قوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم } فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ، والنزع : قلع الشَّيء عن مكانه .
وقوله : " مِنْ غِلٍّ " يجوز أن تكون " مِنْ " لبيان جنس " مَا " ويجوز أن تكون حالاً متعلّقاً بمحذوف أي : كائناً من غلٍّ .
الغل : الحِقْد والإحْنَةُ والبُغْض ، وكذلك الغُلُولُ .
قال أهل اللُّغَةِ : وهو الذي يغل بلطفه إلى صَميمِ القَلْب أي : يدخلُ ، ومنه الغلول ، وهو الوصول بالحيلَةِ إلى الذُّنُوبِ الدقيقة .
ويقال : انغل في الشَّيء ، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤادِ وجمع الغل غلال ، والغُلُولُ : الأخذ في خُفْيَةٍ ، وأحسن ما قيل إنَّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحِقْدَ والخيانة حتَّى صار إليه كالغلالةِ الملبوسة .
أحدهما : أزَلْنَا الأحقادَ التي كانت لبعضهم في دار الدُّنْيَا ، ومعنى نزع الغل : تصفية الطِّباع ، وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب ، فإن الشَّيطانَ لمَّا كان في العذابَ لم يتفرغ لإلقاء الوساوِس في القُلُوبِ ، وإلى هذا المعنى أشار عليُّ بْنُ أبي طالب - رضي الله عنه - إذ قال : " إني لأرجو أن أكون أنا ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير من الذين قال الله - جل ذكره – فيهم : ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ{[16142]} " .
والتأويل الثاني : أنَّ المراد منه أن درجات أهل الجنَّة متفاوتة بحسب الكمال والنُّقصان ، فاللَّهُ - تعالى - أزَالَ الحسدَ عن قلوبهم حتّى إنَّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسدُ صاحب الدرجة الكاملة .
قال صاحبُ هذا التأويل{[16143]} : وهذا أوَْى من الوجه الأوَّلِ ، حتَّى يكون في مقابلة ما ذكره الله - تعالى - من تبرُّؤ بعض أهل النَّار من بعض ، ولعن بعضهم بعضاً ، ليعلم أنَّ حال أهل الجنَّة في هذا المعنى مفارقة لحالِ أهْلِ النَّارِ ، فإن قيل : كيف يُعقل أنْ يُشَاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية ، ويرى نفسه مَحْرُوماً عنها ، عاجزاً عن تحصيلها ، ثم إنَّهُ لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها ؟ فإنْ عُقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يغيرهم الله - تعالى - ، ولا يخلق يهم شهوة الأكْل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها{[16144]} ؟ .
فالجوابُ : أنَّ الكلّ ممكن ، والله تعالى قادر عليه ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وعد بإزلة الحِقْدِ والحسد عن القلوب ، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النُّفوس{[16145]} .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } .
أحدها : أنَّها حال من الضَّميرِ في " صُدُورِهِم " ، قاله أبُو البقاء{[16146]} وجعل العَامِلَ في هذه الحال معنى الإضافة .
والثاني : أنَّها حال أيضاً ، والعامل فيها " نَزَعْنَا " ، قاله الحوفيُّ .
الثالث : أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم .
وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين ؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف ، وإعماله فيما بعده رفعاً أو نصباً .
وأما الثاني فلأن { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } ليس من صفة فاعل " نَزَعْنَا " ، ولا مفعوله وهما " نَا " و " مَا " فكيف ينتصب حالاً عنهما ؟ وهذا واضح .
قال شهابُ الدِّين{[16147]} : " قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمدرك آخر ، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة ، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف ، وإنْ كانت الحال ليست منه ؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين ، وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك " .
فصل في شرب المؤمنين من ساق الشجرة .
قال السُّدِّيُّ في هذه الآية : إنَّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شَجَرَةً في أصل ساقها عينان فَيَشْرَبُوا من أحديهما ، فينزعُ ما في صدورهم من غلٍّ ، وهو الشَّراب الطّهور ، ويغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم نَضْرَة النَّعيم فلم يشقوا ، ولم يسجنوا بَعْدَها أبداً{[16148]} .
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } أي : إلى هذا يعني طريق الجنة .
وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : " معناه هدانا لعمل هذا ثوابه " .
قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ } قرأ الجماعة : " ومَا كُنَّا " بواو ، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير " الشَّامِ " وفيها وجهان :
أظهرهما : أنَّها " واو " الاستئناف ، والجملة بعدها مستأنفة .
وقرأ ابن عامر{[16149]} " ما كنا " بدون واو ، [ و ] الجملة على ما تقدَّم من احتمال الاستئناف والحال ، وهي في مصحف الشَّاميين كذا ، فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه .
ووجه قراءة ابن عامر أنَّ قوله : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولاا أَنْ هَدَانَا الله } جار مجرى التَّفْسِيرِ لقوله : " هَدَانَا لِهَذَا " ، فلما كان أحدهما غير الآخر ؛ وجب حذف الحرف العاطف .
قوله : { لولاا أَنْ هَدَانَا الله } " أن " وما في حيزها في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر محذوف على ما تقرَّر ، وجواب " لَوْلاَ " مدلولٌ عليه بقوله : " ومَا كُنَّا " تقديره : لولا هدايته لنا موجودة لشقينا ، أو ما كنا مهتدين .
دلّت هذه الآية على أنَّ المهتدِي من هداه الله ، وإنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ . ثم نقول : مذهب المعتزلة{[16150]} أنّ كلَّ ما فعله الله في حقّ الأنبياء ، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حقِّ جميع الكُفَّارِ والفسَّاقِ ، وإنَّما حصل الامتيازُ بين المؤمن والكافر ، والمحقّ والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه ، فكان يجب عيله أنْ يحمد نفسه ؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان ، وهو الذي أوصل نَفْسَهُ إلى درجات الجنان ، وخلَّصها من دركاتٍ النِّيرانِ ، فلمَّا لم يحمد نفسه ألْبَتَّةَ إنَّما حمد الله - تعالى - فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى .
قوله : " لَقَدْ جَاءَتْ " جواب قسم مقدَّر ، و " بالحَقِّ " يجوز أن تكون الياء للتعدية ، ف " بالحق " مفعول معنى ، ويجوز أن تكون للحال [ أي : ] جَاءُوا ملتبسين بالحقِّ ، وهذا من قول أهلِّ الجنَّةِ حين رَأوْا ما وعدهم الرُّسُلُ عياناً ، " ونُودُوا " هذا النداء يحتمل أن يكون من الله - تعالى - ، وأن يكون من الملائكة .
قوله : " أن تلكم الجنة " يجوز أنْ تكونَ المفسِّرة ، فسَّرت النداء - وهو الظَّاهِرُ - بما بعدها ، ويجوز أن تكون المخففة واسمها ضمير الأمر محذوفاً ، فهي وما بعدها في محلّ نصب أوْ جرِّ ؛ لأنَّ الأصل : " بِأنْ تِلْكُمُ " ، وأُشير إليها بإشارة البعيد ؛ لأنَّهُم وُعِدُوا في الدُّنْيَا .
وعبارة بعضهم " هي إشَارَةٌ لغائب " مسامحة ؛ لأنَّ الإشارة لا تكونُ إلا لحاضِرٍ ، ولكنَّ العلماء تُطلق على البعيد غائباً مجازاً .
قوله : " أوْرِثْتُمُوها " يجوز أن تكون هذه الجملة حاليّة كقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
ويجوز أن تكُون خبراً عن " تِلْكُم " ، ويجوز أن تكون " الجنّة " بدلاً أو عطف بيان و " أورِثْتُمُوها " الخبر .
ومنع أبُو البقاءِ{[16151]} أن تكون حالاً من تلكم للفصل بالخبر ، ولأنَّ المبتدأ لا يعمل في الحال .
وأدغم أبُوا عَمْرو{[16152]} والأخوان الثّاء في التاء ، وأظهرها الباقون .
و { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تقدَّم [ المائدة : 105 ] .
قال أهلُ المَعَانِي : معناه صارت إليكم كما يصيرُ الميراث إلى أهله ، والإرث قد يستعمل في اللُّغَةِ ولا يرادُ به زوال الملك عن الميِّت إلى الحي ، كما يقال : هذا الفعل يورثك الشَّرف ويورثك العار أي : يصيرك إليه{[16153]} .
ومنهم من يقول : إنَّهُم أعطوا تلك المنازلَ من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث .
وقيل : إنَّ أهْلَ الجنَّة يرثون منازل أهل النَّارِ{[16154]} .
قال عليه الصَّلاة والسَّلامُ : " ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنَّار منزل ، فإذا دخل أهْلُ الجنَّةِ الجنَّة ، وأهل النَّارِ النَّارَ ، رفعت الجنة لأهل النَّار فينظروا إلى منازلهم فيها فيقال لهم : هذه منازلكم لو عملتم بطاعَةِ الله - تعالى - ثمَّ يقال : يا أهْلَ الجنة ، رثوهم بما كنتم تعملون ، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم {[16155]} " .
فإن قيل : هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ يدخل الجنَّة بعمله ، وقوله - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - : " لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ الجنة بِعَمِلِهِ ، وإنَّمَا يَدْخُلُونَهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ{[16156]} " ، وبينهما تناقض{[16157]} .
فالجوابُ : أنَّ العمل لا يوجب دخولَ الجنَّةِ لِذَاتِهِ ، وإنَّما يوجبه لأن الله بفضله جعله علامة عليه ، وأيضاً لمَّا كان الموفق للعمل الصَّالح هو الله تعالى - كان دخول الجنَّة في الحقيقة ليس إلاّ بفضل الله - تعالى - .