لما بين حال من يتمسَّكُ بالصِّراط المسْتَقِيم ، بيَّن بعده حال من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك ؛ ليكون قِصَّة أهْل الجنَّة مُرْدَفَة بقِصَّة أهْل النَّارِ ، وليَكُون الوَعِيدُ مذْكُوراً بعد الوَعْدِ .
قوله : " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم " يَجُوز أن يَنْتَصب بفِعْل مقَدَّر ، فقدَّره أبو البقاءِ{[15183]} تارة ب " اذْكُرْ " وتارة بالقَوْلِ المَحْذُوف العَامِل في جُمْلَة النِّداءِ من قوله : " يَا مَعْشَر " أي : ويقُول : " يا مَعْشَر يَوْمَ نَحْشُرُهُم " ، وقدَّره الزَّمَخْشَرِي{[15184]} : " ويَوْمَ يَحْشُرُهم وقلنا يا معشر كان ما لا يُوصَفُ لفظَاعتِهِ " .
قال أبُو حيَّان{[15185]} : " وما قُلْنَاه أوْلَى " يعني : من كَوْنِهِ مَنْصُوباً ب " يَقُولُ " المحكي به جُمْلَة النِّداء ، قال : " لاسْتِلْزَامِه حذف جُمْلَتَيْن : إحْداهما جُمْلَة " وقُلْنَا " ، والأخْرى العَامِلة في الظَّرْف " وقدَّره الزَّجَّاج بفِعْل قَول مبْنِي للمفْعُول : " يقال لَهُم : يا مَعْشَر يَوْم نَحْشرهُم " وهو مَعْنًى حَسَن ؛ كأن نَظَر إلى مَعْنَى قوله : " ولا يُكَلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهم " فبَنَاه للمفْعُول ، ويجوز أن يَنْتَصب " يَوْمَ " بقوله : " وَلِيُّهُم " لما فِيهِ من مَعْنَى الفِعْل ، أي : " وهُوَ يتولاَّهُم بما كَانُوا يَعْمَلُون ، وويتولاَّهُم يوم يَحْشُرُهُم " ، و " جَمِيعاً " حَالٌ أو تَوْكِيدٌ على قَوْل بَعْض النَّحْويِّين .
وقرأ حفص{[15186]} : " يَحْشُرُهُم " بياء الغَيْبَة رداً على قوله : " ربهم " أي : " ويوم يَحْشرُهُم ربُّهُم " والضِّمِيرُ في " يَحْشُرُهُم " يعود إلى الجنِّ والإنْسِ بجمعهم في يَوم القِيامَةِ .
وقيل : يعود إلى الشَّياطين الَّذِين تقدم ذِكْرُهم في قوله : " وكَذَلِك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيِّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ " .
قوله : " يا مَعْشَر " في مَحَلِّ نصْبٍ بذلك القَوْل المضْمَر ، أي : " نقول أو قُلْنَا " ، وعلى تَقْدير الزَّجَّاج يكون في مَحَلِّ رفعٍ ؛ لقيامه مقامَ الفَاعِل المَنُوب عَنْهُ ، والمعشر : الجَمَاعةَ ؛ قال القائل : [ الوافر ]
وأبْغَضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فِيهِ *** لِسَانِي مَعْشَرٌ عَنْهُم أذُودُ{[15187]}
والجمع : مَعَاشِر ؛ كقوله - عليه الصلاة والسلام- : " نَحْنُ مَعَاشِر الأنْبيَاء لا نُوَرِّث " {[15188]} قال الأودي : [ البسيط ]
فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَومِهِمُ *** وإنْ بَنَى قَوْمُهُم مَا أفْسَدُوا عَادُوا{[15189]}
قوله تعالى : " مِنَ الإنْس " في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، أي : أوْلِيَاؤهُم حال كونهم من الإنس ، ويجوز أن تكون " من " لبيان الجنس ؛ لأن أولياءهم كانوا إنْساً وجِناً ، والتقدير : أوْلِيَاؤهم الذين هم الإنْسُ ، و " ربِّنا " حُذِفَ منه حَرْف النِّداء .
وقوله : " قال أوْلِيَاؤهُم مِنَ الإنْس " يعني : أوْلياء الشَّياطين الَّذِين أطاعُوهُم من الإنْسِ ، " ربَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض " والمَعْنَى : استَكْثَرْتُم من الإنْسِ بالإضلالِ والإغْواء ، أي : أضْلَلْتُم كَثِيراً .
وقال الكَلْبِيّ : استِمْتَاع الإنْس بالجنِّ هو الرَّجُل كان إذا سَافر وتُرِكَ بأرض قَفْر ، وخاف على نَفْسِهِ من الجِنِّ ، قال : أعوذ بسَيِّد هذا الوَادِي من سُفَهاء قَوْمه ، فيبيتُ آمناً في جوارهم ، وأما استِمْتَاعُ الجنِّ بالإنْسِ ، فهو أنَّهُم قالُوا : قد سَعدْنَا الإنس مع الجِنِّ ، حتى عاذوا بِنَا فَيَزْدَادوا شَرَفاً في قَوْمِهِم وعظماً في أنْفُسِهِم ، كقوله -تبارك وتعالى- : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً } [ الجن : 6 ] .
وقيل : استِمْتَاعُ الإنْس بالجِنِّ ما كَانُوا يلْقون إليهم من الأرَاجِيفِ ، والسِّحْرِ والكَهَانَةِ ، وتزيينهم لهم الأمور التي يَهْوُونَها ، وتَسْهيل سَبيلِها عليهم ، واستِمْتَاع الجن بالإنْس طاعة الإنْسِ لهم فيما يُزيِّنُون لَهُمْ من الضَّلالة والمَعَاصِي .
وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظي : هو طاعةُ بعضِهِمْ بَعْضاً{[15190]} ، وقيل : قوله : " ربِّنَا اسْتَمْتَع بَعْضُنَا بِبَعْض " كلام الإنْس خَاصَّة .
قوله : { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } قرأ الجمهور : " أجَلَنا " بالإفْرَاد ؛ لقوله : " الَّذِي " وقُرِئ{[15191]} : " آجَالَنا " بالجَمْع على أفْعَال " الَّذِي " بالإفْرَاد والتَّذْكير وهو نَعْتُ للجَمْعِ .
فقال أبو عَلِيّ : هو جنْس أوقع " الَّذِي " مَوْقِع " الَّتِي " .
قال أبو حيَّان{[15192]} : وإعْرابه عِنْدِي بدل ؛ كأنه قيل : " الوَقْتُ الَّذِي " وحينئذٍ يكون جِنْساً ولا يَكُون إعْرَابُه نَعْتاً ؛ لعدم المُطابَقَة بينَهُمَا ، وفيه نَظَر ؛ لأن المُطَابقة تُشْتَرطُ في البَدَلِ أيْضاً ، وكذلك نصُّ النُّحَاة على قَوْل النَّابِغة : [ الطويل ]
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهُا *** لِسِتًّة أعْوَام وَذَا العَامُ سابعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأياً أبِينُهُ *** وَنُؤي كجذْم الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ{[15193]}
أي : رماد ونَوَى مَقْطُوعان على " هما رمادٌ ونوى " لا بدل من آياتٍ لِعَدم المُطابَقَة ، ولِذلكِ لم يُرْوَيَا إلاَّ مرْفُوعَيْن لا مَنْصُوبَيْن .
معنى الآية : أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجَلٍ معيَّن ووقْتٍ مَحْدودٍ ، ثمَّ جَاءَت الخَيْبَة والحَسْرَة والنَّدامَة من حَيْث لا دَفع ، واخْتَلَفُوا في ذَلِك الأجَلِ .
وقيل : هو وَقْتُ البَعْثِ والقِيامة ، والَّذين قَالُوا بالقَوْل الأوَّل قالوا : إنه بَدَلٌ على أن كُلِّ من مَاتَ من مَقْتُول وغَيْرِه ، فإنه يَمُوتُ بأجَلِهِ ؛ لأنهم أقَرُّوا بأنَّا بلغْنَا أجَلَنا الَّذِي أجَّلْت لنا ، وفيهم المَقْتُول وغير المَقتُول ، ثم قال - تعالى- : " النَّارُ مَثْوَاكُم " أي : المَقَام والمَقرّ والمَصِير .
قوله : " خَالِدينَ فِيَهَا " مَنْصُوبُ على الحالِ ، وهي حالٌ مُقَدَّرة ، وفي العامل فيها ثلاثة أوْجُه :
أحدها : أنه " مَثْواكم " لأنه هُنَا اسم مَصْدرٍ لا اسم مكان ، والمعنى : النَّارُ ذات ثُوائِكُم ، أي : إقامتكم في هذه الحال ، ولذلك ردّ الفارسيّ على الزّجّاج{[15194]} ؛ " حيث قال : المثوى " المقام " ، أي : " النار مكان ثُوائكم " أي : إقامتكم .
قال الفَارسِيُّ : " المَثْوى عِنْدي في الآية : اسْمٌ للمصْدرِ دون المكان ؛ لحُصُول الحالِ مُعْمَلاً فِيهَا واسْمُ المكانِ لا يَعْمَل عمل الفِعْلِ ؛ لأنه لا مَعْنَى للفِعْل فيه ، وإذا لم يَكُن مَكَاناً ، ثبت أنَّه مَصْدر ، والمَعْنَى : " النَّار ذاتِ إقامَتِكُم فيها خالدين " . فالكاف والميم في المعنى فاعلون ، وإن كان في اللفظ خَفْضاً بالإضَافة ؛ ومثله قول الشاعر : [ الطويل ]
ومَا هي إلاَّ في إزَارٍ وعِلْقَةٍ *** مَغَارَ ابْنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا{[15195]}
وهذا يدلُّ على حَذْفِ المُضافِ ، المعنى : " ومَا هِي إلا إزَارٌ وعِلْقَةٌ وقت إغَارَة ابن همَّام " ، ولذلك عدَّاه ب " عَلَى " ، ولو كان مَكَاناً ، لما عدَّاه ؛ فثَبَت أنَّهُ اسْمُ مصدر لا مَكَان ، فهو كقولك : " آتِيكَ خُفُوقَ النَّجْم ومَقْدِم الحَاجِّ " ، ثم قال " وإنَّما حَسُن ذَلِك في المَصَادِر لمُطَابقتِهَا الزَّمان ، ألا ترى أنَّه مُنْقض غير باقٍ كما أنَّ الزِّمان كَذَلِك " .
والثاني : أن العَامِل فيها فِعْلٌ مَحْذُوف ، أي : يَثُوُون فيها خَالِدِين ، ويَدُلُّ على هذا الفِعْلِ المقدَّرِ " مَثْوَاكُمْ " ويراد ب " مَثْوَاكُمْ " مكان الثّواءِ ، وهذا جوابٌ عن قول الفَارِسيّ المعْتَرِض به على الزَّجَّاج .
الثالث : قاله أبو البقاء{[15196]} : أنَّ العَامِل معنى الإضافة ، ومعنى الإضافةِ لا يَصْلُح أن يكون عَامِلاً ألْبَتَّة ، فليس بِشَيْءٍ .
قوله : " إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ " اختلفُوا في المسْتَثْنَى منه :
فقال : الجُمْهُور : هو الجُمْلَة التي تَلِيها ، وهي قوله : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدين فِيَهاَ } وسيأتي بيانه عن قُرْب .
وقال أبو مُسْلِم : " هو مستَثْنَى من قوله : " وبَلَغْنا أجَلَنَا الَّذِي أجَّلْتَ لَنَا " أي : إلا مَنْ أهْلَكْتَهُ واخْتَرَمْتَه قبل الأجَلِ الذي سَمَّيْتَه لِكُفْره وضلاله " . وقد ردَّ النَّاس عليه هذا المَذْهَب من حَيْثُ الصِّناعة ، من حَيْثُ المَعْنى . أمَّا الصِّناعة فَمِنْ وَجْهَين :
أحدهما : أنَّه لو كان الأمْرُ كذلك ، لكان التَّرْكيبُ " إلاَّ ما شِئْتَ " ليُطابق قوله : " أجَّلْتَ " .
والثاني : أنه قَدْ فصل بين المُستثنى والمُسَتثْنَى منه بقوله : " قَالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدينَ فيها " ومثل ذلك لا يَجُوزُ .
وأما المَعْنَى : فلأن القَوْل بالأجَلَيْن : أجل الاخْتِرام ، والأجَل المسَمَّى باطل ؛ لدلائل مقرَّرَة في غَيْر هذا الموضع .
ثم اختلفوا في هذا الاسْتِثْنَاء : هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ ؟ على قولين :
فذهب مكّي بن{[15197]} أبي طالب ، وأبو البقاء{[15198]} في أحد قوليهما : إلى أنه منقطعٌ ، والمعنى : " قال النَّار مَثْواكُم إلاَّ مَنْ آمن مِنْكُمْ في الدُّنْيَا " كقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] أي : لكن الموْتَة الأولى ، فإنهم قَدْ ذَاقُوهَا في الدنيا كذلك هذا ؛ لكن الّذِين شَاءَهُم الله أن يُؤمِنُوا مِنْكم في الدُّنيا ، وفيه بُعْدٌ ، وذهب آخرُون إلى أنَّه مُتَّصِلٌ ، ثم اخْتَلَفُوا في المسْتَثْنَى منه مَا هُو ؟
فقال قوم : هو ضمير المخَاطَبين في قوله : " مَثْوَاكُمْ " أي : إلا من آمن في الدُّنْيَا بعد أن كان من هؤلاء الكفرة . علله ابن عبَّاسٍ ، و " ما " هُنَا بمعنى " مَنْ " التي لِلْعُقلاءِ ، وساغ وُقُوعها هُنَا ؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف ، و " ما " تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
ولكن قد اسْتُبِعد هذا ؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم عليهما ، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ ، لو قالت : " قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً " ، كان معناه [ إلا زيدا فإنه لم يقم ، ولا يصحّ أن يكون المعنى : فإنه سيقوم في المستقبل ، ولو قلت : " سأضرب القوم إلا زيداً ]{[15199]} ، كان مَعْنَاه فإني لا أضربه في المسْتَقْبل ، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى : فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره .
وذهب قَوْمٌ : إلى أن المسْتَثْنَى منه زمان ، ثم اخْتلف القَائِلُون بذلك :
فمنهم من قال : ذلك الزَّمان هو مُدَّة إقامتهم في البَرْزَخِ ، أي : " القُبُور " .
وقيل : " هو المُدَّة التي بَيْن حَشْرِهم إلى دُخُولِهِم النَّار " . وهذا قول الطَّبري{[15200]} قال : " وساغَ ذلك من حَيْثُ إنّ العِبَارة بقوله : " النَّارُ مَثْواكُم " لا يخصُّ بها مسْتَقْبَل الزَّمَان دون غيره " .
وقال الزجاج{[15201]} : " هو مَجْمُوع الزمَانَينِ ، أي : مدَّة إقامتهم في القُبُور ، ومُدَّة حَشرِهم إلى دخُولهم النَّارِ " .
وقال الزمخشري{[15202]} : " إلا ما شاء الله ، أي : يُخَلَّدون في عَذَاب النَّارِ الأبد كُلّه إلا ما شاء الله إلا الأوْقَات الَّتِي يُنْقَلُون فيها من عذاب النَّارِ إلى عذاب الزَّمْهِرير ؛ فقد رُويَ : أنهم يَدْخُلون وادياً فيه من الزَّمْهَرير ما يَقْطَعُ أوْصَالَهُم ، فيتعاوَوْن ويطْلُبُون الرَّدَّ إلى الجَحِيم " .
وقال قوم " " إلا ما شاء اللَّه " هم العُصَاةُ الِّذِين يدخُلُون النَّار من أهل التَّوحيد ، ووقعت " مَا " عليهم ؛ لأنَّهم نوع كأنه قيل : إلا النَّوع الذي دَخَلَها من العُصَاة ، فإنهم لا يُخَلَّدون فيها ، والظاهر أن هذا استِثْنَاء حَقِيقَة ؛ بل يجب أن يَكُون كذلِك .
وزعم الزَّمَخْشَريّ{[15203]} : أنه يكون من بابِ قَوْل المْوتُور الذي ظَفَر بواتِرِه ، ولم يَزَلْ يُحَرِّقِ عليه أنْيَابَه ، وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خِنَاقهِ : " أهْلَكَنِي اللّه إن نَفَّسْتُ عَنْكَ إلا إذا شِئْت " وقد عَلِم أنه لا يَشَاءُ ذلك إلا التَّشَفِّي منه بأقْصَى ما يَقْدِر عليه من التَّشْديد والتَّعْنِيفِ ، فكيون قوله : " إلاَّ إذا شِئْت " من أشد الوعيد مع تهَكُّم .
قال شهاب الدين{[15204]} : ولا حاجة إلى ادِّعَاء ذلك مع ظُهُور مَعْنَى الاسْتِثْنَاء فيه ، وارتكاب المجازِ وإبْزازِ ما لم يَقَعُ في صُورةِ الواقِعِ .
وقال الحسن البَصْرِيُّ : " إلا ما شَاء اللَّه ؛ أي : من كَونهم في الدُّنْيَا بغير عذابٍ " {[15205]}
فجعل المسْتَثْنى زمن حَيَاتهم ، وهو أبْعد ممَّا تقدَّم .
وقال الفرَّاء - وإليه نحا الزَّمخْشَري -{[15206]} : " والمعنى : إلا ما شَاءَ اللَّه من زيادة في العذابِ " .
وقال غيره : إلا ما شاء اللَّهُ من النّكال ، وكُلُّ هذا إنَّما يتمَشَّى على الاستِثْنَاء المنقَطِع .
قال أبو حيَّان{[15207]} : " وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِثْنَاء من المصْدر الذي يَدُلُّ عليه مَعْنَى الكلام ؛ إذ المعْنَى : يُعَذّبون في النَّارِ خَالِدين فيها إلا ما شَاء اللَّهُ من العذاب الزَّائد على النَّارِ ، فإن يُعَذِّبهم ، ويكُون إذ ذاك استِثْنَاء منقطعاً ؛ إذ العذابُ الزَّائد على عذابِ النَّارِ لم ينْدَرج تَحْتَ عذاب النَّار " .
وقال ابن عطيَّة{[15208]} : " ويتَّجه عندي في هذا الاستِثْنَاء أن يكون مُخَاطَبَةً للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وأمته ، ولَيْس مما يُقالُ يوم القيامة ، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم اللَّهِ ؛ كأنه لما أخْبَرَهُم أنه يُقَال للكُفَّار : " النَّارُ مَثْوَاكُم " استثنى لهم من يُمْكِن أن يُؤمِن ممَّن يَرَوْنَهُ يومئذ كافراً ، وتقع " مَا " على صِفَة من يَعْقل ، ويؤيِّد هذا التَّأويل أيضاً قوله : " إنَّ ربِّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ " أي : بمن يُمْكِنُ أن يُؤمِنَ منهم " .
قال أبو حيان{[15209]} : " وهو تَأويلٌ حسن ، وكان قد قال قبل ذلك : " والظَّاهر أن هذا الاسْتِثْنَاء هو من كلام اللَّه-تعالى- للمخَاطَبين ، وعليه جَاءَت تفاسير الاستِثْنَاء " وقال ابن عطيَّة{[15210]} ثم ساقه إلى آخِرِه ، فكيف يسْتَحْسِنُ شيئاً حُكِم عليه بأنَّه خلاف الظَّاهِر من غير قَرِينَةٍ قويَّة مُخْرِجة للَّفْظِ عن ظَاهِرِه ؟
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } أي : فيما يَفْعَلهُ من ثواب وعقاب وسائر وُجُوه المجازِ ، أو كأنَّه يقول : إنما حَكَمْتُ لهؤلاء الكُفَّارِ بعذاب الأبَدِ ، لعلمي أنَّهُم يستَحِقُّونَ ذلك .
وقيل : " عليم " بالَّذي استَثْنَاهُ وبِمَا في قُلُوبهم من البرِّ والتَّقْوَى .