اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ أَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودٗا لَّمۡ تَرَوۡهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (26)

{ ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } والمراد بالسّكينة : ما يسكن إليه القلبُ ، ويوجب الأمنة ، ووجه الاستعارة فيه : أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك ، وإذا أمن ؛ سكن وثبت ؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن . ثم قال تعالى : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } والمراد : أَنْزَلَ الملائِكة ، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة ، كما هو في قصة بدر ، فقال سعيد بن جبير : " أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة " ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر{[17707]} .

وقال سعيدُ بن المسيبِ : حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال : لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم ، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء ، تلقانا رجال بيض الوجوه ، فقالوا : شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا ، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم{[17708]} ؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا ، وقال آخرون : إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر ، وفائدة نزولهم في هذا اليوم : هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين .

ثم قال تعالى : { وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ } والمرادُ من هذا التَّعذيب : قتلهم وأسرهم ، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم .

وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى ؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر ، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه .

قوله : { وذلك جَزَآءُ الكافرين } تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] قالوا : الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء ، والجزاء اسم للكافي ، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه ، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي ؛ لأنه تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم ، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية .


[17707]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/343).
[17708]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/343-344) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/407) وعزاه إلى مسدد في مسنده والبيهقي وابن عساكر.