قوله : «كلوا واشربوا » أي يقال لهم كُلُوا واشربوا هنيئاً . وقد تقدم الكلام في : «هَنِيئاً » فِي النِّسَاء .
قال الزمخشري : هنا يقال لهم كلوا واشربوا أكلاً وشُرْباً هنيئاً أو طعاماً وشرباً هنيئاً . وهو الذي لاَ تَنْغَيصَ فِيهِ .
هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ *** لِعَزَّةَ مِنْ أَعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ{[53140]}
أعني صفةً استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل ، مرتفعاً به «ما اسْتَحَلَّت » كما يرتفع بالفعل كأنه قيل هَنّأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ منْ أعْرَاضِنَا ، فكذلك{[53141]} معنى «هنيئاً » هُنَا{[53142]} هنّأَكُمُ الأَكْلُ والشُّرْبُ ، أو هَنَّأَكُمْ مَا كُنْتُم تَعْملونَ{[53143]} والباء مزيدة كما في «كَفَى بِاللَّهِ » والباء متعلقة بكُلُوا واشْرَبُوا إذا جعلت الفاعل الأكل والشرب{[53144]} . وهذا من محاسن كلامه .
قال أبو حيان : أما تجويزه زيادة الباب فليست بمَقِيسةٍ في الفاعل إلا في فاعل «كَفَى » على خلافٍ{[53145]} فيها فتجويزها هنا لا يسوغ .
وأما قوله : إنَّها تتعلق ب «كُلُوا واشْرَبُوا » فلا يصح إلا على الإعمال فهي تتعلق بأحدهما . انتهى{[53146]} . وهذا قريب .
قوله : «مُتَّكِئِينَ » فيه أوجه :
أحدها : أنه حال من فاعل : «كُلُوا » .
الثاني : أنه حال من فاعل : «أَتَاهُمْ » .
الثالث : أنه حال من فاعل : «وَقَاهُمْ » .
الرابع : أنه حال من الضمير المُسْتَكِنِّ في الظرف .
الخامس : أنه حال من الضمير في : «فَاكِهِينَ »{[53147]} .
وأحسنها أن يكون حالاً من ضمير الظرف{[53148]} لكونه عُمْدَةً .
وقوله : «عَلَى سُرُرٍ » متعلق ب «متَّكِئينَ » .
وقراءة العامة بضم الراء الأولى . وأبو السَّمَّال بفتحها{[53149]} . وقد تقدم أنها لغة لكَلْبٍ في المضعف يَفرونَ من تَوَالِي ضمتين في المضعف .
قوله : { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } قرأ عكرمةُ بحُورٍ عينٍ{[53150]} بإضافة الموصوف إلى صفته على التأويل المشهور{[53151]} .
اعلم أنه تعالى بين أسباب التنعيم على الترتيب ، فأول ما يكون المَسْكَن وهو الجَنّات ثم الأكل والشرب ، ثم الفرش والبسط ثم الأزواج ، فهذه أمور أربعة ذكرها الله على الترتيب ، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله ، فقوله : «جَنّات » إشارة إلى المسكن وقال : «فاكهين » إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله ، وقال : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم ، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما ، وقوله : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ{[53152]} .
فإن قيل : قال في حقّ الكفار : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وقال في حق المؤمنين : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } فما الفرق بينهما ؟ .
الأول : أن كلمة «إنَّما » للحصر ، أي لا يجزون إلا ذلك ، ولم يذكر هذا في حق المؤمن ، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ ، ويَزِيدُهُ من فضله .
الثاني : قال هنا : «بِمَا كُنْتُمْ » وقال هناك : { مَا كُنتُمْ } [ النمل : 90 ] أي تجزون عن أعمالكم . وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة ، كأنه يقول : هذا عينُ ما عملت . وقوله في حق المؤمن : بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا .
الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك ، وقال هنا : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع ، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر .
فإن قيل : فاللَّه تعالى قال في موضع آخر : { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ المرسلات : 43 ] في الثواب .
فالجواب : أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع . وأما في السرر فذكر أموراً :
أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه . وجمع السرر لأَمْرَيْنِ :
أظهرهما : أن يكون لكل واحد سُرَرٌ ؛ لأنه قوله : «مَصْفُوفة » يدل على أنه لواحدٍ ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة ، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور ، بخلاف التَّخْتِ وغيره ، وقوله : «مَصْفُوفَة » أي منتظمة بعضُها{[53153]} إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع . وقول تعالى : { وَزَوَّجْنَاهُم } إِشارة إلى النِّعمة الرابعة ، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه :
الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء .
الثاني : قال : «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور » ولم يقل : وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف ، تقول زَوَّجْتُكَهَا ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } [ الأحزاب : 37 ] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم ، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم .
الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن ، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ{[53154]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.