اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ فِيكُمۡ رَسُولَ ٱللَّهِۚ لَوۡ يُطِيعُكُمۡ فِي كَثِيرٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ لَعَنِتُّمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّـٰشِدُونَ} (7)

قوله : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فاتقوا الله أن تقولوا باطلاً أو تكذِّبوه فإن الله يخبرُه ويعرفُه أحوالكم فتفْتَضِحُوا .

قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر } يجوز أن يكون حالاً إما من الضمير المجرور في قوله : «فِيكُمْ » وإمَّا من المرفوع المستتر في «فِيكُمْ » لوقوعه خبراً .

ويجوز أن يكون مستأنفاً{[52014]} ، إلا أنّ الزمخشري منع هذا ، لأدائه إلى تنافر النظم{[52015]} . ولا يظهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً{[52016]} . وأتى بالمضارع بعد «لو » دلالة على أنه كان في إرادتهم استمرارُ عمله على ما يَسْتَصوبُونَ .

فصل

نقل ابن الخطيب أن الزمخشريَّ قال : وجه التعليق هو أن قوله : «لو يطيعكم » في تقدير حال الضمير المرفوعه في قوله : فيكم ، والتقدير : كائن فيكم أو موجود فيكم على حالٍ تريدون أن يُطِيعَكُمْ أو يفعل باستصوابكم فلا ينبغي أن يكون على تلك الحال لو فعل ذلك لَعِنتُّمْ أي{[52017]} وقعتم في شدة أو أَثِمْتُمْ وهَلَكْتُمْ والعَنَتُ الإثْمُ والهَلاَكُ .

ثم قال : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان } . وهذا خطاب مع بعض المؤمنين غير المخاطبين بقوله : «لَوْ يُطِيعُكُمْ » . قال الزمخشري : اكتفى بالتغاير في الصفة واختصر ، ولم يقل : حبَّب إلى بعضكم الإيمان وقال أيضاً بأن قوله تعالى : «لَوْ يطيعكم » بدل «أطاعكم » إشارة إلى أنهم كانوا يريدون استمرار تلك الحالة ودوام النبي صلى الله عليه وسلم على العمل باستصوابهم لكن يكون ما بعدها على خلاف ما قبلها . وههنا كذلك وإن لم يحصل المخالفة بصريح اللفظ ؛ لأن اختلاف المخاطبين في الوصف يدلنا على ذلك ، لأن المخاطبين أولاً بقوله : «لَوْ يُطِيعُكُمْ » هم الذين أرادوا أن يكون عملهم لمراد النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما قاله الزمخشري{[52018]} ، واختاره وهو حسن قال : والذي يَجُوز أنْ يقال وكأنه هو الأقوى أن الله تعالى قال : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا } واكشفوا . ( ثم{[52019]} ) قال بعده : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } أي الكشف سهل عليكم بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه فيكم مبيِّن مُرْشد ، وهذا كما يقول القائل عند اختلاف تلاميذ الشيخ في مسألة : هذا الشَّيْخُ قاَعدُ ، لا يريد به بيان قعوده وإنما يريد أمرهم بمراجعته ؛ لأن المراد لا يطيعكم في كثير من الأمر ، وذلك لأن الشيخ إذا كان يعتمد على قول التلاميذ لا يطمئن قلوبهم بالرجوع إليه وإن{[52020]} كان لا يذكر إلا النقل الصحيح وتقريره بالدليل القوى يراجعه كل أحد فكذلك ههنا فاسترشدوه فإنه يعلم ولا يطيع أحداً فلا يوجد فيه حيف ولا يروج عليه زيف . والذي يدل عليه أن المراد من قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } لبيان امتناع الشرط لامتناع الجزاء ، كما في قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقوله : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] وذلك يدل على أنه ليس فيهما آلهة وأنه ليس من عند غير الله{[52021]} .

قوله : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان } ها استدراك من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من حبب إليه الإيمان غايرت صفتُهُ صفة من تقدَّم ذِكْرُهُ .

فصل

{ حبب إليكم الإيمان } فجعله أحبّ الأديان إليكم «وزَّيَّنَهُ » حسنه «فِي قُلُوبِكُمْ » حتى اخترتموه { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق } قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) يريد الكذب «والعِصْيَانَ » جميع مَعَاصِي الله . ثم عاد من الخطاب إلى الخبر فقال : { أولئك هُمُ الراشدون }{[52022]} .

فصل

قال ابن الخطيب : بعد ذكره الكلام المتقدم : وهذا معنى الآية جملةً فلنذكْره تفصيلاً في مسائل :

المسألة الأولى : لو قال قائل : إذا كان المراد بقوله : { واعلموا أن فيكم رسول الله } الرجوع إليه فلم يصرح بقوله : «فَتَبَيَّنُوا » وراجعوا النبِيَّ عليه الصلاة والسلام ؟ وما الفائِدة في العدول إلى هذا المجاز ؟ نقول : فائدته زيادته التأكيد لأنَّ قول القائل في المثال المقتدم : هذا الشيخ قائد آكد في وجوب المراجعة من قوله : رَاجعُوا شَيْخَكُم ؛ لأن القائل يجعل{[52023]} وجوب مراجعته متفقاً عليه ويجعل{[52024]} سبب عدم الرجوع عدم علمهم بقعوده فكأنه يقول : إنكم لا تشكون في أن الكاشف هو الشيخ وأن الواجب مراجعته ، لكنكم لا تعلمون قعوده ، فهو قاعد فيجعل{[52025]} المراجعة أظهر من القعود ، لأنه يقول خفي عنكم قعوده فتركتم مراجعته ولا يخفى عليكم حسنُ مراجعته فيجعل حسن المراجعة أظهر من الأمر الخفي بخلاف ما لو قال : راجعوه ، لأنه حينئذ يكون قائلاً بأنكم ما علمتم أن مراجعته هو الطريق . وبين الكلامين يَوْنٌ بعنيد فكذلك قوله تعالى : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فجعل حُسْنَ مراجعته أظهر من كونه فيهم حيث ترك بيانه وأخذ في بيان كونه فيهم . وهذا من المعاني العزيزة التي توجد في المجازات ولا توجد في الصَّرَائِحِ .

فإن قيل : إذا كان المراد من قوله : «لَوْ يُطِيعُكُمْ » بيان كونه غير مطيع لأحد بل هو ممتنع{[52026]} للوحي فلِمَ لَمْ يصرِّحْ به ؟ .

نقول : بيان نفي الشيء مع بيان ذلك النفي أتمُّ من بيانه من غير دلِيل ، والجملة الشرطية بيان للنفي مع بيان دليله وأن قوله : «ليس فيهما آلهة » لو قال قائل : لم قلت إنه ليس فيهما آلهة بحيث أن يذكر الدليل فيقال : لو كان فيهما آلهة إلا الله لَفَسَدَتَا فكذلك ههنا لو قال : لا يطيعكم لقائل قائل : لِمَا لاَ يُطِيعُ ؟ فوجب أن يقال : لو أطاعكم لأطاعكم لأجل قلتكم ومصلحة أبصاركم لكن لا مصلحة لكم فيه لأنكم تَعْنَتُون وتَأْثَمُونَ وهو يشقُّ عليه عَنَتُكم كما قال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] فإذا أطاعكم لا يفيده{[52027]} شيئاً فلا يطيعكم فهذا نفي الطاعة بالدليل . وبين نفي الشيء بدليل ونفيه من غير دليل فَرقٌ عظيم .

واعلم أن في قوله : { فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر } ليعلم أنه قد يوافقهم ويفعل بمقتضى مصلحتهم تحقيقاً لقوله : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } [ آل عمران : 159 ] .

فإن قيل : إذا كان المراد بقوله تعالى : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان } فلا تتوقفوا فلمَ لم يصرح به ؟ .

قلنا : لما بيناه من الإشارة إلى ظهور الأمر يعني أنتم تعلمون أن اليقين لا يتوقف فيه ، إذ ليس بعده مرتبة حتى يتوقف إلى بلوغ الأَمْر إلى تلك المرتبة ، بخلاف الشك ، فإنه يتوقف إلى بلوغ الأمر إلى درجة الظنّ ، ثم الظن يتوقف إلى اليقين فلما كان عدم التوقف في النفس معلوماً متفقاً عليه لم يقل : فلا تتوقفوا بل قال : حَبَّب إليكم الإيمان أَي بَيَّنَهُ وزَيَّنهُ بالبُرْهَانِ النَّقيّ{[52028]} .

فصل

قال ابن الخطيب : معنى حبب إليكم أن قرَّبَهُ إليكم وأدخله في قلوبكم ، ثم زينه فِيهَا بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن من يُحِبّ شيئاً فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حُسْناً لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولاً : حبب إليكم الإيمان ، وقال ثانياً : وزينه في قلوبكم كأنه قرب إليهم ثم أقامه في قلوبهم .

قوله{[52029]} : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } قال ابن الخطيب : هذه الأمُور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل ؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجِنَان . وأما الفسوق فيل : هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } فسمى الكاذب فاسقاً وقال تعالى : { بِئْسَ الاسم الفسوق } [ الحجرات : 11 ] وقيل الفسوق الخروج عن الطاعة لقولهم : فسقت الرُّطَبَةُ{[52030]} إِذَا خَرَجَتْ . وأما العصيان فهو ترك المأمور به . وقال بعضهم{[52031]} : الكفر ظاهر ، والفسوق هو الكبيرة والعِصْيَانُ هو الصغيرة{[52032]} .


[52014]:قال بهذه الإعرابات العكبري في التبيان 1171 والزمخشري في الكشاف 3/560.
[52015]:قال: الجملة المصدرة بلو لا تكون كلاما مستأنفا لأدائه إلى تنافر النظم ولكن متصلا بما قبله حالا من أحد الضميرين في "فيكم" المستتر، المرفوع أو البارز المجرور وكلاهما مذهب سديد. والمعنى: أن فيكم رسول الله على حالة يجب عليكم تغييرها أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها. انظر الكشاف 3/560.
[52016]:فقد قال أبو حيان 8/110: والظاهر أن قوله: "واعلموا أن فيكم رسول الله" كلام تام أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا تخبروه بما لا يصح فإنه رسول الله يطلعه على ذلك ثم أخبر أن رسوله لو أطاعكم في كثير لعنتم.
[52017]:الرازي 28/122.
[52018]:بالمعنى من الكشاف 3/560 و561 وباللفظ من الرازي السابق.
[52019]:زيادة من ب.
[52020]:في ب: وإذا.
[52021]:قاله الحبر الفهامة الإمام الفخر في تفسيره الكبير 28/122.
[52022]:القرطبي 16/314 والبغوي والخازن 6/223.
[52023]:كذا في أ والرازي وفي ب فعل.
[52024]:اتفاق من ب وأ وكلاهما اتفاق للرازي.
[52025]:كذا في أ والرازي وفي ب فجعل ماضيا.
[52026]:كذا في النسختين وفي الرازي: متبع.
[52027]:في النسختين: يفده.
[52028]:وانظر في هذا تفسير الإمام الفخر 28/124، 124.
[52029]:في ب "فصل" بدل "قوله".
[52030]:خرجت من قشرها والفأرة من جحرها. وانظر تفسير العلامة القرطبي الجامع الكبير 16/314.
[52031]:عبر عنهم الإمام الرازي بقوله: وقال بعض الناس.
[52032]:المرجع السابق للرازي 28/125.