اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِيدَ فِيهِ بَأۡسٞ شَدِيدٞ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَيۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٞ} (25)

قوله تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } .

يعني المعجزات البينة ، والشرائع الظاهرة .

وقيل{[55472]} : الإخلاص لله - تعالى - في العبادة .

{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } أي الكتب التي أوحينا إليهم فيها خبر من كان قبلهم .

«والمِيزَانَ » ، قال ابن زيد : هو ما يُوزَنُ به ، ويتعامل{[55473]} .

روي أن جبريل - عليه السلام - نزل بالميزان فدفعه إلى نوح - عليه الصلاة والسلام - وقال : مُرْ قَوْمكَ يَزِنُوا بِهِ ليقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ{[55474]} ، أي : بالعدل في معاملاتهم .

وقيل : أراد به العدل .

قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان وهو من باب : [ الرجز ]

عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً{[55475]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويدل على هذا قوله تعالى : { والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ] .

قوله : «مَعَهُمُ » حال مقدرة ، أي : صائراً معهم ، وإنما احتجنا إلى ذلك ؛ لأن الرسل لم ينزلوا ، ومقتضى الكلام أن يصحبوا الكتاب في النزول .

وأما الزمخشري فإنه فسّر الرسل بالملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء ، فالمعية متحققة .

قوله : { وَأَنزَلْنَا الحديد } .

روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنَّ اللَّهَ تعَالَى أنْزلَ أرْبَعَ بركاتٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ : الحَديْدَ والمَاءَ والنَّارَ والثَّلْجَ »{[55476]} .

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل ثلاثة أشياء مع آدم - عليه الصلاة والسلام - الحَجَر الأسود وكان أشد بياضاً من الثَّلج ، وعصا موسى ، وكانت من آسِ الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السَّنْدَان ، والكَلْبتَان ، والميْقَعَة ، وهي المِطْرقَة{[55477]} ذكره الماوردي .

وروى الثعلبي عن ابن عبَّاس قال : «نزل آدم من الجنَّة ، ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السَّندان ، والكلْبتَان ، والمِيْقعَة ، والمِطْرقَة والإبْرَة »{[55478]} .

وحكاه القشيري قال : والمِيْقعَة : [ ما يحدد به ، يقال : وقعت الحديدة أقعها ، أي حددتها .

وفي «الصحاح »{[55479]} ] :{[55480]} «المِيْقَعَة » الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصَّار التي يدقّ عليها ، والمِطْرقَة ، والمِسَنّ الطويل .

وروي أن الحديد أنزل يوم الثلاثاء .

{ فيه بأس شديدٌ } أي : لإهراق الدِّماء ، ولذلك نهي عن الفَصْد والحِجَامة يوم الثلاثاء ؛ لأنه يوم جرى فيه الدَّم .

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنَّ فِي يَوْمِ الثلاثاءِ ساعةً لا يُرَاقُ فِيْهَا الدَّمُ »{[55481]} .

وقيل : «أنزلنا الحديد » أي : أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأنعام } [ الزمر : 6 ] وهذا قول الحسن . فيكون من الأرض غير منزل من السماء .

وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن ، وعلمهم صنعته بوحيه .

وقوله : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } جملة حالة من «الحديد » ، والمراد بالحديد يعني : السلاج والجُنَّة .

وقيل : إن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً .

{ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قال مجاهد : يعني جُنَّة{[55482]} .

وقيل : انتفاع النَّاس بالماعون : الحديد كالسِّكين والفأس ونحوه .

قوله : { وَلِيَعْلَمَ الله } . عطف على قوله : { لِيَقُومَ الناس } ، أي : لقد أرسلنا رسلنا ، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس ، وليعلم الله .

وقال أبو حيان{[55483]} : علّة لإنزال الكتاب والميزان والحديد .

والأول أظهر ؛ لأن نصرة الله ورسوله مناسبة للإرسال .

قوله : «ورُسُلَهُ » عطف على مفعول «ينصره » ، أي : وينصر رسله .

قال أبو البقاء{[55484]} : ولا يجوز أن يكون معطوفاً على «من » لئلا يفصل به بين الجار ، وهو «بالغيب » ، وبين ما يتعلق به وهو «ينصر » .

قال شهاب الدين{[55485]} : وجعله العلة ما ذكره من الفصل بين الجار ، وبين ما يتعلق به يوهم أن معناه صحيح لولا هذا المانع ، وليس كذلك ؛ إذ يصير التقدير : وليعلم الله من ينصره بالغيب ، وليعلم رسله ، وهذا معنى لا يصح ألبتة ، فلا حاجة إلى ذكر ذلك ، و«بالغيب » حال وقد تقدم مثله أول «البقرة » .

فصل في معنى الآية{[55486]}

المعنى : وليعلم الله من ينصره ، أي : أنزل الحديد ليعلم من ينصره ، أو ليقوم الناس بالقسط ؛ أي : أرسلنا رسلنا .

{ وأنزلنا معهم الكتاب } وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق ، وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب ، أي : وهم لا يرونهم .

{ إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } قوي في أخذه عزيز أي : منيع غالب .

وقيل : بالغيب أي : بالإخلاص .

فصل في الرد على من قال بحدوث علم الله{[55487]}

احتج من قال بحدوث علم الله بقوله : «وليعلم الله » .

وأجيب : بأنه - تعالى - أراد بالعلم المعلوم ، فكأنه - تعالى - قال : ولتقع نُصْرة الرسول ممن ينصره .

فصل في الرد على الجبرية{[55488]}

قال الجبائي : قوله : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } يدل على أنه - تعالى - أنزل الميزان والحديد ، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط ، وأن ينصروا رسله ، وإذا أراد هذا من الكل بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك .

وأجيب : بأنه كيف يمكن أن يريد من الكُلِّ ذلك مع علمه بأن ضدّه موجود ، والجمع بين الضِّدين محال ، والمحال غير المراد .


[55472]:ينظر: القرطبي 17/168.
[55473]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/688).
[55474]:ذكره الرازي في "تفسيره" (29/210).
[55475]:تقدم.
[55476]:ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (4/480) وقال: أخرجه الثعلبي من حديث ابن عمر وفيه من لا أعرفه. وذكره أيضا المتقي الهندي في "كنز العمال" (15/419) رقم (41651) وعزاه إلى الديلمي في "مسند الفردوس" عن ابن عمر.
[55477]:ذكره الماوردي في "تفسيره" (5/483) والقرطبي في "تفسيره" (17/169).
[55478]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/169) وعزاه إلى الثعلبي عن ابن عباس.
[55479]:ينظر: الصحاح 3/1301.
[55480]:سقط من أ.
[55481]:ينظر: القرطبي في "تفسيره" (17/169) وعزاه إلى الثعلبي عن ابن عباس.
[55482]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (11/689) عن ابن مجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/258) وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد.
[55483]:البحر المحيط 8/225.
[55484]:الإملاء 2/1210.
[55485]:الدر المصون 6/280.
[55486]:ينظر: القرطبي 17/169.
[55487]:ينظر: الفخر الرازي 29/212.
[55488]:السابق.