سورة المجادلة [ مدنية ]{[1]} في قول الجميع إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأول منها مدني ، وباقيها مكي{[2]} .
وقال الكلبي : نزلت جميعها ب " المدينة " غير قوله تعالى : { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } ( المجادلة 7 ) نزلت ب " مكة " {[3]} .
وهي ثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفا .
قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية .
قال الزمخشري{[55564]} : «لأنه - عليه الصلاة والسلام - والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع اللَّه مجادلتهما وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما » .
وإظهار الدال عند السين قراءة الجماعة{[55565]} إلا أبا عمرو والأخوين .
ونقل عن الكسائي أنه قال : من بيَّن الدال عند السين فلسانه أعجمي ، وليس بعربي . وهذا غير معرج عليه{[55566]} .
و«في زوجها » في شأنه من ظهاره إياها .
فصل فيمن جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم{[55567]} التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة .
قال الماوردي{[55568]} : وليس هذا بمختلف ؛ لأن أحدهما : أبوها ، والآخر : جدها ، فنسبت إلى كل منهما .
وقيل : أمة لعبد الله بن أبي . وهي التي أنزل الله فيها : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] أي لا يكرهها على الزنا .
قال النحاس : وهذا ليس بمُتناقض ، يجوز مرَّة أن تنسب إلى أبيها ، ومرَّة إلى أمها ، ومرَّة إلى جدِّها ، ويجوز أن تكون أمةً كانت لعبد الله بن أبي ، فقيل لها : أنصارية بالولاء ؛ لأنه كان في عداد الأنصاريين وأنه كان من المنافقين . نقله القرطبي .
وقيل : اسمها جميلة ، وخولة أصح ، وزوجها أوسُ بن الصَّامت أخو عبادة بن الصَّامت .
وروي أن عمر بن الخطاب مرَّ بها في خلافته ، وهو على حمارٍ والناس معه ، فاستوقفته طويلاً ووعظته ، وقالت : يا عمرُ ، قد كنت تدعى عُمَيراً ثم قيل لك : عمر ، ثم قيل : أمير المؤمنين ، فاتَّقِ الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقفُ لهذه العجوز هذا الوقوف .
فقال : والله لو حَبَسَتْنِي من أول النهار إلى آخره لا زلت إلاَّ للصَّلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز ؟ هذه خولة بنت ثعلبة ، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر ؟ !{[55569]} .
وقالت عائشة : تبارك الذي وسِعَ سمعهُ كُلَّ شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكَلَ شَبَابي ، ونَثرْتُ له بطني حتَّى إذا كبرت سنّي ، وانقطع ولدي ظاهر منِّي ، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية{[55570]} .
«روي أنها كانت حسنة الجِسْمِ ، فرآها زوجها ساجدةً فنظر عجيزتها ، فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبَتْ فغضب عليها ، قال عروة : وكان امرأ به لممٌ فأصابه بعض لممهِ ، فقال لها : أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمِّي وكان الإيْلاء والظِّهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : «حَرُمْتِ عليْهِ » ، فقالت : والله ما ذكر طلاقاً ، وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «حَرُمْتِ عَليْهِ » ، فقالت : أشكو إلى الله فَاقتِي ووحْدتِي ، فقد طالت له صُحْبتي ونفَضَتْ له بَطْني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَا أرَاك إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ عليْهِ ولَمْ أومر فِي شأنِك بِشيءٍ » ، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله : «حَرُمْتِ عليْهِ » هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتِي وشدة حالي ، وإن لي صبيةً صغاراً إن ضَممتُهُمْ إليَّ جاعُوا ، وإن ضَممتُهُمْ إليه ضاعُوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهُم إني أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك ، وكان هذا أول ظهارٍ في الإسلام فأنزل الله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } الآية . فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها ، وقال : «مَا حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ » ؟ فقال : الشيطان ، فهل من رُخْصَة ؟ فقال : «نَعَمْ » ، وقرأ عليه الأربع آيات ، فقال : «هَلْ تَسْتطِيْعُ الصَّوْمَ » ؟ فقال : لا والله ، فقال : «هَلْ تَسْتطيعُ العِتْقَ » ؟ فقال : لا والله ، إني إن أخطأ في أن آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري وظننت أني أموت ، قال : «فأطْعِمْ ستِّيْنَ مِسْكيناً » ، فقال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعونٍ وصلةٍ ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسةَ عشر صاعاً ، وأخرج أوس من عنده مثله ، فتصدق به على ستين مسكيناً » .
فصل في اللمم الذي كان بأوس بن الصامت{[55571]}
قال أبو سليمان الخطَّابي{[55572]} : ليس المراد من قوله في هذا الخبر : وكان بن لَمَم الخبل والجنون ، إذ لو كان به ثُمَّ ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء ، بل معنى اللَّمَم هاهنا : الإلمام بالنساء وشدة الحِرْصِ والتَّوقَانِ إليهن .
فصل في الظهار{[55573]}
اعلم أن الظِّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية ؛ لأنه في التحريم أوكدُ ما يمكن ، فإن كان الحكم صار مقرّراً في الشرع كانت الآية ناسخة له ، وإلا لم يفد نسخاً ؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشَّرائع لا في عادة الجاهلية ، لكن الذي روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لها : «حَرُمْتِ » أوْ «مَا أَرَاكَ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ » كالدلالة على أنه كان شرعاً .
فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك .
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يَبْقَ له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المُهِمّ .
فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة{[55574]}
اعلم أنَّ الله - تعالى - حكى عن هذه المرأة أمرين :
أحدهما : المجادلة وهو قوله تعالى : { تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } أي : في شأن زوجها ، وتلك المجادلة هي أنه - عليه الصلاة والسلام - كلما قال لها : «حَرُمَتْ عَليْهِ » ، قالت : والله ما ذكر طلاقاً .
والثاني : شكواها إلى الله فَاقتَهَا ووحْدتهَا ، وقولها : إن لي صبية صغاراً .
قال القرطبي{[55575]} : الأصل في السماع إدراك المسمُوعات وهو اختيار أبي الحسن ، وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسمُوع .
وقال الحاكم أبو عبد الله : «السميع » هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه ، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذُن كالأصَم من النَّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت ، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة ، والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفاً بهما .
وقرئ{[55576]} : «تُحَاوِرُكَ » أي : تراجعك الكلام .
قوله : { وتشتكي إِلَى الله } يجوز فيه وجهان{[55577]} :
أظهرهما : أنه عطف على «تجادلك » فهي صلة أيضاً .
والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، أي : تجادلك شاكيةً حالها إلى الله .
وكذا الجملة من قوله : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما } والحالية فيها أبعد .
و«شكا » و«اشتكى » بمعنى واحد .
و«المُحَاورة » : المراجعة في الكلام ، حار الشيء يحُور حَوْراً ، أي : رجع يرجع رجوعاً .
ومنه : «نعوذ بالله من الحور بعد الكورِ » ، وكلمته فما أحار بكلمة ، أي : فما أجاب .
{ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } . أي : يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه{[55578]} .