اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡ أَنَّ لَهُم مَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا وَمِثۡلَهُۥ مَعَهُۥ لِيَفۡتَدُواْ بِهِۦ مِنۡ عَذَابِ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنۡهُمۡۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (36)

قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ [ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }*{ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }{[11658]}

قد تقدم الكلام على " أنَّ " الواقعة بعد " لو " على أنَّ فيها مَذْهَبيْن .

و " لَهُمْ " خبر ل " أنَّ " ، و { مَا فِي الأرْض } اسمها ، و " جميعاً " {[11659]} توكيد لهُ ، أو حال منه و " مِثلَه " في نَصْبِه وجهان :

أحدهما : عطف على اسم " أن " وهو " مَا " الموصولة .

والثاني : أنه منصُوب على المَعِيَّة ، وهو رأي الزَّمخْشَرِي ، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه .

و " معهُ " ظرف واقع موقع الحال .

[ " واللام " ]{[11660]} متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر ، وهو " لَهُمْ " .

و " به " و " مِنْ عذاب " متعلِّقان بالافْتِدَاء ، والضَّمير في " بِهِ " عائدٌ على " مَا " الموصولة ، وجيء بالضَّمِير مُفْرَداً وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما { مَا فِي الأرْض } و " مِثْلَهُ " ، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد ؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه ، كقوله رحمة الله عليه : [ الطويل ]

. . . *** فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ{[11661]}

أي : لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به ، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة ، كقوله : [ الرجز ]

. . . *** كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ{[11662]}

وقال بعضهم : ليفْتَدُوا بذلك المَال .

وقد تقدم في " البقرة " .

و " عذاب " بمعنى : تَعْذِيب بإضافته إلى " يَوْم " خرج " يَوْم " عن الظرفية ، و " مَا " نَافِية وهي جواب " لَوْ " ، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير " لام " ، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبراً ل " إن " ، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في " بِهِ " لمَدْرك آخر ، وهو أنَّ " الوَاو " في " ومِثْلَهُ " [ واو " مع " قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين : ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في " ومِثله " ]{[11663]} بمعنى " مَعَ " فيتوحد المَرْجُوع إليه .

فإن قُلْتَ : فبم يُنْصب المَفْعُول معه ؟ .

قلت : بما تسْتَدْعِيه " لَوْ " من الفعل ؛ لأن التَّقدير : لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض ، يعني : أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه ، تقول : " كُنْتُ وَزَيْدَاً كالأخِ " قال الشاعر : [ الطويل ]

فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ *** عَنِ المَاءِ إذْ لاَقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا{[11664]}

فقال : " كَحَرَّان " بالإفْرَاد ولم يقُلْ{[11665]} : " كحرَّانَيْن " ، وتقول : " جَاءَ زَيْدٌ وهنْداً ضاحِكاً في داره " .

وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين ، يعني : فَيطَابق الخبر ، والحَال ، والضمير له ولما بَعْده ، فتقول : " كُنْتُ وَزيْداً كالأخوين " .

قال بعضهم : والصَّحِيح جوازه على قِلِّة .

وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري ، وطوَّل معه .

قال شهاب الدِّين{[11666]} : ولا بد من نَقْل نصِّه ؛ قال{[11667]} : وقول الزمَخْشَرِي ويجُوزُ أن تكون " الواو " بمعنى " مع " ليس بِشَيْء ؛ لأنَّه يصير التقدير : مع مثله معه ، أي : مع مِثْل ما في الأرْضِ [ مع ما في الأرض ]{[11668]} إن جعلت الضَّمِير في " مَعَه " عائِداً على " مَا " يكون معه حَالاً من " مِثْله " .

وإذا كان مَا في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة ، فلا فائدة في ذكر " معه " لملازمة معيّة كل منهما للآخر .

وإن جعلت{[11669]} الضمير عائداً على " مثله " ، أي : مع مثله مع ذلك المثل ، فيكون المعنى مع مِثْلَيْنِ ، فالتَّعْبِير عن هذا المَعْنَى بتلك العِبَارة عَيِيٌّ ؛ إذ الكلام المُنْتَظِم أن يكون التَّرْكيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْهِ .

وقول الزَّمَخْشَرِي : " فإن قُلْت " إلى آخِر الجواب [ هذا السؤال ]{[11670]} لا يرد ؛ لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن يكون " الوَاو " واو " مَعَ " ، وعلى تقدِير وُرودِه فهذا بناء منه على أنَّ [ " أن " ]{[11671]} إذا جاءت بعد " لَوْ " كانت في مَحَلِّ رفع بالفاعليّة ، فيكون التقدير على هذا لو ثَبَتَ كينونة ما في الأرْضِ مع مثله لهم لِيَفْتَدُوا به ، فيكون الضَّمِير عائِداً على " مَا " فقط .

وهذا الذي ذكره هو تَفْريعٌ منه على مذهَب المُبَرِّد{[11672]} في أنَّ " أن " بعد " لَوْ " في محل رفع على الفاعليَّة ، وهو مذهب مرجُوحٌ ، ومذهب سيبويه{[11673]} : أن " أنَّ " بعد " لَوْ " في محلِّ رفع مُبْتَدأ .

والذي يظهر من كلام الزَّمخْشَرِي هنا وفي تصانيفه أنَّهُ ما وَقَفَ على مذهب سيبويْه في هذه المسألة .

وعلى المفرع على مذهَب المُبَرِّد لا يجوز أن تكون " الوَاوُ " بمعنى " مَعَ " والعامِلَ فيها " ثَبَتَ " المقدَّرة لما تقدم من وجود لفظة " مَعَهُ " ، وعلى تقديره سُقُوطها لا يصحُّ ؛ لأن " ثَبَتَ " ليس رَافِعاً ل " مَا " العائد عليها الضمير وإنما هو رَافِعٌ مصدراً مُنْسَبكاً من " أن " وما بعدها ، وهُو كونُ ؛ إذ التقدير لو ثَبَتَ كون ما في الأرض جَمِيعاً لهم ومِثْله معه لِيَفْتدُوا به ، والضمير عَائِد على [ ما ] دُون الكوْنِ ، فالرَّافِع الفاعِل غير النَّاصب للمفعُول معه ، إذ لو كان إيَّاه للزم من ذلك وجود الثُّبُوت مُصَاحباً للمثل [ والمعنى على كينونة ما في الأرض مُصاحباً للمثل ، لا على ثُبُوت ذلك مُصَاحِباً للمثل ، ]{[11674]} وهذا فيه غُمُوض .

وبيانُهُ : أنَّك إذا قلت : " يُعْجِبُني قيام زَيْد وعَمْراً " ، جعلت " عمراً " مفعُولاً معه ، والعامِلُ فيه " يُعْجُبني " [ لزم ]{[11675]} من ذلك أن " عَمْراً " لم يَقُمْ ، وأعجبك القِيَامُ وعمرو .

وإن جَعَلْتَ{[11676]} العامل فيه القِيَام : كان عمرو قَائِماً ، وكان الإعْجَاب قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيام عَمْرو .

فإن قلت : هلاّ كان " ومِثْلَهُ مَعَهُ " مفعولاً معه ، والعامِلُ فيه هو العَامِلُ في " لَهُمْ " ؛ إذ المَعْنَى عليه ؟ .

قلت : لا يَصِحُّ ذلك لِمَا ذكرْنَاه من وجود " مَعَهُ " في الجُمْلَة ، وعلى تقديرِ سُقُوطِهَا لا يصحُّ ؛ لأنَّهُم نَصُّوا على أنَّ قولك : " هَذَا لَكَ وأبَاك " ممنوع في الاختيار .

قال سيبويْه{[11677]} : وأما " هَذَا لَكَ وأبَاك " فَقَبيحٌ ؛ لأنَّه لم يذكر فِعْلاً ولا حَرْفاً فيه معنى فعل حتى يَصِير كأنَّه قد تكلَّم بالفعل ، فأفْصَح سيبويه بأن اسْم الإشَارَة وحرف الجر المتضمن{[11678]} [ المعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا ]{[11679]} نحو " هذا لك وأباك " .

فقوله : " وأبَاكَ " يكون مفعُولاً مَعَهُ ، والعَامِلُ الاستِقْرَار في " لَكَ " . انتهى . ومع هذا الاعتراض الذي ذكره ، فقد يَظْهر عنه جوابٌ ، وهو أنَّا نقول : نختار أن يكون الضَّمِير في قوله : " مَعَهُ " عائداً على " مِثْله " ويَصِيرُ المعنى : مع مِثْلَين ، وهو أبْلَغُ من أن يكون مع مِثْل واحد .

وقوله : " تَرْكِيبٌ عَيِيٌّ " فَهْم قَاصِرُ ، ولا بُدَّ من جُمْلَةٍ محذُوفَة قَبْل قوله : { ما تُقبِّلَ مِنْهُم } تقديره : وَبذَلُوه ، أو وافْتَدُوا به ، ليصِحَّ التَّرْتيب المذكُور ؛ إذ لا يترتَّب على اسْتِقْرَار ما فِي الأرْض جَمِيعاً ومثله معه لهم عدم التَّقبُّل ، إنما يترتَّب عدم التَّقَبُّل على البَذلِ والافْتِدَاء والعامَّة على " تُقُبِّل " مبنياً [ للمفعول حذف فاعله لعظمته وللعلم به .

وقرأ يزيد بن قطيب{[11680]} : " ما تقبَّل " مبنياً للفاعل ]{[11681]} وهو ضميرُ البَارِي تبارك وتعالى .

قوله [ تعالى ] " ولَهُمْ عَذابٌ " مبتدأ وخبرُهُ مُقَدَّمٌ عليه ، و " ألِيمٌ " صفته بمعنى : مُؤلِمٌ ، وهذه الجُمْلَة أجَازُوا فيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أن تكون حالاً ، وفيه ضَعْفٌ من حيث المعنى .

المعنى الثاني : أن تكون في مَحَلِّ رفع عَطْفاً على خَبَرِ " أن " أخبر عن الذين كفروا بخبرين لو استقرَّ لَهُمْ جَمِيعُ ما في الأرضِ مع مثله فَبَذلُوه ، لم يُتَقَبَّلْ مِنْهُم وأنَّ لهم عَذَاباً أليماً .

الثالث : أن تكون مَعْطُوفة على الجُمْلَة من قوله : { إن الذين كفرُوا } ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها ؛ لِعَطْفها على ما لا مَحَلَّ له .


[11658]:سقط في أ.
[11659]:في أ: وجمعها.
[11660]:سقط في أ.
[11661]:تقدم.
[11662]:تقدم.
[11663]:سقط في أ.
[11664]:البيت لكعب بن جعيل، ينظر: الكتاب 1/150، والأزهية ص 32، شرح أبيات سيبويه 1/431، الدر المصون 2/519.
[11665]:في أ: وكم.
[11666]:ينظر: الدر المصون 2/519.
[11667]:ينظر: البحر المحيط 3/487.
[11668]:سقط في أ.
[11669]:في أ: كان.
[11670]:سقط في أ.
[11671]:سقط في أ.
[11672]:ينظر: المقتضب 3/77.
[11673]:ينظر: الكتاب 1/410.
[11674]:سقط في أ.
[11675]:سقط في أ.
[11676]:في أ: جعلنا.
[11677]:ينظر: الكتاب 1/128.
[11678]:في أ: التضمن.
[11679]:سقط في أ.
[11680]:ينظر: البحر المحيط 3/487.
[11681]:سقط في أ.