قوله تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } الآية .
لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء ، والإخوان ، والعشيرة ، وعن الأموال ، والتجارات ، والمساكن ، رعاية لمصالح الدِّين ، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس ، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين ، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه .
وضرب لهذا مثلاً ، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة حنين ، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صارُوا منهزمين ، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا ، فاته الدِّين والدنيا ، ومتى أطاع الله ، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا ، آتاه اللهُ الدِّين والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ ، لأجل مصلحة الدِّين ، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه .
قال الواحديُّ : " النّصر : المعونةُ على العدوِّ خاصة " " المواطن " : جمع " مَوْطِن " بكسر العين ، وكذا اسم مصدره ، وزمانه ، لاعتلال فائه ك " المَوْعد " ، قال : [ الطويل ]
وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى *** بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي{[17696]}
و " حُنَيْن " : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف ، فلذلك صرفه ، وبعضهم جعله اسماً للبقعة ، فمنعه في قوله : [ الكامل ]
نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ *** بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ{[17697]}
وهذا كما قال الآخرُ في " حراء " : اسم الجبل المعروف ، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله : [ الوافر ]
ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً *** وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا{[17698]}
المرادُ بالمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقال : إنها ثمانون موطناً ، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين ، ومن نصره الله فلا غالب له ، ثم قال " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " أي : واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم ، و " حنين " واد بين مكة والطائف .
وقيل : إلى جنب ذي المجاز . قال الرواةُ : لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة ، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان ، خرج متوجهاً إلى حنين ، لقتال هوازن وثقيف ، في اثني عشر ألفاً ، عشرة آلاف من المهاجرين ، وألفان من الطلقاءِ .
وقال عطاءٌ : عن ابن عباس " كانوا ستة عشر ألفاً " {[17699]} .
وقال الكلبيُّ " كانوا عشرة آلاف " . وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ، وعلى هوازن : مالكُ بن عوف النضري ، وعلى ثقيف : كنانة بن عبد ياليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان ، قال رجلٌ من الأنصار يقال له : سملة بنُ سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ ، وهو المراد من قوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } ، فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ، ووكلوا إلى كلمة الرجل{[17700]} ، وفي رواية : لم يرض الله قوله ، ووكلُوا إلى أنفسهم ، فاقتتلوا قتالاً شديداً ؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري ، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا ، وانكشف المسلمون .
قال قتادةُ : وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ{[17701]} .
قوله : " وَيَوْمَ حُنَيْنٍ " فيه أوجه :
أحدهما : أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله : " فِي مَوَاطِنَ " عطف ظرف الزمان من غير واسطة " في " على ظرف المكان المجرور بها ، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان ، أو العكس ، تقول : سرت أمامك ويوم الجمعة ، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله .
الثاني : زعم ابنُ عطية : أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ " مَواطِنَ " بقتدير : " وفِي يَوْمِ " ، فحذف حرف الخفض ، وهذا لا حاجة إليه .
الثالث : قال الزمخشريُّ{[17702]} : " فإن قلت : كيف عطف الزمان على المكان ، وهو " يَوْمَ حُنينٍ " على " مَواطِنَ " ؟ .
قلت : معناه : وموطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين " .
الرابع : أن يُراد ب " المواطِن " : الأوقاتُ ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان .
قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه - : " ويجوزُ أن يُراد ب " المواطن " : الوقت ، ك : مقتل الحسين ، على أنَّ الواجب أن يكون : " يَوْمَ حُنينٍ " منصوباً بفعل مضمر ، لا بهذا الظَّاهر ، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله : " إِذْ أَعجَبَتْكُمْ " بدلٌ من " يَوْمَ حُنَينٍ " ، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر ، لم يصحَّ ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرين في جميعها ، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به " .
قال شهابُ الدِّين{[17703]} : " لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين ، وعلى تأويل " المواطن " بالوقت ، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر ؟ وأمَّا قوله : " على أنَّ الواجب أن يكون " إلى آخره ؛ كلامٌ حسنٌ ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان ، فإذا جعلنا " إذْ " بدلاً من " يَوْم " كان معمولاً له ؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه ؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة ، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة ، إلاَّ أنَّه قد ينقدح ، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع المواطن ، حتَّى يلزم ما قاله " .
ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ : الجميع ، كما يُراد بالقلة العدمُ .
قوله : " بِمَا رَحُبَتْ " " ما " مصدريةٌ ، أي : رَحْبُها وسعتها . وقرأ زيد{[17704]} بن علي في الموضعين " رَحْبَت " بسكون العين ، وهي لغة تميم ، يسكنون عين " فَعُل " فيقولون : في " شَرُف " " شَرْف " . و " الرُّحْب " بالضمِّ : السَّعَة ، وبالفتح : الشيء الواسع ، يقال : رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ ، وهو قاصر . فأمَّا تعدِّيه في قولهم : رَحُبَتكم الدار " فعلى التضمين ، لأنه بمعنى " وسعتكم " .
قوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } الإغناء : إعطاء ما يدفع الحاجة ، أي : فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم . والمعنى : أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم ، وإنما يغلبون بنصر الله ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم ، صاروا منهزمين ، ثم قال : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } أي : مع رحبها ، و " ما " ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر ، والمعنى : إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم .
قال البراء بن عازب : كانت " هوازن " رماة ، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، وانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث . قال [ البراء ]{[17705]} : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ، قال : رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب ، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول : " أنَا النبيُّ لا كذِبْ ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب " {[17706]} وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار ، ثم قال للعبَّاس : نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِي : يا عباد الله ، يا أصحاب الشجرة ، يا أصحاب سورة البقرةِ ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً ، وأخذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده كفاً من الحَصَى ، فرماهم بها ، وقال : " شَاهتِ الوُجوهُ " فما زال أمرهم مدبراً ، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } .