قوله : { والذين آمَنُواْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة من قوله : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء ، وعلى الأبناء ، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً . وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر ، قال أبو البقاء على تقدير : وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا{[53155]} . قال شهاب الدين : فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال ، وأن قوله : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه ، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء{[53156]} .
الثالث : قال ابن الخطيب : إنه معطوف على : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } ثم قال : فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ «الذين آمنوا » وكان المقصود يحصل بقوله تعالى : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } بعد قوله { وَزَوَّجْنَاهُم } كان يصير التقديرُ : وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم ؟ نقول : فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فقال ههنا : الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة ، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد ، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب ، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه ، وذلك إشارة إلى الجزاء{[53157]} .
وذكر الزمخشري أنه مجرورٌ عطفاً على «حُورٍ عينٍ » قال الزمخشري : «وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على «حُورٍ عينٍ » أي قَرَنَّاهُمْ بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم كقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] فيتمتعون تارة بمُلاَعَبَةِ الحور ، وتارةً بمُؤَانَسَةِ الإِخْوَان{[53158]} .
ثم قال الزمخشري : ثم قال : «بإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ » أي بسبب إيمان عظيمٍ رفيعِ المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجتهم ذُرِّيَّتَهُم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلاً عليهم{[53159]} .
قال أبو حيان : ولا يتخيل أحد أن «وَالَّذِينَ آمَنُوا » معطوف على «بحُورٍ عِينٍ » غير هذا الرجل . وهو تخيُّلٌ أعجميّ ، مخالف لفهم العربي القُحِّ ابن عباس وغيره{[53160]} .
قال شهاب الدين : أما ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شك في حُسْنِهِ ونضارته ، وليس في كلام العربي القُحِّ ما يدفعه بل لو عرض على ابن عباس وغيره لأعجبهم ، وأيُّ مانع مَعْنَويٍّ أو صناعيٍّ يمنعه{[53161]} ؟ ! .
قوله : «وَأَتْبَعْنَاهُمْ » يجوز أن يكون عطفاً على الصلة ، ويكون «والذين آمنوا »{[53162]} مبتدأ ويتعلق «بإيمان » بالاتِّباع{[53163]} ، بمعنى أن الله تعالى يلحق الأولاد الصّغار وإن لم يبلغوا الإيمان بأحكام الآباء المؤمنين . وهذا المعنى منقول عن ابن عباس والضَّحَّاك{[53164]} . ويجوز أن يكون معترضاً بين المبتدأ والخبر . قال الزمخشري{[53165]} ويجوز أن يتعلق «بإِيمَانٍ » ب «أَلْحَقْنَا » كما تقدم{[53166]} .
فإن قيل : قوله : أتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ يفيد فائدة قوله : «ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ » .
فالجواب : أن قوله : «أَلْحَقْنا بِهِمْ » أي في الدرجات والاتّباع إنما هو في حكم الإِيمان وإن لم يبلغوه كما تقدم{[53167]} .
وقرأ أبو عمرو : «وأتْبَعْنَاهُمْ » بإِسناد الفعل إلى المتكلم نفسه . والباقون واتَّبَعَتْهُمْ بإسناد الفعل إلى الذرية وإِلحاق تاء التأنيث{[53168]} . وقد تقدم الخلاف في إِفراد ذرياتهم وجَمْعِهِ في سورة الأَعْرَافِ{[53169]} .
اختلفوا في معنى الآية ، فقيل معناها : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان يعني أولادهم الصغار والكبار فالكبار بإيمانهم بأنفسهم ، والصغار بإيمان آبائهم ، فإن الولد الصغير يُحْكَمُ بإسلامه تبعاً لأحد الأبوين .
وقوله : أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ ، أي المؤمنين في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم تَكْرمَةً لآبائهم ، لِتَقَرَّ بذلك أعينهم . وهي روايةُ سعيدِ بن جبير عن ابنِ عباس . وقيل : معناه { والَّذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم } البالغون { بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } الصِّغار الذين لم يبلغوا الإِيمان بإيمان آبائهم . وهو قول الضَّحَّاك في رواية{[53170]} العوفيّ عن ابن عباس . أخبر الله عز وجل أنه يَجْمَعُ لعبده ذُرّيته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أيديهم من غير أن يَنْقُصَ الآباء من أعمالهم شيئاً فذلك قوله : { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } .
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : «سألت خديجة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هما في النار ، فلما رأى الكراهية في وجهها قال : لَوْ رأيتِ مكانَهما لأَبْغَضْتِهِمَا . قالت يا رسول الله : فولدي منك قال : في الجنة . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إِنَّ المُؤْمِنِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي الجَنَّةِ وإِنَّ المُشْرِكِينَ وَأَوْلاَدَهُمْ فِي النَّارِ » ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإيمَانٍ ألْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ »{[53171]} .
قوله : «وَمَا أَلَتْنَاهُم » قرأ ابن كثير ألِتْنَاهُمْ بِكَسْرِ{[53172]} اللام . والباقون بفتحها{[53173]} .
فأما الأُولى فمن أَلِتَ يَأْلَتُ بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارغ كَعِلمَ يَعْلَمُ . وأما الثانية : فيحتمل أن تكون من أَلَتَ يَأْلِتُ كَضَرب يَضْرِبُ ، وأن يكون من أَلاَتَ يُلِيتُ كَأَمَاتَ يُمِيتُ فألَتْنَاهُمْ كأَمَتْنَاهُمْ .
وقرأ ابْنُ هُرْمُزَ آلَتْنَاهُمْ{[53174]} - بألف بعد الهمزة - على وزن أفْعَلْنَاهُمْ ، يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبيّ والأعْمش وطلحةُ - وتُرْوى{[53175]} عن ابن كثيرٍ - لِتْنَاهُمْ بكسر اللام{[53176]} .
قال سهل{[53177]} : لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال ، ولذلك أنكر آلَتْنَاهُمْ بالمد وقال : لا يدل عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ .
وليس كما زَعَمَ ، بل نقلَ أهلُ اللغةِ آلَتَ يُؤْلِتُ .
وقرئ : - ولَتْنَاهُمْ - بالواو - كَوعَدْنَاهُمْ نقلها هارُون{[53178]} . قال ابن خَالَوَيْهِ : فيكون هذا الحرف من لاَتَ يَلِيتُ ووَلَتَ يَلِيت{[53179]} وأَلِتَ يأْلَتُ وأَلَت يأْلِتُ{[53180]} وأَلاَتَ يُلِيتُ ، وكلها بِمَعْنَى نَقَصَ .
ويقال : ألت بمعنى غلَّظَ وقام رجل إلى ( أمير المؤمنين ) عُمَرَ يَعِظُهُ فقال له رجل : لاَ تَأْلِتْ أَمِيرَ المؤمنين ، أي لا تُغَلِّظْ عليه{[53181]} .
قال شهابُ الدِّين : ويجوز أن يكون هذا الأثر على حاله والمعنى لا تَنْقُصْ أمير المؤمنين حقه ؛ لأنه إذا أغلظ القول نقصه حقه .
وفي الضمير في «أَلَتْنَاهُمْ » وَجْهَانِ :
أظهرهما : أنه عائد على «المؤمنين »{[53182]} .
الثاني : أنه عائد على «أَلَتْنَاهُم » . قيل : ويقويه قوله تعالى : { كُلُّ امرئٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ }{[53183]} .
قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } من شيء مفعول ثان ل «ألتْنَاهُمْ » و «مِنْ » مزيدة ؛ والأولى في محل نصب على الحال مِنْ ( شَيْءٍ ) ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له ، فلما قدمت نصبت حالاً . وجوز أبو البقاء أن يتعلق بِأَلَتْنَاهُمْ{[53184]} .
في قوله : «وَمَا أَلَتْنَاهُمْ » تطييب لقلبهم ، وإزالة وَهَم المتَوهِّم أن ثواب عمل الأب يوزع على الوَالِدِ والوَلَدِ بل للوالد أجْر عَمَلِهِ ، ولأولاده مثل ذلك فضلاً من الله ورحمة . وقال : «مِنْ عملهم » ولم يقل : من أجرهم لأن قوله : وما ألتناهم من عملهم دليل على بقاء عملهم كما كان ، والأجر على العمل مع الزيادة فيكون فيه إشارة إلى بقاء العمل الذي له الأجر الكبير الزائد عليه العظيم العائد إِليه ، ولو قال : وَمَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم لكان ذلك حاصلاً بأدنى شيء ، لأن كل ما يعطي الله عبده على عمله فهو أجر كامل ، ولأنه لو قال : مَا أَلَتْنَاهُمْ من أجرهم كان مع ذلك يحتمل أن يقال : إن الله تعالى يفضل عليه بالأجر الكامل على العمل الناقص ، وأعطاه الأجر الجزيل مع أن عمله كان له ولولده جميعاً{[53185]} .
فإِن قيل : ما الفائدة في تنكير الإيمان في قوله : «وَأَتْبَعْنَاهُمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ بإِيمانٍ ألحقنا » ؟ .
فالجواب : ( هو ){[53186]} إما للتحقير أو للتكثير كأنه يقول أتبعناهم ذرياتهم بإِيمان مخلصٍ كاملٍ . أو نقول : أتبعناهم بإيمان ما أي شيء منه ، فإِن الإِيمانَ كاملاً لا يوجد في الولد ، بدليل أنَّ من آمنَ له ولدٌ صغيرٌ حكم بإِيمانه ، فإِذا بلغ وصرح بالكفر وأنكر التَّبَعِيَّة{[53187]} قيل : بأنه لا يكون مرتداً وتبيين بقوله أنه لم يُتْبَعْ . وقيل : بأنه يكون مرتداً ؛ لأنه كفر بعدما حكم بإِيمانه كولد المسلم الأصلي . فإِذن تبين بهذا الخلاف أنَّ إيمانَه ليس بقويٍّ . ذكر هذين الوجهين الزمخشري{[53188]} .
ويحتمل أن يكون المراد أن يكون التنوينُ للتعويض عن المضاف إِليه كقوله تعالى : { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ } [ الإسراء : 88 ] و[ الزخرف : 67 ] { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] لأن التقدير : أتبعناهم ذرياتهم بإيمان أي بسبب إيمانهم لأن الإِتباع ليس بإيمانٍ كَيْفَ كان وممَّنْ كَانَ وإِنما هو إِيمان الآباء ، لكن الإِضافة تُنْبِئُ عن تَقْييد ، وعدم كون الإِيمان إيماناً على الإِطلاق ، فإن قول القائل : ماءُ الشجر وماءُ الرمان فيصحّ ، وإطلاق اسم «ماء » من غير إضافة لا يصح ، فقوله : «بإيمانهم » يوهم أنه إيمان مضافٌ إليهم كقوله تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] حيث أثبت الإِيمان المضاف فلم يكن إيماناً فقطع{[53189]} الإِضافة مع ردتها ليعلم أنه إيمان صحيحٌ وعوض التنوين ليعلم أنه مضاف لا يوجب الإيمان{[53190]} في الدنيا إلا إيمان الآباء . قال ابن الخطيب : وهَذا وجهٌ حَسَنٌ{[53191]} .
قوله : { كُلُّ امرئ بِمَا كَسَبَ رَهينٌ } قال مقاتل : كل امرئ كافر بما عمل من الشرك فهو مرتهن في النار والمؤمن لا يكون مرتهناً لقوله تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } [ المدثر : 38 - 39 ] . قال الواحدي : هذا يعود إلى ذكر أهل النار . وهُو قولُ مُجَاهِدٍ أيْضاً{[53192]} .
وقال الزمخشري : هذا عام في كل واحد أنه يكون مرهوناً عند الله بالكسب فإن كَسَبَ خيراً فك رقبته وإلا أغلق{[53193]} الرهن .
قال ابن الخطيب : وفيه وجه آخر وهو أن يكون الرهينُ فَعِيلاً بمعنى الفاعل فيكون المعنى : كل امرئ بما كسب راهن أي دائم إن أحسن ففي الجنة مؤبداً ، وإن أساء ففي النار مخلداً ؛ لأن في الدنيا دوام الأعمال بدوام الأعيان فإن العَرَض لا يبقى إلا في جوهر فلا يوجد إلا فيه ، وفي الآخرة دوام الأعيان بدوام الأعمال فإن الله يبقي أعمالهم لكونها عند الله تعالى من الباقيات الصالحات ، وما عند الله باقٍ والباقي يبقى مع عمله{[53194]} .