لَمَّا أمَر اللَّه تعالى بِحِفْظِ النَّفْسِ في قوله " عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ " ، أمر بِحفْظِ المالِ في هذه الآية .
قال القُرْطُبِي{[12761]} : وردَ لَفْظُ الشَّهَادة في القُرآنَ على أنْوَاع مُخْتَلِفَةٍ :
الأول : بِمَعْنَى الحُضُور ، قال تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] .
الثاني : بمعنى قَضَى ، أي : أعلم قال تعالى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] .
قال أبو عُبَيْدَة : الثالث : بمعنى أقرَّ ، قال تعالى : { وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } [ النساء : 166 ] .
الرابع : شَهِدَ بمعنى حَكَم ، قال تعالى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ } [ يوسف : 26 ] .
الخامس : شَهِدَ بمعنى حَلَف{[12762]} ، قال تعالى { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } [ النور : 6 ] أي : أنْ يَشْهَدَ أرْبَع شَهَادَاتٍ باللَّهِ .
السادس : شَهِدَ بمعنى وصَّى ، قال تعالى : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } ، وقيل مَعْنَاهَا هنا{[12763]} الحُضُور للوصيَّة ، يقال : " شَهِدْتُ وصيَّةَ فلانٍ " أي : حَضَرْتُ ، وذهَب الطَّبَري إلى أنَّ الشَّهَادةَ بِمَعْنَى اليمين ، فيكُونُ المَعْنَى : يَمِينُ مَا بَيْنَكُم أنْ يَحْلِفَ اثْنَان ، ويَدُلُّ على ذَلِك ، أنَّهُ يُعْلَمُ للَّه حُكْم يَجِبُ فيه على الشَّاهِدِ يَمِينٌ ، وهذا القَوْلُ اخْتَارَهُ القَفَّال{[12764]} ، وسُمِّيتِ اليَمِينُ شَهَادَة ؛ لأنَّها يثبت بِهَا الحُكْمُ بِمَا يَثْبُتُ بالشَّهَادَةِ ، واخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّة{[12765]} هُنَا أنَّهَا الشَّهَادة التي تُحْفَظُ فَتُؤدَّى .
وسبَبُ نُزُولِها مَا رُوِي : أنَّ تَمِيمَ بن أوْسٍ الدَّارِيِّ وعَدِيّ بن زَيْدٍ كَانَا نَصْرانيينِ ، خرجا من المدينةِ إلى الشَّامِ للتِّجَارَة ، ومَعهُمَا بديل مَوْلَى عَمْرو بن العَاص ، وكان مُسْلِماً مُهَاجراً ، فلمَّا قَدِمُوا إلى الشَّام مَرِضَ بَدِيل ، فكَتَبَ كِتَاباً فيه جَمِيعُ ما مَعَهُ من المَتَاعِ ، وألْقَاهُ في جَوَالِق ، ولم يُخبِر صَاحِبَيْه بِذلِك ، فلمَّا اشْتَدّ مَرَضُهُ ، أوْصَى إلى تَميم وعَدِيّ ، وأَمَرَهُمَا أن يَدْفَعَا مَتَاعهُ إذا رجعا إلى أهْلِهِ ، ومات " بَدِيل " فَفَتَّشَا متَاعَهُ ، وأخَذَا مِنْهُ إناء فضَّةٍ مَنْقُوشاً بالذَّهَبِ ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ من فِضَّةٍ فغيَّبَاه ، ثم قَضَيَا حَاجَتَهُمَا وانْصَرَفا إلى المدينةِ ، فَدَفَعا المتاع إلى أهْلِ البَيْتِ ، فَفَتَّشُوا وأصَابُوا الصَّحِيفَة ، فيها تَسْمِيَةُ ما كان مَعَهُ ، فَجَاءوا تَمِيماً وعَدِيًّا ، فقالُوا : هل باع صَاحِبُنَا شَيْئاً من مَتَاعِهِ ؟ قالاَ : لاَ ، قالوا : فهل اتَّجَرَ تِجَارَةً ؟ قَالاَ : لاَ ، قالُوا : فَهَلْ طَالَ مَرَضُهُ فأنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ ؟ قالاَ : لاَ ، فقالُوا : إنَّا وَجَدْنَا في متاعِهِ صَحِيفَةً فيها تَسْمِيَةُ ما مَعَهُ ، وإنَّا قَدْ فَقَدْنَا منها إنَاءً من فِضَّةٍ مُمَوَّهاً بالذَّهِبِ ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ فِضَّة فقالا : ما نَدْري ، إنَّما أوْصَى لنا بِشَيْء ، وأمَرَنَا أن نَدْفعه إلَيْكم فَدَفَعْنَاه ، وما لنا عِلْمٌ بالإنَاء ، فاخْتَصَمُوا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فأصَرَّا على الإنْكَار ، وحَلَفَا فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية{[12766]} .
قوله تعالى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } : هذه الآية وما بعدها من أشْكَلِ القُرآنِ حُكْماً وإعْراباً وتَفْسيراً ، ولم يَزَلِ العلماءُ يستشكلُونَها حتى قال مكيُّ بنُ أبي طالبٍ{[12767]} في كتابه المسمَّى ب " الكشف " : " هذه الآيةُ في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصْعَب آي في القُرْآن وأشْكلِها ، قال : ويحتملُ أن يُبْسَطَ ما فيها من العلوم في ثلاثينَ ورقةً أو أكثر " ؛ قال : " وقد ذكرنَاهَا مشروحةً في كتاب مفردٍ " ، وقال ابن عطية{[12768]} : " وهذا كلامُ من لم يَقَعْ له الثَّلَجُ في تَفْسيرها ، وذلك بَيِّنٌ من كتابه " ، وقال السَّخَاوِيُّ : " لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّصَ كلامُه فيها من أولها إلى آخرها " ، وقال الواحديُّ : " وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن معنًى وإعراباً وتفسيراً " قال شهاب الدين{[12769]} : وأنا أستعينُ الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفةِ تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع ، وبالله الحول والقوة .
قرأ الجمهورُ " شَهَادَة بَيْنِكُمْ " برفع " شَهَادةُ " مضافةً ل " بَيْنِكُمْ " ، وقرأ{[12770]} الحسنُ والأعرجُ والشَّعْبِيُّ برفعها منوَّنةً " بَيْنَكُمْ " نصباً ، والسُّلَميُّ والحسنُ والأعرجُ{[12771]} - في رواية عنهما - : " شَهَادَةً " منونَّةً منصوبة ، " بَيْنَكُمْ " نصباً ، فأمَّا قراءة الجمهور ، ففي تخريجها خمسةُ أوجه :
أحدها : أنها مرفوعةٌ بالابتداءِ ، وخبرُها " اثْنَانِ " ، ولا بدَّ على هذا الوجه من حذفِ مضافٍ : إمَّا من الأوَّل ، وإمَّا من الثاني ، فتقديرُه من الأول : ذَوَا شَهَادَةِ بَيْنكُمُ اثنانِ ، أي صَاحِبَا شهادةِ بينكم اثنانِ ، وتقديرُه من الثاني : شهادةُ بينكم شهادةُ اثنين ، وإنما اضطررْنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبرُ على شيءٍ واحدٍ ؛ لأنَّ الشهادة معنًى ، والاثنان جُثَّتَانِ ، ولا يجيء التقديران المذكورانِ في نحو : " زَيْدٌ عَدْلٌ " وهما جعله نفس المصدرِ مبالغةً أو وقوعُه موقع اسم الفاعل ؛ لأنَّ المعنى يَأبَاهُمَا هنا ، إلا أنَّ الواحديَّ نقل عن صاحب " النَّظْم " ؛ أنه قال : " شَهَادَة " مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الأسْمَاء . يريدُ بالشهادة الشهود ؛ كما يقال : رَجُلٌ عَدْلٌ ورِضاً ، ورجالٌ عَدْلٌ ورِضاً وزَوْر ، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشُّهُود ، كان على حذف المضاف ، ويكون المعنى : عدَّة شهودٍ بينكم اثنانِ ، واستشهد بقوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ } [ البقرة : 197 ] ، أي : وقتَ الحجِّ ، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل : " الحَجُّ في أشْهُرٍ " ، فعلى ظاهر هذا أنه جعل المصدر نفس الشهود مبالغةً ، ولذلك مثله ب " رِجَال عَدْل " ، وفيه نظر .
الثاني : أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً ، وخبرها محذوفٌ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام ، و " اثْنَان " على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو " شهادة " ، والتقدير : فيما فَرَضَ عليْكُمْ أن يشهد اثْنَانِ ، كذا قدَّره الزمخشريُّ وهو أحد قولي الزَّجَّاج{[12772]} ، وهو ظاهرٌ جدًّا ، و " إذَا " على هذين الوجهين ظرف ل " شَهَادَةُ " ، أي ليُشْهَد وقتُ حضورِ الموت - أي أسبابه - و " حِينَ الوصيَّةِ " على هذه الأوجه ؛ فيه ثلاثة أوجه :
أوجهها : أنه بدلٌ من " إذَا " ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره ، قال : " وفي إبداله منه دليلٌ على وجوب الوصية " .
الثاني : أنه منصوبٌ بنَفْسِ الموت ، أي : يقع المَوْتُ وقْتَ الوصية ، ولا بُدَّ من تأويله بأسباب الموت ؛ لأنَّ وقتَ الموتِ الحقيقيِّ لا وصيةَ فيه .
الثالث : أنه منصوبٌ ب " حَضَرَ " ، أي : حَضَر أسباب الموتِ حين الوصيَّة .
الثالث : أنَّ " شَهَادَةُ " مبتدأ ، وخبره : " إذَا حضَرَ " ، أي : وقوعُ الشهادة في وقتِ حضُورِ الموتِ ، و " حِينَ " على ما تقدَّم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً ، ولا يجوزُ فيه ، والحالةُ هذه : أن يكون ظرفاً للشهادة ؛ لئلا يلزمَ الإخبارُ عن الموصول قبل تمامِ صلته ، وهو لا يجوزُ ؛ لما مرَّ ، ولمَّا ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ، لم يستدركْ هذا ، وهو عجيبٌ منه .
الرابع : أنَّ " شَهَادَةُ " مبتدأ ، وخبرُها " حِين الوصيَّةِ " ، و " إذَا " على هذا منصوبٌ بالشَّهَادَةِ ، ولا يجوز أن ينتصب ب " الوصيَّة " ، وإن كان المعنى عليه ؛ لأنَّ المصدر المؤوَّلَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريِّين ، ولو كان ظرفاً ، وأيضاً : فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ ؛ لأن تقديم المعمول يُؤذِنُ بتقديمِ العامل ، والعاملُ لا يتقدَّم ، فكذا معمولُه ، ولم يجوِّزوا تقديم معمُولِ المضافِ إلَيْه على المضاف إلا في مسألة واحدة ، وهي : إذا كان المضافُ لفظةَ " غَيْر " ؛ وأنشدوا : [ البسيط ]
إنَّ امْرَأ خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ *** عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ{[12773]}
ف " عِنْدِي " منصوبٌ ب " مَكفُور " ؛ قالوا : لأنَّ " غَيْر " بمنزلة " لاَ " ، و " لاَ " يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها ، وقد ذكر الزمخشريُّ ذلك آخرَ الفاتحةِ ، وذكر أنه يجوزُ " أنَا زَيْداً غَيْرُ ضَارِبٍ " دون " أنَا زَيْداً مِثْلُ ضَارِبٍ " ، و " اثنان " على هذين الوجهين الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين : إمَّا الفاعلية أي : " يَشْهَدُ اثْنَانِ " يدل عليه لفظ " شَهَادة " ، وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب " شهادة " أيضاً أي : الشاهدان اثنان .
الخامس : أنَّ " شهَادَةُ " مُبْتدأ ، و " اثْنَانِ " فاعلٌ سدَّ مَسدَّ الخبَر ، ذكره أبُو البقاء{[12774]} وغيره ، وهو مذهبُ الفرَّاء{[12775]} ، إلا أنَّ الفرَّاء قدَّر الشَّهادةَ واقِعةً موقعَ فِعْلِ الأمْر ؛ كأنه قال : " لِيَشْهَدِ اثْنَانِ " ، فجعلُه من باب نِيَابةِ المصْدَرِ عن فِعْل الطَّلَبِ ، وهو مثل " الحَمْدُ لله " و{ قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] ؛ من حيث المعنى ، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو : " ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً " يدَّعِي أن الياء فاعلٌ سدَّتْ مسدَّ الخبرِ ، وهذا مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النَّحْوِيُّون ، ويخصُّون ذلك بالوصْفِ المعتمد على نَفْيٍ أو استفهامٍ ؛ نحو : " أقَائِمٌ أبَواكَ " وعلى هذا المذهب ف " إذَا " و " حِينَ " ظرفان مَنْصُوبان على ما تقرَّر فيهمَا في غير هذا الوجه ؛ وقد تَحَصَّلْنا فيما تقدَّم أنَّ رفع " شَهَادَةُ " من وجْهِ واحدٍ ؛ وهو الابتداءُ ، وفي خبرها خَمْسَة أوجه تقدَّم ذكرُها مُفَصَّلَةً ، وأنَّ رفع " اثْنَان " من خَمْسة أوْجُه :
الأول : كونه خَبَراً ل " شَهَادَةُ " بالتَّأويل المذكُور .
الثاني : أنه فاعلٌ ب " شَهَادَةُ " .
الثالث : أنه فاعلٌ ب " يَشْهَدُ " مقدَّراً .
الرابع : أنه خبر مُبْتدأ ، أي : الشَّاهدان اثْنَانِ .
الخامس : أنه فاعلٌ سَدَّ مسدَّ الخبر ، وأنَّ في " إذَا " وجهين : إمَّا النَّصْبَ على الظرفيَّة ، وإمَّا الرفع على الخَبَرِيَّة ل " شَهَادَةُ " ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبلُ ، وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدَّم في قراءة الجُمْهور من غير فَرْقٍ .
وأمَّا قراءةُ النصبِ ، ففيها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها - وإليه ذهب ابن جنِّي{[12776]} - : أنها منصوبةٌ بفعل مضمرٍ ، و " اثْنَان " مرفوعٌ بذلك الفعل ، والتقدير : ليُقِمْ شهادةَ بَيْنكُمُ اثْنَانِ ، وتبعه الزمخشريُّ{[12777]} . وقد ردَّ أبو حيان{[12778]} هذا ؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله ، لم يُجِزْهُ النحويون ، إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله ؛ كقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 36 - 37 ] في قراءة ابن عامر وأبي بَكْرٍ ، أي : يُسَبِّحُهُ رجال ؛ ومثله : [ الطويل ]
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ *** ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ{[12779]}
وفيه خلافٌ : هل يَنْقاسَ أو لا ؟ أو يُجَابَ به نَفْيٌ ؛ كقوله : [ الطويل ]
تَجَلَّدْتَ حَتَّى قِيلَ : لَمْ يَعْرُ قَلْبَهُ *** مِنَ الوَجْدِ شَيْءٌ قُلْتُ : بَلْ أعْظَمُ الوَجْدِ{[12780]}
أي : بَلْ عراه أعظمُ الوجْدِ ، أو يُجاب به استفهامٌ ؛ كقوله : [ الطويل ]
ألاَ هَلْ أتَى أمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسِلِي *** نَعَمْ خَالِدٌ إنْ لَمْ تُعِقْهُ العَوَائِقُ{[12781]}
أي : بل أتَاهَا أو يَأتِيهَا ، وما نحْنُ فيه ليس من الأشياء الثلاثة .
الثاني : أن " شَهَادَةً " بدل من اللفظ بفعل ، أي : إنها مصدر ناب مناب الفعلِ ، فيعملُ عملَه ، والتقدير : لِيَشْهد اثْنَانِ ، ف " اثْنَانِ " فاعل بالمصدر ، لنيابته منابَ الفعلِ ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ ، على حسبِ الخلاف في أصل المسألة ، وإنما قدَّرْتُه " لِيَشْهَدِ اثْنَانِ " ، فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر ، ولم أقدِّرْهُ فِعْلَ أمر بصيغة " افْعَلْ " ؛ كما يُقَدِّرُه النحويُّون في نحو : " ضَرْباً زَيْداً " ، أي : " اضْرِبْ " لأنَّ هذا قد رفع ظاهراً وهو " اثنانِ " ، وصيغةُ " افْعَلْ " لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً ؛ ومثلُه قوله : [ الطويل ]
. . . *** فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ{[12782]}
ف " زُرَيْقُ " يجوز أن يكون منادًى ، أي : يا زُرَيْقُ ، والثاني : أنه مرفوع ب " نَدْلاً " على أنه واقعٌ " لِيَنْدَلْ " ، وإنما حُذِف تنوينه ؛ لالتقاء الساكنين ؛ على حَدِّ قوله : [ الطويل ]
. . . *** وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا{[12783]}
الثالث : أنَّ " شَهَادَةً " بدل من اللفظ بفعلٍ أيضاً ، إلا أنَّ هذا الفعل خبريٌّ ، وإن كان أقلَّ من الطلبيِّ ، نحو : " حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً " ، و " اثْنَانِ " أيضاً فاعلٌ به ، تقديرُه : يَشْهَدُ شَهَادَةً اثنانِ ، وهذا أحسنُ التخاريجِ المذكُورة في قولِ امرئ القيس : [ الطويل ]
وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ *** . . . {[12784]}
" وُقُوفاً " مصدرٌ بدلٌ من فعلٍ خبريٍّ رفع " صَحْبِي " ونصب " مَطِيَّهُمْ " تقديره : وقف صَحْبِي ، وقد تقدَّم أنَّ الفرَّاء في قراءة الرفع قدَّرَ أن " شَهَادَة " واقعةٌ موقع فعلٍ ، وارتفع " اثْنَان " بها ، وقد تقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكون مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر ، و " بَيْنَكُمْ " في قراءةِ مَنْ نوَّن " شَهَادَة " نصبٌ على الظرف ، وهي واضحةٌ .
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فيها ، فَمِنْ باب الاتِّساعِ في الظُّروفِ ، أي : بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ ، ومثله : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] وكقوله تعالى : { لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمن رفع ، قال أبو حيان{[12785]} : " وقال الماتُرِيديُّ - وتبعه الرازيُّ - : إنَّ الأصلَ " مَا بَيْنكُمْ " فحذف " مَا " ، قال الرازيُّ : و " بَيْنَكُمْ " كنايةٌ عن التنازُعِ ؛ لأنه إنما يُحْتَاجُ إلى الشهود عند التنازع ، وحَذْفُ " مَا " جائزٌ عند ظهوره ؛ ونظيرُه كقوله تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } في قراءة مَنْ نصب " قال أبو حيان{[12786]} : " وحَذفُ " مَا " الموصولةِ غيرُ جائز عند البصريِّين ، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقديرُ " مَا " ألبتة ، وليس قوله { هذا فِرَاقُ بَيْنِي } نظيرَ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } لأن هذا مضافٌ ، وذلك باقٍ على ظرفيته فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ " مَا " ؛ بخلاف { هذا فِرَاقُ بَيْنِي } و { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } ؛ فإنه لا يُتَخَيَّلُ فيه تقديرُ " مَا " ؛ لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْهُ عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْهُ مفعولاً به على السَّعَة " ، قال شهاب الدين{[12787]} : هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليٍّ الجُرْجَانِيُّ بعينه ، قال - رحمه الله تعالى - : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } ، أي : ما بَيْنكُمْ ، و " مَا بَيْنَكُمْ " كنايةٌ عن التنازُع والتشاجر ، ثم أضافَ الشهادة إلى التنازعِ ؛ لأن الشهودَ إنَّما يُحْتَاجُ إليهم في التنازُعِ الواقعِ فيما بين القوم ، والعربُ تُضيفُ الشيْءَ إلى الشيءِ ، إذا كان منه بسبب ؛ كقوله تعالى :
{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ الرحمان : 46 ] ، أي : مقامه بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذكر " مَا " و " مَنْ " في الموضِعِ الذي يُحْتَاجُ إليهما فيه ؛ كقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } [ الإنسان : 20 ] أي : ما ثَمَّ ، وكقوله : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [ الكهف : 78 ] و{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] أي ما بَيْنِي ، ومَا بَيْنَكُمْ ، وقول أبي حَيَّان{[12788]} " لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ " مَا " إلى آخره " ممنوعٌ ؛ لانَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف ، ولا يَلْزمُ من ذلك : أنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى ، لا من حيث الإعرابُ ؛ نظراً إلى الأصْلِ ، وأمَّا حَذْفُ الموصُولِ ، فقد تقدَّم تحقيقُه .
واخْتَلَفُوا في هَاتَيْن الآيتين ، فقالَ قَوْمٌ : هما الشَّاهِدِانِ يَشْهَدَان على وِصيَّةٍ .
وقال غَيْرُهُم : هُمَا الوصيَّان ؛ لأنَّ الآيَة نَزَلَتْ فيهما ؛ ولأنَّه قال : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ } ، ولا يَلْزَمُ الشَّاهِدُ يَمِين ، وجَعَلَ الوَصِيَّ اثْنَيْن تَأكيداً ، فعلى هذا تكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى : الحُضُور ، كقولك : " شَهِدْتُ وصيَّة فُلانٍ " ، بِمَعْنَى : حَضَرتُ وشَهِدْتُ العَيْن ، وقوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] يُريدُ الحُضُور .
وقوله : " ذَوا " صفةٌ لاثنين ، أي : صاحِبَا عدْلٍ ، وكذلك قوله " مِنْكُمْ " صفة أيضاً لاثنين ، وقوله : " أوْ آخَرَانِ " نسقٌ على اثنين ، و " مِنْ غَيْرِكُمْ " صفةٌ لآخَرَيْنِ ، والمراد ب " مِنْكُمْ " من قرابتكم وعترَتِكُم ، ومن غيركم من المسلمين الأجانب ، وقيل : " مِنْكُمْ " من أهل دينكم ، و " مِنْ غَيْرِكُمْ " من أهل الذمة ، ورجَّح النحَّاسُ{[12789]} الأولَ ، فقال : " هذا يَنْبَنِي على معنًى غامضٍ في العربية ، وذلك أنَّ معنى " آخَرَ " في العربية من جنْسِ الأوَّلِ تقولُ : " مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وكَرِيمٍ آخَرَ " ولا يجوز " وخَسِيسٍ آخَرَ " ولا : " مَرَرْتُ بِحِمَارٍ ورَجُلٍ آخَرَ " ، فكذا هاهنا يجب أن يكون " أو آخَرَانِ " : أو عَدْلاَن آخَرَان ، والكفارُ لا يكونونَ عُدُولاً " وردَّ أبو حيان ذلك ؛ فقال : أمَّا ما ذكرَهُ من المُثُلِ ، فصحيحٌ ؛ لأنه مثَّل بتأخير " آخَرَ " ، وجعله صفةً لغير جنسِ الأوَّل ، وأمَّا الآيةُ ، فمن قبيل ما يُقدَّم فيه " آخَر " على الوصف ، واندرج " آخَر " في الجنْس الذي قبله ، ولا يُعْتَبَرُ وصْفُ جنس الأول ، تقول : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ وآخَرَ كَافِرٍ ، واشْتَرَيْتُ فَرَساً سَابِقاً ، وآخَرَ بَطِيئاً " ، ولو أخَّرْتَ " آخَرَ " في هذين المثالين ، فقلت : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَافِرٍ آخَرَ " ، لم يَجُزْ ، وليس الآيةُ من هذا ؛ لأن تركيبها { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ف " آخَرَانِ " من جنسِ قوله " اثْنَانِ " ، ولاسيما إذا قَدَّرْته : " رَجُلانِ اثْنَانِ " ف " آخَرَانِ " هما من جنْس قوله " رَجُلانِ اثْنَانِ " ، ولا يُعْتَبَرُ وصف قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } ، وإن كان مغايراً لقوله " مِنْ غَيْركُمْ " ، كما لا يُعتبر وصفُ الجنْسِ في قولك : " عِنْدِي رَجُلانِ اثْنَانِ مُسْلِمَانِ وآخَرَانِ كَافِرَانِ " ؛ إذ ليس من شرطِ " آخَرَ " إذا تقدَّم أن يكون من جنْس الأول بقيدِ وصفه ، وعلى ما ذكرته جاء لسانُ العربِ ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْفُونَ الزِّجَاجَ عَلَى *** قُعْسِ الكَوَاهِلِ في أشْدَاقِهَا ضَخَمُ
وآخرِينَ تَرَى المَاذِيَّ فَوْقَهُمُ *** مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أوْ مَا أوْرَثَتْ إرَمُ{[12790]}
التقديرُ : كانوا فريقين : فريقاً - أو ناساً - يُصْفُونَ الزجاج ، ثم قال : " وآخرين تَرَى الماذِيَّ ، ف " آخَرِينَ " من جنْس قولك " فَرِيقاً " ، ولم يعتبره بوصفه بقوله " يُصْفُونَ الزِّجاج " ؛ لأنه قَسَّم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنْسِ " ، قال : " وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ ؛ فَضْلاً عَمَّنْ يَعْرفُهُ " .
وقوله : " أو " الظاهرُ أنها للتخْيير ، وهو واضحٌ على القول بأن معنى " مِنْ غَيْرِكُمْ " : مِنْ غير أقاربِكُمْ من المسلمين ، يعني : المُوصِي مُخَيَّرٌ بيْنَ أنْ يُشْهِدَ اثنَيْنِ من أقاربه ، أو من الأجانب المسلمين وقيل : " أوْ " للترتيب : أي : لا يُعْدَلُ عن شاهدين منْكُمْ إلا عِنْدَ فَقْدِهِمَا ، وهذا لا يجيءُ إلا إذا قلنا : " مِنْ غَيْرِكُمْ " : من غير أهْلِ مِلَّتِكُمْ .
قوله : " إن أنْتُمْ " " أنْتُمْ " مرفوعٌ بمحذوفٍ يفسِّره ما بعده ، وهي مسألة الاشتغالِ ، والتقديرُ : إنْ ضَرَبْتمْ ، فلما حُذِفَ الفعلُ ، انفصلَ الضميرُ ، وهذا مذهبُ جمهور البصريِّين ، وذهب الأخْفَشُ{[12791]} منهم والكوفيُّون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد " إن " الشرطيَّةِ ؛ كما أجازوه بعد " إذَا " أيضاً ، ف " ضَرَبْتُمْ " لا محلَّ له عند الجمهور ؛ لكونه مفسِّراً ، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش ؛ لكونه خبراً ؛ ونحوه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ } [ التوبة : 6 ] ، { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] . وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى : { اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ } ، ولكنَّ تقدير هذا الجوابِ يتوقَّف على خلافٍ في هذا الشرط : هل هو قيدٌ في أصْلِ الشهادة ، أو قيدٌ في { آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ } فقط ؟ بمعنى : أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصيَّة إلى أهلِ الذمةِ ، إلا بشَرْطِ الضرب في الأرض ، وهو السفر ، فإن قيل : هو شرطٌ في أصْلِ الشهادةِ ، فتقديرُ الجواب : إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ ، فليشهد اثنانِ منْكُمْ أو من غَيْرِكُمْ ، وإنْ كان شرطاً في العدُولِ إلى آخَرَيْنِ من غير الملَّة ، فالتقدير : فأشْهِدُوا آخَرَيْنِ من غَيْركم ، أو فالشاهِدُ آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ ، فقد ظهر أنَّ الدَّالَّ على جوابِ الشرط : إمَّا مجموعُ قوله : " اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ . . . إلى آخره " على القولِ الأوَّل ، وإمَّا { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فقط على القولِ الثاني .
والفاء في " فَأصَابتكم " عاطفةٌ هذه الجملةَ على نَفْسِ الشرط ، وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنها في محلِّ رفع صفة ل " آخَرَانِ " ؛ وعلى هذا : فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها ؛ فإنَّ قوله " تَحْبسُونَهُمَا " صفةٌ لقوله " آخَرَانِ " ، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ ، ومكِّي{[12792]} بنُ أبِي طالبٍ ، والحُوفيُّ ، وأبو البقاء{[12793]} ، وابن عطيَّة{[12794]} ، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ ، فقال : " تَحْبِسُونَهُمَا " صفة ل " آخَرَانِ " واعترض بقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضربْتُمْ فِي الأرْض } ، وأفاد الاعتراضُ : أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة ، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه ؛ إنما يكون مع ضرورة السَّفَر ، وحلول المَوْت فيه ، واستغني عن جواب " إنْ " ؛ لِما تقدَّم في قوله { آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ } ، فقد ظهر من كلامه : أنه يجعلُ الشرط قيداً في { آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة ، فتقديرُ الجوابِ على رأيه ؛ كما تقدَّم : " فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ " أو " فالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ " .
والثاني : أنه لا محلَّ له ؛ لاستئنافهِ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ{[12795]} ؛ قال : " فإنْ قلت : ما موقعُ قوله : " تَحْبِسُونَهُمَا " ؟ قلتُ : هو استئنافُ كلامٍ ، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما : فكيفَ نَعْمَلُ ، إن ارتَبْنَا فيهمَا ؟ فقيل : تَحْبِسُونَهُمَا " ، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ للصناعة ؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها ، وقال : " بعد اشتراط العدالة " ؛ بناءً على مختاره في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْركُمْ } ، أي : أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب .
قال أبو حيان{[12796]} : " في قوله : " إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ " إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب ، إذ لو جرى على لفظ { إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ } ، لكان التركيب : إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ ، فأصابته ، وإنما جاء الالتفاتُ جمعاً ؛ لأنَّ " أحَدَكُمْ " معناه : إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ " ، وفيه نظرٌ ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادةُ بَيْنِكُمْ } إلى آخره ، وقال ابن عبَّاس : " في الكلام حذفٌ ، تقديرُه : فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء " ، وعن سعيد بن جُبير : تقديره " وقد أُوصيتُم " ، قال بعضُهُم : " هذا أوْلَى ؛ لأنَّ الوَصِيَّ يَحْلِفُ ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ " . والخطابُ في " تَحْبِسُونَهُمَا " لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه ، و " مِنْ بَعْدِ " متعلِّق ب " تَحْبِسُونَهُمَا " ، ومعنى الحَبْسِ : المنعُ ، يقال : حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله ، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ ، ويقال لمصْنَعِ الماءِ : " حَبْسٌ " ؛ لأنه يمنعه ، ويقال : " حَبَّسْتُ " بالتشديد أيضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل ؛ نحو : " حَبَّسْتُ الرِّجَالَ " ، والألف واللام في " الصَّلاة " فيها قولان :
أحدهما : أنها للجنْس ، أي : بعد أيِّ صلاة كانت .
والثاني - وهو الظاهر - أنها للعَهْد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى - .
معنى الآية : أنَّ الإنْسَان إذا حَضَرَهُ المْوتُ ، أنْ يُشهِدَ اثنين ذَوَيْ عدلٍ أي : أمَانةٍ وعَقْلٍ .
ومعنى قوله : " مِنْكُم " أي : أهْل دِينكُمْ يا مَعْشَر المُؤمنين ، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكمْ } ، من غَيْر دِينكُمْ قول أكثر المُفَسِّرين{[12797]} ، قاله ابْنُ عبَّاس ، وأبُو مُوسى الأشْعَرِي ، وهو قَوْلُ سعيد بن المُسَيِّبِ ، وإبراهيمِ النَّخْعِي ، وسعيد بنِ جُبَيْرٍ [ وشريح ]{[12798]} ، ومُجَاهِد ، وعُبَيْدة ، ثُمَّ اختلفَ هؤلاءِ في حُكْمِ الآيَةِ .
فقال النَّخْعي ، وجماعةٌ : هي منسوخَةٌ{[12799]} ، وكانَتْ شَهَادةُ أهْلِ الذَمَّةِ مَقْبُولَةً في الابْتِدَاء ، ثُمَّ نُسِخَتْ ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهَا ثَابِتَة ، وقالُوا : إذا لم يَجِدْ مُسْلمَيْنِ يُشهِدُ كَافِريْنِ قَالَ شُرَيْح{[12800]} : مَنْ كان بِأرْض غُرْبَةٍ ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يَشْهدُ على وصِيَّتِهِ ، فأشْهَدَ كَافِرَيْنِ على أيِّ دينٍ كَانَا من أهْلِ الكتابِ ، أوْ عَبَدَةِ الأوْثان ، فَشَهَادَتُهُم جَائِزةٌ ، ولا تَجُوزُ شَهَادَةُ كافرٍ على مُسْلمٍ إلاَّ على وَصِيَّةٍ في سَفَرٍ{[12801]} .
وعن الشَّعْبِيِّ : أنَّ رَجُلاً من المُسْلِمين حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ بدقوقا ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتِهِ ، فأشْهَدَ رجُلَيْنِ من أهْلِ الكِتَابِ ، فقدِمَا الكوفَةَ بتَرِكَتهِ وأتَيا أبَا مُوسَى الأشْعَرِي .
فقال الأشْعَرِيُّ : هذا أمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذي كان على عَهْد رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحْلَفَهُمَا باللَّه ما خَانَا ولا كَذبَا ، ولا بَدَّلا ، ولا غيَّرا ، وأنَّها لوصيَّة الرَّجُل وتركتِهِ ، وأمْضَى شَهَادتَهُمَا{[12802]} وقال آخرُون : قوله : { ذوا عدلٍ مِنْكُمْ } أي : من حَيّ المُوصِي ، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، أي : من غَيْرِ حَيِّكُمْ وعَشِيرَتِكُمْ ، وهو قول الحَسَن والزُّهرِي وعِكْرِمَة [ وجُمْهُور الفُقَهَاء ] ، وقالوا : لا يجوز شَهَادةُ كَافِرٍ في شَيْءٍ من الأحْكَامِ .
وقوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } ، أي : إنْ وَقَعَ المَوْتُ في السَّفَرِ ، ولم يَكُنْ مَعَكَمْ أحَدٌ من المُسْلِمِين ، أوْ من أقَارِبِكُمْ ، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْن على الوصيَّة ، إمَّا من مِلتِكُم ، أو من غَيْرِ مِلَّتِكُمْ على الخِلاف .
واحتَجَّ من قال : المُرَادُ بقوله : " مِنْ غَيْرِكُم " : الكُفَّار ؛ بأنَّه تعالى قال في أوَّل الآيةِ : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فعمَّ بهذا الخِطَابِ جَمِيعَ المُؤمنينَ ، فلما قال بعده " مِنْ غَيْرِكُم " كان المُرادُ غَيْرَ المُؤمنين .
وأيضاً كما شَرَطَ هذا الاسْتِشْهَاد بحَالَة السَّفَرِ عَلِمْنَا أن المُراد بالآية : الكُفَّار ؛ لأنَّ جواز الاسْتِشْهَادِ بالمُسْلِمِ غير مَشْرُوطٍ بالسَّفْر .
وأيضاً فالآية تَدُلُّ على وُجُوبِ تَحْلِيف الشَّاهدين بَعْد الصلاة ، والإجْمَاع على أنَّ الشَّاهِد المُسْلِم ، لا يَجِبُ عَلَيْه الْحَلفُ ، فعَلِمْنَا أنَّ هذَيْن الشَّاهدَيْن ليسا من المُسْلِمين وأيضاً بسَببِ النُّزُول ، ما ذكرنا من شَهَادَةِ النَّصْرَانِيَّيْن ، وقِصَّة أبِي مُوسى الأشْعَرِي ، إذ قَضَى بِشَهَادَةِ اليَهُوديَّيْن ، ولَمْ يُنْكِرْ عليه أحَدٌ من الصَّحَابَة ، فكان إجْماعاً ، فهذه حالةُ ضَرُورَةٍ ، والضَّرُورَاتُ قد تُبِيحُ المَحْظُورات ، كَجَوازِ التَّيَمُّمِ ، والقَصْرِ ، والفِطْرِ في رمضان ، وأكلِ المَيْتَةِ في حالِ الضَّرُورَة ، والمُسْلِمُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ في السَّفرِ ، ولم يجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتهِ ، ولم تكنْ شَهَادةُ الكافِرِين مَقْبُولَةٌ ، فإنَّه يُضَيِّع أكثر مُهِمَّاتِه ، ورُبَّما كان عِنْدَهُ ودَائِع ودُيُونٌ في ذِمَّتِهِ .
كما تُجُوزُ شَهادَةُ النِّساء فيما يتعلَّقُ بأحْوَالِهِنَّ ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والولادَةِ والاستِهْلاَلِ ؛ لِعَدَم إمْكَانِ وقُوفِ الرِّجَال على هذه الأحْوَال ، فاكتُفي{[12803]} بِشَهادةَ النِّسَاء فيها للضَّرُورة ، فكَذَا هَاهُنَا ، والقَوْلُ بأنَّ هذا الحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخاً بَعِيدٌ ؛ لاتِّفَاقِ أكْثَرِ الأمَّةِ على أنَّ سُورة المَائِدَةِ من آخر ما نزل من القُرْآنِ ، ولَيْسَ فيها مَنْسُوخٌ ، واحْتَجَّ الآخَرون بقوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ، والكَافِرُ لا يكون عَدْلاً .
وأُجِيبُ بأنَّه لم لا يجُوز أنْ يكون المرادُ بالعَدْلِ مَنْ كَانَ عدْلاً في الاحْتَرازِ عَنِ الكذبِ ، لا مَنْ كان عَدْلاً في الدِّين والاعتقاد ؛ لإجْماعِنَا على قُبُول شَهَادِةِ أهْلِ الأهْوَاء والبِدَعِ ، مع أنَّهم لَيْسُوا عُدُولاً في مَذَاهِبِهم عِنْدَنا لِكُفْرِهِم ، [ ولكنهم ]{[12804]} لمَّا كانُوا عُدُولاً في الاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ ، فكذا هَاهُنَا . سلَّمْنَا أنَّ الكَافِرَ لَيْسَ بعْدلٍ ، إلاَّ أن قوله : { ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } عامٌّ ، وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } خَاصٌّ ؛ فإنَّه أوْجَبَ شهادَة العَدْلِ منَّا في الحَضَرِ ، واكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لا يَكُونُ منَّا في السَّفَرِ ، فَهَذِه الآيَةُ خَاصَّةٌ ، والآيةُ التي ذكرُوهَا عامَّةٌ ، والخاصُّ مُقدَّم على العامِّ ، لاسِيَّما إذا كان الخَاصُّ مُتَأخِّراً في النُزُولِ ، والمائِدَةُ مُتَأخِرَّةٌ ، فكان تَقْدِيمُ هذه الآيَةِ الخَاصَّةِ وَاجِبٌ بالاتِّفَاقِ .
وقوله : " تَحْبِسُونَهُمَا " أي : تستوقفونهما مِنْ بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا .
وقال عامَّةُ المُفَسِّرين{[12805]} : من بعدِ صلاة العَصْرِ ، قالَهُ الشَّعْبِي ، والنَّخْعِي ، وسعيدُ بن جُبير ، وقَتادَةُ وغَيْرِهم{[12806]} ؛ لأنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيَان يُعَظِّمُونَ ذلك الوَقْت ، ويَجْتَنِبُون فيه الحَلفَ الكَاذِبَ .
وقال الحَسَنُ : مِنْ بعد صلاة الظُّهْر{[12807]} .
واحتَجَّ الجُمْهُور بما تقدَّم ، وبأنَّه رُوِي أنَّهُ لمَّا نَزلَتِ هذه الآيَةِ ، صلَّى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاة العَصْر ، ودَعَا ب " عَدِيِّ " و " تَمِيمٍ " فأسْتَحلفَهُمَا عِنْد المِنْبَر .
وقال بعضهم : بَعْدَ أداءِ أيِّ صلاةٍ كانتْ ؛ لأنَّ الصَّلاة تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر .
قال بَعْضُ العلماء{[12808]} : الأيمانُ تُغَلَّظ في الدِّماءِ ، والطَّلاقِ ، والعِتَاقِ ، والمال إذا بلغ مائَتَيْ دِرْهم بالزَّمَانِ والمكَان ، فَيُحْلَفُ بعد صلاة العَصْرِ بِمَكَّةَ بين الرُّكْنِ والمقام ، وفي المدينَة عند المِنْبَر ، وفي بَيْتِ المقْدِسِ عند الصَّخْرَةِ ، وفي سَائِر البُلْدَانِ في أشْرَف المَسَاجِد .
وقال أبو حنيفة : لا يَخْتَصُّ الحَلفُ بِزَمَان ولا مكان .
قوله : " فَيُقْسِمَانِ " في هذه الفاء وجهان :
أظهرهما : أنها عاطفةٌ هذه الجملة على جملة قوله : " تَحْبِسُونَهُمَا " ، فتكون في محلِّ رفع ، أو لا محلَّ لها حَسْبَمَا تقدَّم من الخلاف .
والثاني : أنها فاءُ الجزاءِ ، أي : جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ ، وقال الفارسيُّ : " وإنْ شئت ، لَمْ تَجْعَلِ الفاء ؛ لعطف جملة ، بل تجعلُه جزاءً ؛ كقول ذي الرُّمَّة : [ الطويل ]
وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً *** فَيَبْدُو ، وتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ{[12809]}
تقديرُه عندهم : إذا حَسَرَ بَدَا ، وكذا في الآية : إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا " . [ وقال مكيٌّ{[12810]} نحوه ؛ فإنه قال : " ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ جواب جزاءٍ ؛ لأن " تَحْبِسُونَهُمَا " معناه الأمْرُ بذلك ، وهو جوابُ الأمْر الذي دَلَّ عليه الكلامُ ؛ كأنه قيل : إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا " ] قال شهاب الدين{[12811]} : ولا حاجةَ داعيةً إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ ، وأيضاً : فإنه يُحْوجُ إلى حذفِ مبتدأ قبل قوله " فَيُقْسِمَان " ، أي : فهما يُقْسِمَانِ ، وأيضاً ف " إنْ تَحْبِسُوهُمَا " تقدَّم أنها صفةٌ ، فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر ، والطَّلَبُ لا يقع وصفاً ؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليٍّ ، فَخَرَّجَه النحويُّون على أنَّ " يَحْسِرُ الماءُ تَارَةً " جملةٌ خبرية ، وهي وإن لم يكنْ فيها رابطٌ ، فقد عُطِفَ عليها جملةٌ فيها رابطٌ بالفاء السَّببية ، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتَيْنِ شيئاً واحداً .
و " بالله " متعلِّقٌ بفعل القسم ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهارُ فعلِ القسمِ إلا معها ؛ لأنها أمُّ الباب ، وقوله : { لاَ نَشْتَرِي به } جوابُ القسم المضمرِ في " يُقْسِمَانِ " ، فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به ، وقوله : " إن ارْتَبْتُمْ " شرطٌ ، وجوابه محذوفٌ ، تقديرُه : إن ارتبتُمْ فيهما ، فحلِّفُوهُمَا ، وهذا الشرط وجوابه المقدَّرُ معترضٌ بين القسم وجوابه .
والمعنى : إن ارتْبَتْمُ في شَأنِهِمَا فَحَلِّفُوهُمَا ، وهذا الشَّرطُ حُجَّةُ من يقول : الآيةُ نَازِلةٌ في إشْهَادِ الكُفَّارِ ؛ لأنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ المُسْلِم غير مَشْرُوعٍ .
ومن قال : الآيةُ نازلةٌ في المُسْلِمِ قال : إنها مَنْسُوخَةٌ .
وعن عَلِيٍّ - رضي الله عنه{[12812]} - : أنَّهُ كان يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ والرَّاوي عند التُّهْمَةِ . وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ ، فأُجيب سابقُهما ، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ ؛ لدلالةِ جوابه عليه ؛ لأنَّ تلك المسألةَ شرطُها أن يكون جوابُ القسمِ صالحاً لأنْ يكون جواب الشرط ؛ حتَّى يَسُدَّ مسدَّ جوابه ؛ نحو : " والله إنْ تَقُمْ لأكْرِمَنَّكَ " ، لأنك لو قَدَّرْتَ " إن تَقُمْ أكْرَمْتُكَ " ، صَحَّ ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسَم ، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه ؛ ألا ترى أنَّ تقديره هنا : " إن ارْتَبْتُمْ ، حَلِّفُوهُمَا " ولو قَدَّرْتَهُ : إن ارتبتُمْ ، فلا نشتَرِي ، لم يَصِحَّ ، فقد اتفقَ هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ ، وقد أجيب سابقهما ، وحُذفَ جوابُ الآخَرِ ، وليس من تيكَ القاعدةِ ، وقال الجُرْجَانِيُّ : " إنَّ ثَمَّ قولاً محذوفاً ، تقديرُه : يُقْسِمَانِ بالله ويقولانِ هذا القَوْلَ في أيْمَانِهمَا ، والعربُ تُضْمِرُ القولَ كثيراً ؛ كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أي : يقولُونَ سلامٌ عَلَيْكُمْ " ، قال شهاب الدين : ولا أدْرِي ما حمله على إضمارِ هذا القَوْلِ ؟ .
قوله : " بِهِ " في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أنها تعودُ على الله تعالى .
الثاني : أنها تعودُ على القسم .
الثالث : وهو قول أبي عليٍّ - : أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ ، وهذا قوي من حيث المعنى ، وقال أبو البقاء{[12813]} : " تعودُ على اللَّهِ ، أو القَسَمِ ، أو الحَلْفِ ، أو اليمينِ ، أو تحريفِ الشهادةِ ، أو على الشهادة ؛ لأنها قولٌ " ، قال شهاب الدين{[12814]} : قوله " أو الحَلْفِ أو اليمينِ " لا فائدةَ فيه ؛ إذ هما شيءٌ واحدٌ ، وكذلك قولُ من قال : إنها تعودُ على الله تعالى ، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً ، أي : لا نَشْتَري بيمَينِ الله أوْ قسَمِه ونَحْوه ؛ لأنَّ الذاتَ المقدَّسة لا يُقالُ فيها ذلك ، وقال مكي{[12815]} : " وقيل : الهاءُ تعودُ على الشَّهادة ، لكن ذُكِّرَتْ ؛ لأنها قولٌ كما قال تعالى : { فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فردَّ الهاءَ على المقْسُومِ ؛ لدلالة القسمة على ذلك " ، والاشتراءُ هنا ، هَلْ هو باقٍ على حقيقته ، أو يُرَاد به البيع ؟ قولان ، أظهرهما الأول ، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصْب " ثَمَناً " ، وهو منصوبٌ على المفعوليَّة ، قال الفارسيُّ : " وتقديره : لا نَشْتَرِي به ذا ثَمَنٍ ؛ ألا ترى أنَّ الثمن لا يُشْتَرى ، وإنما يُشْتَرَى ذو الثمنِ " ، قال : " وليس الاشتراءُ هنا بمعنى البيع ، وإنْ جاء لغةً ، لأنَّ البيع إبعادٌ عن البائع ، وليس المعنى عليه ، إنما معناه التمسُّكُ به والإيثارُ له على الحقِّ " ، وقد نقل أبو حيان{[12816]} هذا الكلام بعينه ولم يعْزُه لأبِي عَلِيٍّ .
وقال مكيٌّ{[12817]} : " معناه ذا ثَمَنٍ ، لأنَّ الثمن لا يُشْتَرَى ، إنما يُشْتَرى ذو الثمنِ ، وهو كقوله : { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً } [ التوبة : 9 ] ، أي ذا ثَمَنٍ " ، وقال غيرُه : " إنه لا يَحْتاجُ إلى حذف مضاف " ، قال أبو البقاء{[12818]} : " ولا حَذْفَ فيه ؛ لأنَّ الثمنَ يُشْتَرَى كما يُشْتَرَى به ، وقيل : التقديرُ : ذا ثَمَنٍ " ، وقال بعضهم : " لا نَشْتَرِي : لا نبيعُ بعَهْدِ الله بغَرَضٍ نَأخُذُه ؛ كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } [ آل عمران : 77 ] ، فمعنى الآية : لا نَأخُذُ بعهد الله ثَمَناً ؛ بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا " قال الواحديُّ : " ويُسْتَغْنَى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي عَلِيٍّ ، وهذا معنى قول القُتَيْبِيِّ والجُرْجَانِيِّ " .
قوله تعالى : { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 170 ] من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ ، أو حاليةٌ ، وأنَّ جملة الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدَّرةٍ ؛ كقوله : " أعْطُوا السَّائِلَ ، ولوْ عَلَى فرسٍ " ، فكذا هنا تقديرُه : لا نشتري به ثمناً في كلِّ حال ، ولو كان الحالُ كذا ، واسمُ " كَانَ " مضمرٌ فيها يعودُ على المشهُودِ له ، أي : ولو كان المشهُودُ له ذَا قَرَابَةٍ .
قوله : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } الجمهورُ على رَفْعِ ميمِ " نَكْتُمُ " على أنَّ " لا " نافية ، والجملةُ تحتمل وجهين :
أحدهما - وهو الظاهرُ - : كونُها نسقاً على جواب القسمِ ، فتكونُ أيضاً مقسماً عليها .
والثاني : أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتمُون الشهادة ؛ ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشَّعْبيِّ{[12819]} : " وَلاَ نَكْتُمْ " على النهْي ، وهذه القراءةُ جاءتْ على القليل ؛ من حيث إنَّ دخولَ " لاَ " الناهيةِ على فعلِ المتكلِّم قليلٌ ؛ ومنه : [ الطويل ]
إذا مَا خرَجْنَا مِنْ دمشْقَ فَلاَ نَعُدْ *** بِهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجَرَاضِمُ{[12820]}
والجمهورُ على " شهادةَ الله " بالإضافة ، وهي مفعولٌ بها ، وأضيفَتْ إليه تعالى ؛ لأنه هو الآمرُ بها وبحفظها ، وألاَّ تُكْتَمَ ، ولا تُضَيَّعَ ، وقرأ{[12821]} عَلِيٌّ رضي الله عنه ونعيمُ بْنُ مَيْسَرَة والشَّعْبِيُّ في رواية : " شهادةً الله " بتنوين شهادة ، ونصبها ، ونصب الجلالة ، وهي واضحةٌ ، ف " شَهَادَةً " مفعول ثان ، والجلالةُ نصبٌ على التعظيم وهي الأوَّل ، والأصلُ : ولا نَكْتُمُ اللَّهَ شهادةً ؛ وهو كقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وإنما قُدِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها ؛ فإنها المحدَّثُ عنها ، وفيها وجهٌ ثانٍ - نقله الزهراويُّ - وهو : أن تكون الجلالةُ نَصْباً على إسقاطِ حرفِ القسم ، والتقديرُ : ولا نَكْتُمُ شهادةً واللَّهِ ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر ، نُصِب المُقْسَمُ به ، ولا حاجةَ إليه ؛ لأنه يَسْتَدْعِي حذف المفعولِ الأوَّل للكتمان ، أي : ولا نَكْتُمُ أحداً شهادةً والله ، وفيه تكلُّفٌ وإليه ذهب أبو البقاء{[12822]} أيضاً قال : " على أنه منصوبٌ بفعْلِ القسم محذوفاً " .
ويُروَى عن أبِي{[12823]} جَعْفَر " شَهادةً " مُنَونةً " أَللَّهِ " بِقَطْعِ الألف وكسَرْ الهَاءِ ، من غير اسْتِفْهَام على ابْتِدَاء اليَمينِ ، أي : واللَّهِ { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } ، أي : إنْ كَتَمْنَاها نَكُونُ من الآثمين .
وقرأ عليٌّ - رضي الله عنه - والسُّلمِيُّ والحسن البصريُّ{[12824]} : " شَهَادَةً " بالتنوين والنصب ، " آلله " بمدِّ الألفِ التي للاستفهام ، دَخَلَتْ للتقرير ، وتوقيف نفوسِ الخَلْق الحالفين ، وهي عوضٌ عن حَرْفِ القسمِ المقدَّرِ ثمّ . وهل الجرُّ بها أم بالحَرْفِ المحذوفِ ؟ خلافٌ . وقرأ{[12825]} الشعبيُّ في رواية وغيره : " شَهَادَهْ " بالهاء ويقف عليها ، ثم يَبْتدئ " آللَّهِ " بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدِّم ، وجَرِّ الجلالة ، وهمزةُ القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة ، تقول : يا زَيْدُ ، أللَّهِ ، لأفْعلَنَّ ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصَّة ثلاثةٌ : ألفُ الاستفهام ، وقطعُ همزة الوصلِ ، وها التي للتنبيه ؛ نحو : " ها اللَّهِ " ، ويجوزُ مع " هَا " قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها ، وهل الجرُّ بالحرف المقدَّر ، أو بالعوض ؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً ، ولو قال قائلٌ : إن قولهم " الله ، لأفْعَلَنَّ " بالجرِّ وقطع الهمزة ؛ بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قوله ، فإن قيل : همزةُ الاستفهام ، إذا دخلَتْ على همزة الوصْلِ التي مع لام التعريف ، أو ايْمُن في القَسَم ، وجب ثبوتُ همزة الوصل ، وحينئذ إمَّا : أنْ تُسَهَّلَ ، وإمَّا أنْ تُبْدَلَ ألفاً ، وهذه لم تَثْبُتْ بعدها همزةُ وصل ، فتعيَّن أن تكونَ همزة وصْلٍ قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم ، فالجواب : أنهم إنما أبْدلوا ألفَ الوصْلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام ؛ فرقاً بين الاستفهام والخبر ، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجرَّ في الجلالة يؤذِنُ بذلك ؛ فلا حاجة إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدلةً أو مُسَهَّلةً ، فعلى هذا قراءة : ألله ، وآلله بالقصْر والمدِّ تحتمل الاستفهام ، وهو تخريجٌ حسن ، قال ابن جني{[12826]} في هذه القراءة : " الوقفُ على " شهَاده " بسكون الهاء ، واستئنافُ القسم - حسنٌ ؛ لأنَّ استئنافه في أولِ الكلامِ أوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ أنْ يدخُلَ في عرضِ القَوْل " ، ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني : " ألله " بقطع الألف من غير مدٍّ وجرِّ الجلالة - عن أبي بكرٍ عن عاصمٍ وتقدَّم أيضاً أنها رويتْ عن أبي جعفرٍ ، وقرئ{[12827]} : " شَهَادَةً اللَّهِ " بنصب الشهادة منونة ، وجرِ الجلالة موصولة الهمزة ، على أن الجرَّ بحرفِ القسمِ المقدَّرِ من غير عوضٍ منه بقَطْعِ ، ولا همزةِ استفهام ، وهو مختصٌّ بذلك .
وقوله تعالى : { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الأَثِمِينَ } هذه الجملةُ لا محلَّ لها ؛ لأنها استئنافيةٌ ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين ، إنْ كتموا الشهادة ؛ ولذلك أتوا ب " إذَنِ " المُؤذِنَةِ بالجزاء والجواب ، وقرأ الجمهور : " لَمِنَ الآثمينَ " من غير نقل ، ولا إدغام ، وقرأ ابن مُحَيصنٍ والأعمش{[12828]} : " لَمِلآّثمين " بإدغام نون " مِنْ " في لام التعريف ، بَعْد أن نقل إليها حركة الهمزة في " آثمينَ " ، فاعتدَّ بحركة النقل فأدغَمَ ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ{[12829]} : { عَاداً لُّولَى } [ النجم : 50 ] بالإدغام ، على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى .
ومعنى الآية : إنكم إذا سَافَرْتُم في الأرْض ، فأصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت ، فأوصَيْتم إلَيْهما ، ودَفَعْتُم إليهمَا مالك ، فاتَّهَمَهُمَا بعضُ الورثة ، وادَّعَوْا عليهما خِيَانَة فما الحُكْمُ فيه ؟
" أن تَحبِسُونَهُمَا " أي : تَسْتَوقِفُونَهُمَا بَعْدَ الصَّلاة .
قال السُّدي : بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا ؛ لأنَّهُمَا لا يُبَالِيَان بِصلاةِ العَصْرِ ، ولا صلاةِ الظُّهْرِ على ما تقدَّم ، فيَحْلِفَان { باللَّهِ إن ارْتَبْتُمْ } أي : شَكَكْتُم وَوقَعتْ لَكُم الرِّيبَةُ في قولِ الشَّاهدين وصدقهمَا ، إذا كانا مِنْ غَيْرِ دينكُم ، فإن كانا مُسْلِمَيْن فلا يَمِينَ عليهما { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } ، أي : لا نَحْلِفُ باللَّه كَاذِبين على عِوضٍ نأخُذُه ، أو حَقٍّ نَجْحَدُهُ { ولَوْ كَانَ ذا قُرْبَى } ، ولو كان المَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرابَةٍ مِنَّا{[12830]} .
وقيل : لَوْ كان ذلك الشَّيْءُ حبوة{[12831]} في قُرْبى { ولا نكْتُمُ شهادَة اللَّهِ } وأضَافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ تعالى ؛ لأنه أمَرَ بإقَامَتِها ونَهَى عن كِتْمَانها { إنَّا إذاً لَمِن الآثمين } ، إن كَتَمْنَا الشَّهَادَة .
رُوِي لما نَزَلت هذه الآيَةُ ، صلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ العَصْرِ ، ودعا تميماً وعِدياً ، فاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ المِنْبَر باللَّه الذي لا إله إلاَّ هُو ، أنَّهُمَا لم يَخْتَانَا شَيْئاً مما دُفع إليْهما ، فَحَلَفا على ذَلِكَ ، وخلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبِيلَهُمَا{[12832]} .