجة وأرفع منزلة وهي محبة الله والإقساط إزالة وهو الجَوْر والقَاسِطِّ هو الجَائِرُ{[52065]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.