اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱسۡتَكۡبَرُواْ عَنۡهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمۡ أَبۡوَٰبُ ٱلسَّمَآءِ وَلَا يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلۡجَمَلُ فِي سَمِّ ٱلۡخِيَاطِۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (40)

هذا من تمام وعيد الكُفَّارِ فقوله : { كَذَّبُوا بآيَاتِنَا } أي بالدَّلائل الدَّالة التي هي أصول الدِّين فالدهرية{[16119]} ينكرون دلائل إثبات الذَّات والصِّفاتِ ، والمشركون ينكرون دلائل إثبات التوحيد ، ومنكرو النُّبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحّة النُّبُوَّات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على صحة نبوته ، ومنكرو المعاد ينكرون الدَّلائل الدّالة على صحّة المعاد فقوله : { كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بتناولُ الْكُلَّ ومعنى الاستكبار طلب التَّرَفُّع بالبَاطِلِ ، وهذا اللَّفظ يَدُلُّ على الذم في حقِّ البَشَرِ .

قوله : " لا تُفَتَّحُ " .

قرأ أبُو عمر{[16120]} : " لا تُفْتَح " بضمّ ِالتَّاء من فوق والتَّخفيف والأخوان بالياء من تحت والتخفيف أيضاً ، والباقون : بالتَّأنيث والتشديد .

فالتَّأنْيِثُ والتَّذكير باعتبار الجمع والجماعة ، والتخَّفيف والتضعيف باعتبار التكثير وعدمه ، والتضعيف هنا أوْضَحُ لكثرة المتعلق ، وهو في هذه القراءات مبني للمفعول .

وقرأ أبُو حَيْوَةَ{[16121]} ، وأبو البرهسم [ " تَفَتَّح " ] بفتح التَّاء مِنْ فوق والتضعيف ، والأصل : لا تتفتح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما ، وقد تقدَّم في " { تَتَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] .

ونحوه ، ف " أبواب " على قراءة أبي حيوة فاعل ، وعلى ما تقدَّم مفعول لم يُسمَّ فاعله .

وقرئ : " لا تفتح " بالتاء ، ونصب " الأبْواب " على أن الفعل للآيات وبالياء على أن الفعل للَّه ذكره الزمخشري .

فصل في معنى " لا تفتح "

قال ابنُ عبَّاسِ : لا تفتح لأعمالهم لدعائهم مأخوذ من قوله : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ }{[16122]} [ فاطر : 10 ] .

وقال السُّدِّيُّ وغيره : لا تفتح لأرواحهم أبواب السَّمَاءِ وتفتح لأرواح المؤمنين ، ويؤيد هذا ما ورد في الحديث أنَّ روح المؤمن يعرج بها إلى السَّماء فيستفتح لها فيقال : مرحباً بالنَّفْس الطيبة ، التي كانت في الجسد الطيب ، ويقال لها ذلك إلى أن تنتهي إلى السَّماء السابعة ، ويستفتح لروح الكافر ، فقال لها : ارْجِعِي ذميمةً فإنه لا تفتح لك أبوابُ السَّماء{[16123]} ولا يدخلون الجنة بل يهوى بها إلى سجين .

وقيل : لا ينزلُ عليهم الخير والبركة لقوله : { فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السماء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } [ القمر : 11 ] .

قوله : { حتى يَلِجَ الجمل } .

الولوج : الدُّخُول بشدّة ، ولذلك يقال : هو الدُّخول في مضيق ، فهو أخصُّ من الدُّخول ، والوليجة : كلُّ ما يعتمده الإنسان ، والوليجة الدَّاخِلُ في قوم ليس منهم .

و " الجَمَلُ " قراءة العامة ، وهو الحيوانُ المعروف ، ولا يقال للبعير جملاً إلا إذا بَزَل ، ولا يقال له ذلك إلا إذا بَلَغَ أربع سنين وأول ما يخرج ولد النَّاقة ، ولم تعرف ذُكُوريَّتُهُ وأنوثته يقالُ لَهُ : " سَلِيلٌ " ، فإن كان ذكراً فهو " سَقْبٌ " ، وإن كان أنثى " حَائِلٌ " ، ثم هو " حُوار " إلى الفطام ، وبعده " فَصِيل " إلى سنة ، وفي الثانية : " ابْن مَخَاض " و " بِنْت مَخَاض " ، وفي الثالثة : " ابْن لَبون " و " بنت لبون " ، وفي الرابعة : " حِقٌّ " و " حِقَّة " ، وفي الخامسة : جَذَع وجَذَعة ، وفي السَّادسة : " ثَنِيُّ " و " ثَنِيَّة " ، وفي السَّابعة : رَباع ورَباعية مخففة ، وفي الثامنة : " سِديسٌ " لهما .

وقيل : " سَديسةٌ " للأنثى ، وفي التَّاسعة : " بَازِلٌ " ، و " بَازِلَةٌ " ، وفي العاشرة : " مُخْلِفٌ " و " مُخْلِفةٌ " ، وليس بعد البُزُول والإخلاف سنٌّ بل يقال : بازل عام ، أو عامين ، ومُخْلِف عام ، أو عامين حتى يهرم ، فيقال له : فَوْد . ورد التَّشبيه في الآية الكريمة في غاية الحسن ، وذلك أنَّ الجمل أعظم حيوانٍ عند العربِ ، وأكبره جثَّة حتى قال : [ البسيط ]

. . . *** جِسْمُ الجِمَالِ وأحْلاَمُ العَصَافِيرِ{[16124]}

[ وقوله ] : [ الوافر ]

لَقَدْ كَبُرَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ *** . . . {[16125]}

وسم الإبرة في غايةِ الضِّيقِ ، فلما كان المثلُ يُضْرَبُ بعظم هذا وكبره ، وبضيق ذلك حتَّى قيل : أضْيقُ من خُرْت إبرة ، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطُّرُقِ قيل : لا يدخلون [ الجنة حتى يتقحّم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأشياء وأصغرها فكأنه لا يدخلون ]{[16126]} حتى يُوجدَ هذا المستَحِيلُ ، ومثله في المعنى قول الشاعر : [ الوافر ]

إذا شَابَ الغُرَابُ أتَيْتُ أهْلِي *** وَصَارَ القَارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ{[16127]}

وقر ابن عبَّاسِ{[16128]} في رواية ابْنِ حَوْشَبٍ ، ومجاهد ، وابن يعمر ، وأبو مجلزٍ والشعبيُّ ، ومالك بن الشِّخِّير ، وابن محيصنٍ ، وأبُو رجاءَ ، وأبو رزين ، وأبان عن عاصمٍ : " الجُمَّل " بضمِّ الجيمِ وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ ، والقَلْس : حبلٌ غليظ ، يجمع من حبال كثيرة فيفتل ، وهو حَبْلُ السَّفِينة .

وقيل : الحَبْلُ الذي يُصعد به [ إلى ] النّخل .

ويروى عن ابن عباس أنه قال : " إن الله أحسن تشبيهاً أن يشبه بالحبل من أن يشبه بالجَمَلِ " كأنَّهُ رأى - إن صحَّ عنه - أن المناسب لسم الإبرة شيءٌ يناسب الخيط المسلوك فيها .

وقال الكِسَائي : الرَّاوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فَشَدَّد الميم " .

وضعَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءة . قال شهابُ الدِّين{[16129]} : " ولذلك هي قراءةٌ مشهورة بين النَّاس " . وروى مجاهدٌ عن ابن عباس ضمّ الجيم وفتح الميمِ خفيفة ، وهي قراءة ابن جبير{[16130]} ، وقتادة ، وسالم الأفطس .

وقرأ ابْنُ عبَّاسِ أيضاً في رواية عطاء : " الجُمُل " بضم الجيم والميم مخففة ، وبها قرأ الضحاكُ الجحدري .

وقرأ عِكْرِمة ، وابن جبير بضمِّ الجيم ، وسكون الميم .

[ وقرأ المتوكل ، وأبُو الجوزاء بالفتح والسُّكون ، وكلُّها لغات في القَلْس المذكور .

وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية فقال : " زَوْج النَّاقَةِ " ، كأنه فهم ما أراد السّائل واستغباه ]{[16131]} .

قوله : { فِي سَمِّ الخياط } متعلق ب " يلج " ، و " سمّ الخِيَاطِ " ثقب الإبرة ، وهو الخُرْتُ ، وسينه مثلثة ، وكلّ ثُقب ضيق فهو سَمٌّ ، وكلُّ ثقب في البدن ؛ وقيل : كلُّ ثُقْبٍ في أنف أو أذن فهو سَمٌّ وجمعه سموم .

قال الفَرَزْدَقُ : [ الطويل ]

فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتَّى تَنَفَّسَا *** وقُلْتُ لَهُ لا تَخْشَ شَيْئاً وَرَائِيَا{[16132]}

والسُّمُّ : القاتل ، وسمي بذلك للطفه وتأثيره في مسامّ البدنِ حتى يصل إلى القلب ، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أُريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن ، وقد سمَّه إذا أدخله فيه ، ومنه " السَّمَّة " للخاصة الذين يدخلون بَوَاطِنَ الأمور ومَسَامَّها ، ولذلك يقال لهم : الدّخلُل . والسموم الريح الحادة ؛ لأنَّها تؤثر تأثير السّم القاتل . والخياط والمخيط الآلة التي خاطُ بها فِعال ومِفْعَل ، كإزار ومئزر ، ولحافٍ ومِلْحَفٍ ، وقناعٍ ومِقْنَعٍ .

وقرأ{[16133]} عبد الله ، وقتادة ، وأبُو رزين ، وطلحةُ " سُمِّ " بضمِّ السِّين ، وأبو عمران الجوني ، وأبُو نهيكٍ ، والأصمعيُّ عن نافع " سِمّ " بالكسر ، وقد تقدَّم أنَّها لغات .

وقرأ عَبْدُ الله ، وأبُو رزين{[16134]} ، وأبو مجلزٍ : " المِخْيَط " بكسر الميم وسكون الخاء ، وفتح الياء .

وطلحةُ بفتح الميم ، وهذه مخالفة للسَّوادِ .

قوله : " وَكَذِلِكَ " أي : ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين ، فالكاف نعت لمصدر محذوف .


[16119]:في أ: فالدهريون.
[16120]:ينظر: السبعة 280، والحجة 4/18، وحجة القراءات 282، وإعراب القراءات 1/180، والعنوان 95، وشرح الطيبة 4/294، وشرح شعلة 388، وإتحاف 2/48.
[16121]:وقع في المحرر الوجيز 2/400 أن قراءة أبي حيوة: "يفتح" بالياء وفتح الفاء وشد التاء، والمثبت عند المصنف كما في البحر 4/299، والدر المصون 3/269.
[16122]:أخرجه الطبري في تفسيره 5/ذ48 وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 3/155 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
[16123]:أخرجه مسلم 3/667، في الجنائز: باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه 96/971، وأبو داود 3/217، في الجنائز: باب في كراهية القعود على القبر 3228 وأخرجه النسائي 4/95، في الجنائز باب التشديد في الجلوس على القبر وابن ماجه 1/499، في الجنائز: باب ما جاء في النهي عن المشي على القبور.
[16124]:البيت لحسان بن ثابت وصدره: لا عيب بالقوم من طول ولا عظم *** ... ينظر ديوانه ص 178، وخزانة الأدب 4/72، وشرح أبيات سيبويه 1/554، وشرح شواهد المغني 1/210، والكتاب 2/73، 274، والمقاصد النحوية 2/362، وشرح شواهد الإيضاح ص 107، واللسان (قوا) والبحر 4/300، والدر المصون 3/269.
[16125]:صدر البيت وروايته في البحر 4/300 لقد عظم البعير بغير لب *** فلا يستغن بالعظم البعير ينظر: الدر المصون 3/269.
[16126]:سقط من ب.
[16127]:البيت ينظر: تفسير الماوردي 2/28، والدر المصون 3/270.
[16128]:ينظر: المحرر الوجيز 2/400، والبحر المحيط 4/300، والدر المصون 3/270.
[16129]:ينظر: الدر المصون 3/270.
[16130]:في هذه القراءات : ينظر: المحرر الوجيز 2/400، والبحر المحيط 4/300، والدر المصون 3/270.
[16131]:سقط من أ.
[16132]:ينظر تهذيب اللغة 12/322، واللسان (سمم)، والدر المصون 3/269.
[16133]:وبها قرأ ابن سيرين كما في المحرر الوجيز 2/400، وينظر : البحر المحيط 4/300، والدر المصون 3/270.
[16134]:ينظر القراءة السابقة.