قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية : ناداه المولى سبحانه بأشْرَفِ الصِّفَات البشرية ، وقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } [ وهو قد بَلَّغَ ! ! ] فأجابَ الزمخشريُّ{[12279]} بأن المعنى : جميعَ ما أُنزِلَ إليْكَ ، أي : أيَّ شيءٍ أُنْزِلَ غير مُرَاقِبٍ في تبليغِهِ أحَداً ، ولا خائفٍ أنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ ، وأجاب ابن عطية{[12280]} بقريبٍ منه ، قال : " أمَر الله رسوله بالتبليغِ على الاسْتِيفَاءِ والكمالِ ؛ لأنه كان قَدْ بَلَّغَ " ، وأجاب غيرُهما بأنَّ المعنى على الديمومة ؛ كقوله : { يأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } [ الأحزاب : 1 ] { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } [ النساء : 136 ] .
وقوله : " مَا " يحتملُ أن تكون اسميةً بمعنى " الَّذِي " ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً ؛ لأنه مأمورٌ بتبليغِ الجميعِ كما مَرَّ ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك ؛ فإن تقديرها : " بَلِّغْ شَيْئاً أُنْزِلَ إليْكَ " ، وفي " أُنْزِلَ " ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقام الفاعلِ ، وتحتملُ على بُعْدٍ أن تكون " مَا " مصدريَّةً ؛ وعلى هذا ؛ فلا ضمير في " أُنْزِلَ " ؛ لأنَّ " مَا " المصدرية حرفٌ على الصَّحيح ؛ فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ ، وهو الجارُّ بعده ؛ وعلى هذا : فيكونُ التقديرُ : بَلِّغِ الإنْزَالَ ، ولكنَّ الإنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنه معنى ، إلا أن يُراد بالمصدر : أنه واقعٌ موقع المفعول به ، ويجوز أن يكون المعنى : " اعلم بتبليغ الإنْزَالِ " ، فيكونُ مصدراً على بابه .
والمعنى أظهر تَبْلِيغَهُ ، كقوله تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الحجر : 94 ] .
روي عن مَسْروق [ قال ]{[12281]} : قالتْ عائِشَةُ - رضي الله عنها - : " من حدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كتَم شَيئاً ممّا أنْزل الله ، فقد كذب " وهو سبحانه وتعالى يقول : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية{[12282]} .
ورُوِيَ عن الحسن : أنَّ الله لمَّا بَعَثَ رسولَهُ ، وعرف أنَّ مِنَ النَّاس من يُكَذِّبُه ، فَنَزَلَتْ هذه الآية{[12283]} ، وقيل : نَزَلَتْ في عيب من اليَهُود وذلك{[12284]} أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - دَعَاهُم إلى الإسلام ، فقالوا : أسْلَمْنَا قَبْلَكَ{[12285]} ، وجعلوا يَسْتهْزِئُون بِهِ فَيَقُولُون : تريد أن نَتَّخِذَكَ حَنَاناً كما اتَّخَذَ النَّصَارى عِيسى حَنَاناً ، فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك سَكَت ، فنزَلَتْ هذه الآية{[12286]} ، فأمَرَهُ أنْ يقُولَ لأهْلِ الكِتَاب : { لَسْتُم عَلَى شَيْءٍ } الآية .
وقيل : بلِّغ الإنْزَال ما أُنْزِلَ إليك من الرَّجْمِ{[12287]} والقِصَاصِ في قصَّةِ اليهود ، وقيل : نَزَلَتْ في أمرِ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ ونِكَاحها{[12288]} .
وقيل : نزلت في الجِهَاد{[12289]} وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهُوه ، كما قال تعالى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } [ محمد : 20 ] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين .
قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } [ النساء : 77 ] الآية ، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية ، والمَعْنَى : بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم ، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم ، وقيل : نزلتَ في حجَّة الوَدَاع ، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال : هل بلَّغْتُ ؟ قالُوا : نَعَمْ قال : اللَّهُم فاشْهَدْ{[12290]} ، وقِيلَ : لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى : { يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } [ الأحزاب : 28 ] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت .
قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } ، أي : وإنْ لم تفعل التبليغ ، فحذف المفعول به ، ولم يقل : " وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ " لما تقدَّم في قوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } في البقرة [ آية : 24 ] ، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط ؛ لتحصُل الفائدةُ ، ومتى اتَّحدَا ، اختلَّ الكلامُ ، لو قلتَ : " إنْ أتَى زيدٌ ، فقدْ جَاءَ " ، لم يَجُزْ ، وظاهرُ قوله : " وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ، فما بَلَّغْتَ " اتحادُ الشرطِ والجزاء ، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله : وإن لم تفعل ، لم تفعل ، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ ؛ أسَدُّها : ما قاله الزمخشريُّ ، وقد أجاب بجوابَيْنِ :
أحدهما : أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها ؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته ، فقيل : إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء ، وإن كلمةً واحدةً ، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا ، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
والثاني : المراد : وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك ، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ ؛ ويؤيده : " فأوْحَى الله إليَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالاَتِي ، عَذَّبْتُكَ " .
وأجاب ابن عطية{[12291]} : أي : وإنْ تركْتَ شيئاً ، فقد تركْتَ الكلَّ ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به ، فمعنى " وإنْ لَمْ تَفْعَلْ " : " وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ " ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر : [ الطويل ]
سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ ، وَلَمْ تُعْطِ نَائِلاً *** فَسِيَّان لا حَمْدٌ عَلَيْكَ وَلاَ ذَمُّ{[12292]}
أي : فلم تُعْطِ ما يُعَدُّ نَائِلاً ، وإلاَّ يتكاذَبِ البيتُ ، يعني بالتكاذُب أنه قد قال : " فَلَمْ تَبْخَلْ " فيتضمَّن أنه أعطى شيئاً ، فقوله بعد ذلك : " ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً " لو لم يقدِّر نَائِلاً يُعْتَدُّ به ، تكاذَبَ ، وفيه نظرٌ ؛ فإن قوله " لَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ " لم يتواردا على محلٍّ واحد ؛ حتَّى يتكاذَبا ، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قدَّره ابن عطية كَذبُ البيت ، وبهذا الذي ذكرتُه يتعيَّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعَمَ أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازعَ فيه ثلاثةُ عواملَ : سُئِلْتَ وتَبْخَلْ وتُعْطِ ، وذلك لأن قوله : " وَلَمْ تَبْخَلْ " على قولِ هذا القائلِ متسلِّطٌ على طائِل ، فكأنه قيل : فلم تَبْخَلْ بطائلٍ ، وإذا لم يبخَلْ به ، فقد بذله وأعطاه ، فيناقضُه قوله بعد ذلك " ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً " .
وقد أفسد ابنُ الخطيب{[12293]} جواب ابنِ عطيَّة فقال : " أجَابَ الجمهُور ب " إنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِداً مِنْهَا ، كُنْت كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئاً " ، وهذا ضعيفٌ ؛ لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتَى بالبعض ، فإن قيل : إنه ترك الكلَّ ، كان كذباً ، ولو قيل : إن مقدار الجُرْمِ في ترك البعْضِ مثلُ الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المُحالُ الممتنعُ ؛ فسقط هذا الجوابُ ، والأصحُّ عندي : أن يقال : خرج هذا الجوابُ على قانون قوله : [ الرجز ]
أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي{[12294]} *** . . .
ومعناه : أنَّ شِعْرِي قد بلغَ في الكمالِ والفصَاحَةِ والمتانَةِ إلى حيْثُ متى قيل : إنه شِعْرِي ، فقد انتهى مدحُه إلى الغايَةِ التي لا يُزَادُ عليها ، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامَّةَ من هذا الوجهِ ، فكذا هنا ، كأنه قال : فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه ، فما بلَّغْتَ رسالاته ، يعني : أنه لا يمكنُ أن يوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنه ترك التبليغ ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد " .
قال أبو حيان{[12295]} : " وما ضعَّفَ به جوابَ الجُمْهور لا يُضَعَّفُ به ؛ لأنه قال : " فإنْ قيل : إنه تركَ الكُلَّ ، كان كذباً " ، ولم يقولوا ذلك ، إنما قالوا : إنَّ بعضها ليس أوْلَى بالأداء مِن بعضٍ ، فإن لم تُؤدِّ بعضها ، فكأنَّك أغْفَلْتَ أداءَها جميعَها ، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضها كان كَمَنْ لم يؤمنْ بكلِّها ؛ لإدلاءِ كلٍّ منها بما يُدْلِي به غيرُها ، وكونُها كذلك في حكْمِ شيءٍ واحدٍ ، والشيءُ الواحدُ لا يكون مبلَّغاً غير مبلَّغ ، مُؤمَناً به غيرَ مؤمنٍ به ؛ فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غير معتدٍّ به " ، قال شهاب الدين{[12296]} : وهذا الكلام الأنِيقُ ، أعني : ما وقع به الجواب عن اعتراضِ الرَّازِيِّ كلامُ الزمخشري أخَذَه ونقله إلى هنا ، وتمامُ كلام الزمخشريِّ : أن قال بعد قوله : " غَيْرَ مُؤمَنٍ " ، وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : " إنْ كَتَمْتَ آيَةً لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاَتِي " {[12297]} ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بَعَثَنِي الله بِرِسَالاتِهِ ، فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعاً ، فأوْحَى الله إلَيَّ : إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاتِي ، عَذَّبْتُكَ وضَمِنَ لِي العِصْمَةِ ؛ فقَوِيتُ " {[12298]} ، قال أبو حيَّان{[12299]} : " وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرْمِ في تَرْكِ البعْضِ مثلُ الجُرْم في ترك الكلِّ مُحالٌ ممتنعٌ ، فلا استحالة فيه ؛ لأن لله تعالى أن يرتِّب على الذنْبِ اليسيرِ العقابَ العظيمَ ، وبالعكس ، ثم مَثَّلَ بالسارقِ الآخِذِ خفيةً يُقْطَعُ ويُرَدُّ ما أخَذَ ، وبالغاصبِ يُؤخَذُ منه ما أخذ دونَ قَطْعٍ " .
وقال الواحديُّ : أي : إنْ يَتْرُك إبلاغَ البعْضِ ، كان كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ ؛ لأنَّ تَرْكه البعضَ مُحْبِطٌ لإبلاغِ ما بلَّغَ ، وجُرْمَهُ في كتمانِ البعضِ كجُرْمِهِ في كتمان الكلِّ ؛ في أنه يستحقُّ العقوبة من ربِّهِ ، وحاشا لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أوْحَى الله تعالى إليه ، وقد قالت عائشةُ - رضي الله عنها - : " مَنْ زَعَمَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئاً من الوحْي ، فقَدْ أعْظَمَ عَلى الله الفِرْيَةَ ، والله تعالى يقول : { يا أيُّهَا الرسُولُ بَلِّغْ } ، ولو كَتَم رسُول الله صلى الله عليه وسلم شَيْئاً من الوحْيِ ، لَكَتَمَ قولَهُ تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } [ الأحزاب : 37 ] الآية " ، وهذا قَريبٌ من الأجوبة المتقدِّمة ؛ ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤالِ المتقدِّم الحديثُ الصحيحُ عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه - : " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتَهُ إلى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسُولِه " فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرطِ ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحْصُلُ به المغايرةُ ، فقالوا : تقدِيرُهُ : فمنْ كانَتْ هجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ نيَّةً وقصْداً فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ حُكْماً وشَرْعاً ، ويمكنُ أن يأتِيَ فيه جوابُ الرَّازِيِّ الذي اختاره .
وقرأ{[12300]} نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر : " رِسَالاَتِهِ " جَمْعاً ، والباقون : " رِسَالَتَهُ " بالتوحيد ، ووجهُ الجمْع : أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة ؛ كأصول التوحيد ، والأحكام على اختلاف أنواعها ، والإفرادُ واضحٌ ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك ، وقد قال بعض الرسُلِ : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } [ الأعراف : 62 ] ، وبعضُهم قال : { رِسَالَةَ رَبِّي } [ الأعراف : 79 ] ؛ اعتباراً للمعنيين .
قوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي : يَحْفَظُكَ ، ويمنعُكَ من النَّاسِ .
" رُوِيَ أنَّه - عليه الصلاة والسلام - نزل تَحْتَ شَجَرَةٍ في بَعْضِ أسْفَارِه وعلق سَيْفَه عليها ، فأتَاه أعْرَابِيٌّ - وهو نَائِمٌ - ، فأخذ سَيْفَهُ واخْتَرَطَهُ ، وقال : يا مُحَمَّدُ من يَمْنَعُك مِنِّي ؟ فقال : " اللَّهُ " فرعدت يَدُ الأعْرَابِيِّ ، وسقطَ من يده ، وضرب برأسه الشَّجَرة حتى انْتَثَر دِمَاغُهُ " {[12301]} ، فأنزل اللَّهُ تعالى { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } .
فإن قيل : كيْفَ الجَمْعُ بين هذه الآية وبين ما رُوِيَ أنَّه شُجَّ في وجْهِه يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَّتُهُ ، وأوذي بِضُرُوبٍ من الأذَى .
فقيل : يَعْصِمُك من القَتْلِ ، فلا يَصِلُوا إلى قَتْلِك .
وقيل : نزلَتْ هذه الآية بعدمَا شُجَّ رَأسُهُ يَوْم أُحُدٍ ؛ لأنَّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القُرْآن .
والمُراد ب " النَّاس " هاهنا : الكفار لقوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
" كان رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يَحْرُسُه سَعْدٌ وحُذَيْفَة حتى نَزَلتْ هذه الآية ، فأخْرَجَ رَأسَهُ مِنْ قُبَّةِ أديمٍ فقال : " انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ " {[12302]} .
وقيل : المُراد والله يَخُصُّكَ بالعِصْمَة من بين النَّاسِ ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - معصُومٌ { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .