اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{يَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدۡ قَالُواْ كَلِمَةَ ٱلۡكُفۡرِ وَكَفَرُواْ بَعۡدَ إِسۡلَٰمِهِمۡ وَهَمُّواْ بِمَا لَمۡ يَنَالُواْۚ وَمَا نَقَمُوٓاْ إِلَّآ أَنۡ أَغۡنَىٰهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضۡلِهِۦۚ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيۡرٗا لَّهُمۡۖ وَإِن يَتَوَلَّوۡاْ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِيمٗا فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۚ وَمَا لَهُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن وَلِيّٖ وَلَا نَصِيرٖ} (74)

قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } الآية .

قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظلِّ شجرةٍ ، فقال : " إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ " فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ " فانطلق الرَّجُل ؛ فجاء بأصحابه ، فحلفُوا بالله ما قالوا ، فأنزل الله عز وجل الآية{[17979]} .

وقال الكلبيُّ : نزلت في جلاس بن سويدٍ ، وذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك ، فذكر المنافقين ، فسمَّاهم رجْساً وعابهم ، فقال جلاسٌ : لئن كان محمد صادقاً ، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس ، وأخبره بما قال جلاس ، فقال الجلاس : كذب يا رسول الله ؛ فأمرهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر ؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله ، ولقد كذب عليَّ عامر ، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو : لقد قاله ، وما كذبتُ عليه ، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال : اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا .

فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون : " آمين " ، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية ، حتى بلغ { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ } ، فقام الجلاسُ ، فقال : يا رسول الله ، أسمع الله قد عرض عليّ التوبة ، صدق هعامر بن قيس فيما قاله ، لقد قلته وانا أستغفر الله ، وأتوب إليه ، فقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه{[17980]} .

وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] . وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام - ، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية . وقال القاضي : الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك ، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل ، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل ، وقعقة السلاح ، فالتفت ، فإذا قوم متلثمُون . فقال : إليكم يا أعداء الله ، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة ، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج .

فإن قيل : قوله : { وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل ، وهم لم يكونوا مسلمين .

فالجوابُ : أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب ؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وقوله : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عليه الصلاة والسلام والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم ، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ : " هو قولهم إذا قدمنا المدينة ؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه " {[17981]} .

قوله : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } .

في الاستثناء وجهان :

أحدهما : أنَّهُ مفعول به ، أي : وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم : ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك ، أي : إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا ، فهو تهكمٌ بهم ؛ كقوله : [ الطويل ]

ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ *** كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ{[17982]}

وقول الآخر : [ المنسرح ]

مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْ *** لا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا

وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا *** يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ{[17983]}

والثاني : أنَّهُ مفعولٌ من أجله ، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف ، تقديره : وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم . وقد تقدَّم الكلامُ على " نَقِمَ " [ الأعراف : 126 ] .

قيل : إن مولى الجلاس قتل ، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى .

وقال الكلبيُّ : كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم{[17984]} .

قوله : { فَإِن يَتُوبُواْ } أي : من نفاقهم : { يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا } أي : يعرضوا عن التوبة { يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا } بالخزي ، وفي { الآخرة } بالنَّارِ { وَمَا لَهُمْ } في الأَرض { مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي : أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير .


[17979]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/422) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/463) وزاد نسبته إلى الطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه.
[17980]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/311-312) عن الكلبي والرازي في "التفسير الكبير" (16/108).
[17981]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/312).
[17982]:ينظر: العمدة لابن رشيق 2/49، والبحر 5/74، واللسان (نحل) والتهذيب 5/366 نما، والدر المصون 3/485.
[17983]:البيتان لعبيد الله بن قيس الرقيات. ينظر: ديوانه 4، وطبقات فحول الشعراء 533، ومجاز القرآن 1/170، والأغاني 4/160، وغريب القرآن 190، واللسان نقم، والتهذيب 9/202 (نقم)، والبحر المحيط 5/74، وزاد المسير 3/471، والخزانة 7/288، والدر المصون 3/485.
[17984]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/312) والرازي في "التفسير الكبير" (16/109).