اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ} (3)

قوله : { الذين يُظَاهِرُونَ } تقدم الخلاف في «تُظَاهرون » في سورة «الأحزاب »{[55579]} ، وكذا في { اللائي } [ الأحزاب : 4 ] .

وقرأ أبيّ هنا{[55580]} : «يَتَظَاهرون » .

وعنه أيضاً : «يتظهرون » .

وفي «الذين » وجهان{[55581]} :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره : قوله { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } .

الثاني : أنه منصوب ب «بصير » على مذهب سيبويه في جواز إعمال «فعيل » قاله مكي{[55582]} .

يعني : أن سيبويه يعمل «فعيلاً » من أمثلة المبالغةِ ، وهو مذهب مطعُون فيه على سيبويه ؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر : [ البسيط ]

حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ *** بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلَ لَمْ يَنَمِ{[55583]}

ورد عليه بأن «موهناً » ظرف زمان ، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال ، والمعنى : يأتي «ما » قاله مكي .

وقرأ العامة : «أمَّهاتِهِمْ » بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى ، كقوله { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] .

وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية{[55584]} ، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف ، وقرأ عبد الله{[55585]} : «بأمَّهاتهم » بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين .

وقال الزمخشري{[55586]} : «وزيادة الباء في لغة من يَنْصِبُ » .

قال شهاب الدين{[55587]} : هذا هو مذهب أبي عليّ ، يرى أن «الباء » لا تزاد إلا إذا كانت عاملة ، فلا تزاد في التميمية ، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع ، نحو : «ما إن زيد بقَائمٍ » ، وهذا مردُود بقول الفرزدق وهو تميمي : [ الطويل ]

لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتَارِكِ حَقِّهِ *** ولا مُنْسِئٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ{[55588]}

وبقول الآخر : [ المتقارب ]

لَعَمْرُكَ مَا إنْ أبُو مالكٍ *** بِوَاهٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاه{[55589]}

فزادها مع «ما » الواقع بعدها «إن » .

فصل في التعبير بلفظ الظهار

ذكر الظَّهْر كناية عن معنى الركوب ، والآدمية إنما يُرْكَب بطنُها ، ولكن كنَّى عنه بالظَّهر ؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنَّى بالظهر عن الركوب ، ويقال : نزل عن امرأته أي : طلقها كأنه نزل عن مركُوبه ، ومعنى : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، أي : أنت عليَّ محرمة لا يحلّ لي ركوبك نقله القرطبي{[55590]} .

ونقل ابن الخطيب{[55591]} عن صاحب «النظم » : أنه ليس مأخوذاً من الظَّهر الذي هو عضو من الجسد ؛ لأنه ليس الظَّهر بأولى بالذكر في هذا الوضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعةِ والتلذُّذ ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العُلوّ ، ومنه قوله تعالى : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] أي : يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره ؛ لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن ناحية الظَّهر ، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له .

ويدلُّ على صحة هذا المعنى ما نقل عن العرب أنهم يقولون في الطلاق : نزلت عن امرأتي ، أي : طلقتها ، وفي قولهم : أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار ؛ لأن تقديره : ظهرك عليّ ، أي ملكي إياك ، وعلوي عليك حرام كما عُلوي على أمي وملكها عليّ .

فصل في حقيقة الظهار{[55592]}

حقيقة الظهار : تشبيه ظهر بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظَهْر محلّل بظهر محرم ، ولهذا أجمع الفقهاء على أنَّ من قال لزوجته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، أنه مظاهر .

وقال أكثرهم ، إذا قال لها : أنت عليّ كظهرِ ابنتي ، أو أختي ، أو من تحرم عليه على التأبيد من ذوات المحارم أنه مظاهر .

فصل في ألفاظ الظهار{[55593]}

وألفاظ الظِّهار : صريح وكناية :

فالصريح : أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي ، وأنت منّي ، وأنت معي كظهر أمي ، وكذلك أنت عليَّ كبطن أمي ، أو كرأسها أو فرجها ونحوه ، وكذلك فرجك ، أو رأسك ، أو ظهرك ، أو بطنك ، أو رجلك عليَّ كظهر أمي ، فهو مظاهر مثل قوله : يدك ، أو رجلك ، أو رأسك ، أو فرجك طالق تطلق عليه ، ومتى شبهها بأمّه ، أو بإحدى جداته من قبل أبيه ، أو أمه فهو ظهار بلا خلاف{[55594]} ، وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالبنت ، والأخت ، والعمة ، والخالة كان مظاهراً عند أكثر الفقهاء .

والكناية : أن يقول : أنت عليَّ كأمي ، أو مثل أمي ، فإنه يعتبر فيه النية ، فإن أراد الظهار كان ظهاراً ، وإن لم ينو الظهار لم يكن مظاهراً على خلاف في ذلك ، فإن شبه امرأته بأجنبيّة ، فإن ذكر الظهر كان ظهاراً ، وإن لم يذكر الظهر ، فقيل : يكون ظهاراً .

وقيل : طلاقاً .

وقال : أبو حنيفة والشافعي : لا يكون شيئاً .

وقيل : وهذا فاسد ؛ لأنه شبّه محللاً من المرأة بمحرم ، فأشبه الظهر . نقله القرطبي .

فإن قال : أنت عليَّ حرام كظهر أمي ، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً ؛ لأن قوله : أنت عليَّ حرام يحتمل التحريم بالطلاق ، فيكون طلقة ، ويحتمل التحريم بالظِّهار ، فلما صرح به كان تفسيراً لأحد الاحتمالين ، فقضي به فيه .

فصل

والظِّهار لازم في كلّ زوجة مدخول بها ، أو غير مدخُول بها من كل زوج يجوز طلاقه{[55595]} .

وقال مالك : يجوز الظِّهار من كل من يجوز له وطؤها من إمائِهِ إذا ظاهر منهن لزمه الظِّهارُ فيهن ، وقال غيره : لا يلزم .

قال ابن العربي{[55596]} : وهي مسألة عسيرةٌ جدًّا ؛ لأن مالكاً يقول : إذا قال لأمته : أنت عليَّ حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم ، وتصح كنايته .

قوله : { مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } نعتان لمصدر محذوف أي قولاً منكراً وزوراً أي : كذباً وبهتاناً .

قاله مكي . وفيه نظر{[55597]} ؛ إذ يصير التقدير : ليقولون قولاً منكراً من القولِ ، فيصير قوله : «مِنَ القَوْلِ » لا فائدة فيه ، والأولى أن يقال : نعتان لمفعول محذوف ، لفهم المعنى ، أي : ليقولن شيئاً منكراً من القول لتفيد الصفة غير ما أفاده الموصوف .

والمنكر من القول : ما لا يعرف في الشَّرْع ، والزور : الكذب .

{ وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } إذ جعل الكفارة عليهم مُخلصةً لهُمْ من هذا القَوْل المنكر{[55598]} .

وقيل : «لعفو غفور » إما من قبل التوبة لمن يشاء ، كما قال تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَاءُ } [ النساء : 116 ] .

أو بعد التوبة{[55599]} .

فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنْتِ عليَّ كظهرِ أمِّي ، فشبه بأمه ، ولم يقل : إنها أمه ، فما معنى أنه جعله منكراً من القوْلِ وزوراً . والزُّور : الكذب ، وهذا ليس بكذب ؟ .

فالجواب{[55600]} : أنَّ قوله إنْ كان خبراً فهو كذب ، وإنْ كَانَ إنشاء فكذلك ؛ لأنه جعله سبباً للتَّحريم ، والشَّرْع لم يجعله سبباً لذلك .

وأيضاً فإنما وصف بذلك ، لأن الأم مؤبدة التحريم ، والزَّوْجة لا يتأبّد تحريمها بالظِّهار ، وهذا ضعيف ؛ لأنَّ المشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به من كُلِّ وجهٍ .

فإن قيل : قوله : { إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } يقتضي أن لا أم إلا الوالدة ، وهذا مشكل لقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [ النساء : 23 ] .

وقوله تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] .

والحمل على حرمة النكاح لا يفيد ؛ إذْ لا يلزمُ مِنْ عدم كوْنِ الزَّوجة أمًّا عدمُ الحُرمةِ ، فظاهر الآية الاستدلال بعدم الأمومة على عدم الحرمة ؟ .

فالجواب{[55601]} : أنا نقول : هذه الزَّوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة ، ولم يرد الشرع بجعل هذه اللفظة سبباً للحرمةِ ، فإذن لا تحصل الحرمة هناك ألبتّة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً .

قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ } مبتدأ .

وقوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مبتدأ ثان وخبره مقدم ، أي : فعليهم ، أو فاعل بفعل مقدر ، أي : فيلزمهم تحرير ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فالواجب عليهم تحرير{[55602]} .

فصل

ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك ، ولا يلزم عند غيره{[55603]} لقوله تعالى : { مِن نِسَائِهِم } .

وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه . وقال مالك : لا يلزم ظهاره ؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصِّيام ، وهذا منقوض بظهار العبد ، وهو لا يكفر بالعتقِ والإطعام .

فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها

لا يصح ظهار المرأة من زوجها ، وعليها كفَّارة يمين ، إنما الظهار على الرجال ؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيدِ الرجال ليس بيد المرأة منه شيء .

وقال الحسن بن زياد : هي مظاهرة .

وقال الزهري : أرى أن تكفر كفَّارة الظهار .

وقال محمد بن الحسن : لا شيء عليها .

فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر

وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظِّهار ، للحديث ، ويصح ظهار السكران وطلاقه ، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفَّارة واحدة ، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفَّارة ظهار ، وإذا قال لأربع نسوة : إن تزوجتكنّ فأنتن عليَّ كظهرِ أمي ، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفِّر ، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن .

وقيل : لا يَطَأُ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته : أنت عليَّ كظهرِ أمي ، وأنت طالق ألبتة ، لزمه الطلاق والظِّهار معاً ، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر ، فإن قال لها : أنت طالق ألبتَّة ، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطَّلاق ، ولم يلزمه الظِّهار ؛ لأن المبتُوتةَ لا يلحقها طلاق ولا ظهار{[55604]} ، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال : أنت اليوم عليَّ كظهرِ أمي فإنَّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم .

وقال مالك : يتأبّد .

قوله : «منكم » توبيخ للعرب ، وتهجين لعادتهم{[55605]} في الظِّهار ؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة ، دون سائر الأمم .

وقوله : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } [ المجادلة : 2 ] أي : ما نساؤهم بأمهاتهم ، { إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] أي إلا الوالدات .

وعلى التقادير الثلاثة ، فالجملة خبر المبتدأ ، ودخلت «الفاء » لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط .

قوله : { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } . في هذه «اللام » أوجه :

أحدها : أنها متعلقة ب «يعودون » .

وفيه معان :

أحدها : والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية ، ثمَّ يعودون لمثله في الإسلام .

الثاني : ثم يتداركون ما قالوا ؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه ، ومنه : «عَادَ غَيْثٌ عَلَى ما أفْسَدَ » أي تداركه بالإصلاح ، والمعنى : أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظِّهار .

الثالث : أن يراد بما قالوا ما حرَّموه على أنفسهم بلفظ الظِّهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ }{[55606]} ، والمعنى : ثم يريد العود للتَّماسِّ . قاله الزمخشري{[55607]} .

وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك ، والحسن ، والزهري : ثم يعودون للوطءِ ، أي : يعودون لما قالوا : إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهر ثُمَّ وطئ لزمتِ الكفَّارة عند هؤلاء .

الرابع : «لما قالوا » ، أي : يقولونه ثانياً ، فلو قال : أنت عليَّ كظهرِ أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة ؛ لأنه لم يَعُدْ لما قال ، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ ، وأبي حنيفة ، وأبي العالية ، والفراء في آخرين ، وهو مذهب أهل الظَّاهر .

قال ابن العربي{[55608]} : وهذا القول باطل قطعاً ؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت ، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، والمعنى أيضاً ينقضه ؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه مُنْكَر من القول وزور ، فكيف يقال : إذا أعدت القول المحرّم ، والسَّبب المحظور وجبت عليك الكفَّارة ، وهذا لا يعقل ألا ترى أنَّ كل سبب يوجب الكفَّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتلٍ ووطءٍ في صوم ؟ .

الخامس : أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظِّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه ، فهذا هو العودُ لما قال ، وهو مذهب الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة أيضاً .

وقال : العود هنا ليس بتكرير القول ، بل بمعنى العزم على الوطء .

قال القرطبي{[55609]} : وهذا ينتقض بثلاثة أمور :

أحدها : أنه قال : «ثُمَّ » وهي للتراخي .

الثاني : قوله : «ثم يعُودُون » يقتضي وجود فعل من جهته ، ومرور الزمان ليس بفعل منه .

الثالث : أن الطلاق الرَّجْعِي لا ينافي البقاء على الملك ، فلم يسقط حكم الظِّهار كالإيلاء .

وقال مكي{[55610]} : «واللام متعلقة ب «يَعُودُون » أي : يعودون لوطءِ المقول فيه الظهار ، وهن الأزواج ف «ما » والفعل مصدر ، أي : لقولهم ، والمصدر في موضع المفعول به ، نحو : «هذا دِرْهم ضرب الأمير » أي : مضروبه ، فيصير المعنى ، كقولهم للمقول فيه الظِّهار ، أي : لوطئه » .

وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن ، والزهري ، ومالك إلاَّ أن مكيًّا قيد ذلك بكون «ما » مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول ، وفيه نظر ؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت «ما » غير مصدرية لكونها بمعنى «الذي » ونكرة موصوفة ، بل جعلها غير مصدرية أولى ؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح ، إذ الصريح أصل للمؤول به ، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل ، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين : بالمصدر المؤول ، ثم وقوعه موقع اسم المفعول ، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصَّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه .

لا يقال : إن جعلها غير مصدرية يحوجُ إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى ، أي : يعودون لوطء الذي ظاهر منها ، أو امرأة ظاهر منها ، أو يعودون لإمساكها .

والأصل : عدم الحذف ؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بد من تقدير مضاف ، أي : يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار ، ويدل على جواز كون «ما » في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال{[55611]} : يتعلق ب «يعودون » بمعنى يعودون للقول فيه ، هذا إن جعلت «ما » مصدرية ، ويجوز أن تجعلها بمعنى «الذي » ونكرة موصوفة .

الثاني : أن «اللام » تتعلق ب «تحرير » ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : والذين يُظَاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظِّهار ، ثم يعودون للوطء بعد ذلك . وهذا ما نقله مكي وغيره عن الأخفش .

قال أبو حيَّان{[55612]} : «وليس بشيء ؛ لأنه يفسد نظم الآية » .

وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير ، ولكن نسلم أن ادِّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه ؛ لأنه خلاف الأصل .

الثالث : أن «اللام » بمعنى «إلى » ، و«اللام » و«إلى » يتعاقبان ، قال تعالى : { هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] ، وقال : { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] وقال : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ } [ هود : 36 ] قاله الأخفش .

الرابع : أنها بمعنى «في » ، نقلها أبو البقاء ، ومع ذلك فهي متعلقة ب «يعودون » .

الخامس : أنها متعلقة ب «يقولون » .

[ قال مكي{[55613]} : وقال قتادة : ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه{[55614]} ، فاللام على هذا تتعلق ب «يقولون » ]{[55615]} .

قال شهاب الدين{[55616]} : «ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فهم تعلقها ب «يقولون » على تفسير قتادة ، بل تفسير قتادة نص في تعلقها ب «يعودون » ، وليس لتعلقها ب «يقولون » وجه » .

ونقل القرطبي{[55617]} عن الفرَّاء قال : اللام بمعنى «عن » والمعنى : ثم يرجعون عما قالوا ، ويريدون الوطء .

وقال أبو مسلم{[55618]} : العود هو أن يحلف أولاً على ما قال من لفظ الظهار ، فلو لم يَحْلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول : هو عليَّ حرام كَلَحْمِ الآدمي فلا كفَّارة عليه ، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين .

وهذا ضعيف ؛ لأن الكفَّارة قد تجب بالجماعِ في الحجّ ، وفي رمضان ، وفي قتل الخطأ ، ولا يمين هناك .

قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : فعلية إعتاق رقبةٍ{[55619]} ، يقال : حرَّرته ، أي : جعلته حرًّا ، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب ، ومن كمالها إسلامها كالرَّقبة في كفَّارة القتل ، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه .

وقال الشافعي : يجزيه لأنَّ النِّصفين في معنى العبد الواحد ؛ ولأن الكفَّارة في العتقِ طريقها المال ، فجاز أن يدخلها التَّبعيض كالإطعام ، ودليل الأول قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس رقبة ؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها ، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين ، كذا ها هنا .

وروي عن أحمد - رضي الله عنه - إن كان باقيهما حراً صح وأجزأ ، وإلاَّ فلا ؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيْكٌ فإنْ أعْتِقَ مُكَاتبٌ عَنِ الكفَّارةِ لَمْ يَجْزِهِ »{[55620]} .

وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً أجزأه ، وإن أعتق بعد أن أدى شيئاً لم يجزه ، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق ، ولم يُجْزه عن الكفارة .

قوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا } ، أي : من قبل أن يجامعها ، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التَّكفير عصى ، ولا يسقط عنه التكفير{[55621]} .

وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفَّارة أخرى{[55622]} ، وعن غيره أن الكفَّارة الواجبة بالظِّهار تسقط عنه ، ولا يلزمه شيء أصلاً ؛ لأن الله - تعالى - أوجب الكفَّارة ، وأمر بها قبل المسيسِ ، فإذا أخَّرها حتى مسَّ فقد فات وقتُها ، والصحيح ثبوت الكفَّارة ؛ لأنه بوطئه ارتكب إثماً ، وذلك ليس بمسقط للكفَّارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخَّر الصلاة عن وقتها ، وسواء كانت الكفَّارة بالعِتْقِ ، أو الصوم ، أو الإطعام .

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذُّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء .

فصل فيمن ظاهر من امرأته مراراً

إذا ظاهر مراراً من امرأته ولم يُكفر ، فكفَّارة واحدة إلا أن يكون قد كفَّر عن الأول ، فعليه للثاني كفَّارة .

قال : وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفِّر ، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه ، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع .

قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظِّهار وحدها ؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة ، وامتناع من إيفاء حقّها{[55623]} .

قوله تعالى : { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي : تؤمرون به .

{ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } من التَّكفير وغيره .


[55579]:سورة الأحزاب آية (4).
[55580]:ينظر: المحرر الوجيز 5/273، والدر المصون 6/284، والقرطبي 17/177.
[55581]:الدر المصون 6/284.
[55582]:ينظر: المشكل 2/721.
[55583]:قال البيت هو ساعدة بن جؤية الهذلي. ينظر خزانة الأدب 8/155، 158، و164، وشرح أشعار الهذليين 3/1129، وشرح المفصل 6/72، 73، والكتاب 1/114، والمنصف 3/76، والمقتضب 2/115، والمقرب 1/128، واللسان (عمل)، و(شأى)، و(أنق) رصف المباني 3/76، حاشية يس 2/68، ومغني اللبيب ص 435، والإيضاح الشعري للفارسي ص 503، والدر المصون 6/284.
[55584]:ينظر: السبعة 628، والحجة 6/277، وإعراب القراءات 2/354، والمحرر الوجيز 5/273، والدر المصون 6/385، وقال القرطبي 17/181: "وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما بالرفع على لغة تميم".
[55585]:ينظر: المحرر الوجيز 5/273، والبحر المحيط 8/231، والدر المصون 6/285.
[55586]:الكشاف 4/485.
[55587]:الدر المصون 6/285.
[55588]:تقدم.
[55589]:قائله هو المتنخل الهذلي، ونسب لذي الإصبع العدواني برواية: وما إن أسيد أبو مالك *** بوان ولا بضعيف قواه ينظر ديوان الهذليين 2/29، وأمالي المرتضى 1/306، والخزانة 2/33، والهمع 1/127، والدرر 1/300، والأشموني 1/252، والأغاني 23/265، وشرح أشعار الهذليين 3/1276، والشعر والشعراء 2/664، وجواهر الأدب ص 53، والدر المصون 6/285.
[55590]:الجامع لأحكام القرآن 17/177.
[55591]:الفخر الرازي: 29/218، 219.
[55592]:ينظر: القرطبي 17/177.
[55593]:ينظر القرطبي 17/178.
[55594]:في أ: طلاق.
[55595]:ينظر: القرطبي 17/179.
[55596]:ينظر: أحكام القرآن 4/1751.
[55597]:الدر المصون 6/285.
[55598]:ينظر: القرطبي 17/181.
[55599]:ينظر: الفخر الرازي 29/222.
[55600]:ينظر: السابق.
[55601]:السابق.
[55602]:الدر المصون 6/285.
[55603]:الجامع لأحكام القرآن 17/179.
[55604]:ينظر: القرطبي (17/179، 180).
[55605]:الفخر الرازي 29/221.
[55606]:الآية 8 من سورة مريم.
[55607]:الكشاف 4/487.
[55608]:ينظر: أحكام القرآن 4/1753.
[55609]:الجامع لأحكام القرآن 17/182.
[55610]:ينظر المشكل 2/721.
[55611]:ينظر: التبيان ص 1212، والدر المصون 6/286.
[55612]:البحر المحيط 8/232.
[55613]:ينظر: المشكل 2/722.
[55614]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/305).
[55615]:سقط من أ.
[55616]:الدر المصون 6/287.
[55617]:الجامع لأحكام القرآن 17/183.
[55618]:ينظر: الفخر الرازي 29/225.
[55619]:ينظر: القرطبي 17/183.
[55620]:أخرجه أبو داود (3933)، وأحمد (5/74، 75)، والبيهقي (10/273)، من حديث أبي الوليد عن أبيه.
[55621]:ينظر: القرطبي 17/183، 184.
[55622]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/183).
[55623]:ينظر: الفخر الرازي 29/226.