هذه الآية من بَقِيَّة توبيخ الكُفَّارِ يوم القيامة .
قال أهل اللُّغة : المَعْشَر كُل جماعةِ أمْرُهُم واحد ، ويَحصُل بنيهم مُعَاشَرة ومُخالطة ، والجَمْع : مَعَاشر{[15214]} .
قوله : " مِنْكُم " في محلِّ رفعٍ صلة لرسُل ، فيتعلَّق بمحْذُوفٍ ، وقوله : " يَقُصُّونَ " يحتمل أن يكون صِفَة ثَانِيةَ ، وجاءت كذا مَجِيئاً حَسَناً ، حيث تَقدَّم ما هو قَرِيبٌ من المُفْرَد على الجُمْلَة ، ويحْتَمل أن يكُون في مَحَلِّ نصب على الحالِ ، وفي صَاحِبها وجهان :
أحدهما : هو رُسُل وجَازَ ذَلِك وإن كان نَكِرَة ؛ لتخَصُّصِه بالوَصْفِ .
والثاني : أنه الضَّمير المسْتَتِر في " مِنْكُم " وقوله : " رُسُلٌ مِنْكم " زعم الفرَّاء : أن في هذه الآية حَذْف مُضَافٍ ، أي : " ألم يَأتِكُم رُسُلٌ من أحَدِكم ، يعني : من جِنْس الإنْس " قال : كقوله- تعالى- : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمان : 22 ] ، وإنما يَخْرُجَان من المِلْح { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] ، وإنما هو في بَعْضِها ، فالتَّقدير : يَخْرُجُ من أحدهما ، وجعل القمر في إحْدَاهُنَّ فحذف للعِلْم به ، وإنما احْتَاج الفرَّاء إلى ذلك ؛ لأن الرُّسُل عنده مُخْتَصَّة بالإنْسِ ، يعني : أنه لم يعْتَقِد أنَّ اللَّه أرْسَل للجِنِّ رَسَولاً مِنْهُم ، بل إنما أرْسَل إليهم الإنْس ، كما يُرْوَى في التَّفْسير ، وعليه قَامَ الإجْمَاع أن النَّبِي محمداً صلى الله عليه وسلم مرسلٌ للإنْسِ والجِنِّ ، وهذا هو الحَقُّ ، أعني : أن الجِنَّ لم يُرْسَل منهم إلا بواسطةِ رِسالَة الإنْس ؛ كما جاء في الحَدِيث مع الجِنِّ الذين لمَّا سَمِعُوا القُرآن ولَّوا إلى قََوْمِهِم مُنْذِرين ، ولكن لا يَحْتَاجُ إلى تَقْدير مُضَافٍ ، وإن قلنا : إن رُسُل الجنِّ من الإنس للمَعْنى الذي ذَكرْنَاه ، وهو أنه يُطْلَق عليهم رُسُل مجازاً ؛ لكونهم رُسُلاً بواسطة رسالة الإنْسِ ، وزعم قومٌ منهم الضَّحّاك : أن الله أرْسَل للجِنِّ رسُولاً منهم يُسَمَّى يُوسُف{[15215]} .
قال ابن الخطيب : ودَعْوَى الإجماع في هذا بعيدٌ ؛ لأنه كَيْف ينعقد الإجماعُ مع حُصُول الاختلافِ ، قال : ويمكنُ أن يَحْتَجَّ الضحَّاك بقوله- تبارك وتعالى- : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] .
قال المفسِّرُون : والسَّبب في أن استِئْنَاسَ الإنسان بالإنْسَانِ أكْمل من استِئْنَاسه بالملك ، فوجب في حُكم اللَّه- تبارك وتعالى- أن يَجْعَل رُسُل الإنْس من الإنْس ؛ ليكمل الاستِئْنَاسُ ، وهذا المَعْنَى حَاصِلٌ في الجنِّ ، فوحب أن يكُون رُسُل الجِنِّ من الجِنِّ ، لتزول النَّفْرَة ويَحْصُل كمال الاستِئْنَاسِ .
وقال الكلبي : كانت الرُّسُل قبل أن يُبْعث محمَّد صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُون إلى الجنِّ وإلى الإنْسِ جَمِيعاً{[15216]} .
وقال مُجَاهد : الرُّسُل من الإنس والنُّذُر من الجنِّ ، ثم قرأ [ قوله تعالى ] : { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }{[15217]} [ الأحقاف : 29 ] ، وهم قوم يَسْمَعُون كلام الرُّسُل فِيُبَلِّغُون الجِنِّ ما سَمِعُوا ، وليس للجِنِّ رُسُلٌ .
ثم قال : " يَقُصُّونَ عليكم آيَاتِي " أي : يَقْرءُون عليكم كُتُبِي " ويُنْذِرونكم لقاءَ يَوْمِكُمْ هذا " وهو يوم القيامة ، فلم يِجِدُوا عند ذلك إلا الاعتراف ، فذلك قالوا : شَهِدْنَا على أنْفُسِنَا .
فإن قيل : كيف أقَرُّوا في هذه الآية الكريمة بالكُفْرِ ، وجَحَدوا في قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .
فالجواب : يوم القيامة يوم طَويلٌ ، والأحْوال فيه مُخْتَلِفَةٌ ، فتارة يُقِرُّون وأخْرى يَجْحَدُون ، وذلك يَدُلُّ على شِدَّة الخَوْفِ واضْطِرَاب أحْوالِهم ، فإن من عظُمَ خَوْفُه ، كَثُر الاضْطِرَابُ في كلامه ، قال - تبارك وتعالى- : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أي : أنهم إنِّما وقعُوا في الكُفر بسبب أنَّ الحياة الدُّنْيا غَرَّتْهُم ، حتى لم يُؤمِنُوا وشَهِدُوا على أنْفُسِهِم أنَّهم كَانُوا كافِرين ، و حمل مُقَاتِل قوله " وشَهِدُوا على أنْفُسهمْ " بأنه تشْهد عَلَيْهِم الجَوَارحُ بالشِّرْك والكُفْر ومَقْصُوده دفع التكْرَار عن الآية الكريمة ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّه لا تَكليف قَبْل ورُودِ الشَّرْع ، وإلاَّ لم يَكُن لهذا التَّعْلِيل فَائِدَة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.