اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَٰمَعۡشَرَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ رُسُلٞ مِّنكُمۡ يَقُصُّونَ عَلَيۡكُمۡ ءَايَٰتِي وَيُنذِرُونَكُمۡ لِقَآءَ يَوۡمِكُمۡ هَٰذَاۚ قَالُواْ شَهِدۡنَا عَلَىٰٓ أَنفُسِنَاۖ وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَشَهِدُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ أَنَّهُمۡ كَانُواْ كَٰفِرِينَ} (130)

هذه الآية من بَقِيَّة توبيخ الكُفَّارِ يوم القيامة .

قال أهل اللُّغة : المَعْشَر كُل جماعةِ أمْرُهُم واحد ، ويَحصُل بنيهم مُعَاشَرة ومُخالطة ، والجَمْع : مَعَاشر{[15214]} .

قوله : " مِنْكُم " في محلِّ رفعٍ صلة لرسُل ، فيتعلَّق بمحْذُوفٍ ، وقوله : " يَقُصُّونَ " يحتمل أن يكون صِفَة ثَانِيةَ ، وجاءت كذا مَجِيئاً حَسَناً ، حيث تَقدَّم ما هو قَرِيبٌ من المُفْرَد على الجُمْلَة ، ويحْتَمل أن يكُون في مَحَلِّ نصب على الحالِ ، وفي صَاحِبها وجهان :

أحدهما : هو رُسُل وجَازَ ذَلِك وإن كان نَكِرَة ؛ لتخَصُّصِه بالوَصْفِ .

والثاني : أنه الضَّمير المسْتَتِر في " مِنْكُم " وقوله : " رُسُلٌ مِنْكم " زعم الفرَّاء : أن في هذه الآية حَذْف مُضَافٍ ، أي : " ألم يَأتِكُم رُسُلٌ من أحَدِكم ، يعني : من جِنْس الإنْس " قال : كقوله- تعالى- : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمان : 22 ] ، وإنما يَخْرُجَان من المِلْح { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] ، وإنما هو في بَعْضِها ، فالتَّقدير : يَخْرُجُ من أحدهما ، وجعل القمر في إحْدَاهُنَّ فحذف للعِلْم به ، وإنما احْتَاج الفرَّاء إلى ذلك ؛ لأن الرُّسُل عنده مُخْتَصَّة بالإنْسِ ، يعني : أنه لم يعْتَقِد أنَّ اللَّه أرْسَل للجِنِّ رَسَولاً مِنْهُم ، بل إنما أرْسَل إليهم الإنْس ، كما يُرْوَى في التَّفْسير ، وعليه قَامَ الإجْمَاع أن النَّبِي محمداً صلى الله عليه وسلم مرسلٌ للإنْسِ والجِنِّ ، وهذا هو الحَقُّ ، أعني : أن الجِنَّ لم يُرْسَل منهم إلا بواسطةِ رِسالَة الإنْس ؛ كما جاء في الحَدِيث مع الجِنِّ الذين لمَّا سَمِعُوا القُرآن ولَّوا إلى قََوْمِهِم مُنْذِرين ، ولكن لا يَحْتَاجُ إلى تَقْدير مُضَافٍ ، وإن قلنا : إن رُسُل الجنِّ من الإنس للمَعْنى الذي ذَكرْنَاه ، وهو أنه يُطْلَق عليهم رُسُل مجازاً ؛ لكونهم رُسُلاً بواسطة رسالة الإنْسِ ، وزعم قومٌ منهم الضَّحّاك : أن الله أرْسَل للجِنِّ رسُولاً منهم يُسَمَّى يُوسُف{[15215]} .

قال ابن الخطيب : ودَعْوَى الإجماع في هذا بعيدٌ ؛ لأنه كَيْف ينعقد الإجماعُ مع حُصُول الاختلافِ ، قال : ويمكنُ أن يَحْتَجَّ الضحَّاك بقوله- تبارك وتعالى- : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } [ الأنعام : 9 ] .

قال المفسِّرُون : والسَّبب في أن استِئْنَاسَ الإنسان بالإنْسَانِ أكْمل من استِئْنَاسه بالملك ، فوجب في حُكم اللَّه- تبارك وتعالى- أن يَجْعَل رُسُل الإنْس من الإنْس ؛ ليكمل الاستِئْنَاسُ ، وهذا المَعْنَى حَاصِلٌ في الجنِّ ، فوحب أن يكُون رُسُل الجِنِّ من الجِنِّ ، لتزول النَّفْرَة ويَحْصُل كمال الاستِئْنَاسِ .

وقال الكلبي : كانت الرُّسُل قبل أن يُبْعث محمَّد صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُون إلى الجنِّ وإلى الإنْسِ جَمِيعاً{[15216]} .

وقال مُجَاهد : الرُّسُل من الإنس والنُّذُر من الجنِّ ، ثم قرأ [ قوله تعالى ] : { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ }{[15217]} [ الأحقاف : 29 ] ، وهم قوم يَسْمَعُون كلام الرُّسُل فِيُبَلِّغُون الجِنِّ ما سَمِعُوا ، وليس للجِنِّ رُسُلٌ .

ثم قال : " يَقُصُّونَ عليكم آيَاتِي " أي : يَقْرءُون عليكم كُتُبِي " ويُنْذِرونكم لقاءَ يَوْمِكُمْ هذا " وهو يوم القيامة ، فلم يِجِدُوا عند ذلك إلا الاعتراف ، فذلك قالوا : شَهِدْنَا على أنْفُسِنَا .

فإن قيل : كيف أقَرُّوا في هذه الآية الكريمة بالكُفْرِ ، وجَحَدوا في قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] .

فالجواب : يوم القيامة يوم طَويلٌ ، والأحْوال فيه مُخْتَلِفَةٌ ، فتارة يُقِرُّون وأخْرى يَجْحَدُون ، وذلك يَدُلُّ على شِدَّة الخَوْفِ واضْطِرَاب أحْوالِهم ، فإن من عظُمَ خَوْفُه ، كَثُر الاضْطِرَابُ في كلامه ، قال - تبارك وتعالى- : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أي : أنهم إنِّما وقعُوا في الكُفر بسبب أنَّ الحياة الدُّنْيا غَرَّتْهُم ، حتى لم يُؤمِنُوا وشَهِدُوا على أنْفُسِهِم أنَّهم كَانُوا كافِرين ، و حمل مُقَاتِل قوله " وشَهِدُوا على أنْفُسهمْ " بأنه تشْهد عَلَيْهِم الجَوَارحُ بالشِّرْك والكُفْر ومَقْصُوده دفع التكْرَار عن الآية الكريمة ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّه لا تَكليف قَبْل ورُودِ الشَّرْع ، وإلاَّ لم يَكُن لهذا التَّعْلِيل فَائِدَة .


[15214]:ينظر: الرازي 13/159.
[15215]:ينظر: الرازي 13/160.
[15216]:انظر: "البحر المحيط" (4/226).
[15217]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/86) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.