مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم قال تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } الذين يحتمل أن يكون بدلا عن الذين أحسنوا وهو الظاهر ، وكأنه تعالى قال ليجزي الذين أساءوا ويجزي الذين أحسنوا ، ويتبين به أن المحسن ليس ينفع الله بإحسانه شيئا وهو الذي لا يسيء ولا يرتكب القبيح الذي هو سيئة في نفسه عند ربه فالذين أحسنوا هم الذين اجتنبوا ولهم الحسنى ، وبهذا يتبين المسيء والمحسن لأن من لا يجتنب كبائر الإثم يكون مسيئا والذي يجتنبها يكون محسنا ، وعلى هذا ففيه لطيفة وهو أن المحسن لما كان هو من يجتنب الآثام فالذي يأتي بالنوافل يكون فوق المحسن ، لكن الله تعالى وعد المحسن بالزيادة فالذي فوقه يكون له زيادات فوقها وهم الذين لهم جزاء الضعف ، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام تقديره الذين يجتنبون كبائر الإثم يغفر الله لهم والذي يدل عليه قوله تعالى : { إن ربك واسع المغفرة } وعلى هذا تكون هذه الآية مع ما قبلها مبينة لحال المسيء والمحسن وحال من لم يحسن ولم يسيء وهم الذين لم يرتكبوا سيئة وإن لم تصدر منهم الحسنات ، وهم كالصبيان الذين لم يوجد فيهم شرائط التكليف ولهم الغفران وهو دون الحسنى ، ويظهر هذا بقوله تعالى بعده : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة } أي يعلم الحالة التي لا إحسان فيها ولا إساءة ، كما علم من أساء وضل ومن أحسن واهتدى ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : إذا كان بدلا عن الذين أحسنوا فلم خالف ما بعده بالمضي والاستقبال حيث قال تعالى : { الذين أحسنوا } وقال : { الذين يجتنبون } ولم يقل اجتنبوا ؟ نقول : هو كما يقول القائل الذين سألوني أعطيتهم ، الذين يترددون إلى سائلين أي الذين عادتهم التردد والسؤال سألوني وأعطيتهم فكذلك هاهنا قال : { الذين يجتنبون } أي الذين عادتهم ودأبهم الاجتناب لا الذين اجتنبوا مرة وقدموا عليها أخرى ، فإن قيل : في كثير من المواضع قال في الكبائر { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون } وقال في عباد الطاغوت : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله } فما الفرق ؟ نقول : عبادة الطاغوت راجعة إلى الاعتقاد والاعتقاد إذا وجد دام ظاهرا فمن اجتنبها اعتقد بطلانها فيستمر ، وأما مثل الشرب والزنا أمر يختلف أحوال الناس فيه فيتركه زمانا ويعود إليه ولهذا يستبرأ الفاسق إذا تاب ولا يستبرأ الكافر إذا أسلم ، فقال في الآثام : { الذين يجتنبون } دائما ، ويثابرون على الترك أبدا ، وفي عبادة الأصنام : { اجتنبوا } بصيغة الماضي ليكون أدل على الحصول ، ولأن كبائر الإثم لها عدد أنواع فينبغي أن يجتنب عن نوع ويجتنب عن آخر ويجتنب عن ثالث ففيه تكرر وتجدد فاستعمل فيه صيغة الاستقبال ، وعبادة الصنم أمر واحد متحد ، فترك فيه ذلك الاستعمال وأتى بصيغة الماضي الدالة على وقوع الاجتناب لها دفعة .

المسألة الثانية : الكبائر جمع كبيرة وهي صفة فما الموصوف ؟ نقول : هي صفة الفعلة كأنه يقول : الفعلات الكبائر من الإثم ، فإن قيل : فما بال اختصاص الكبيرة بالذنوب في الاستعمال ، ولو قال قائل : الفعلة الكبيرة الحسنة لا يمنعه مانع ؟ نقول : الحسنة لا تكون كبيرة لأنها إذا قوبلت بما يجب أن يوجد من العبد في مقابلة نعم الله تعالى تكون في غاية الصغر ، ولولا أن الله يقبلها لكانت هباء لكن السيئة من العبد الذي أنعم الله عليه بأنواع النعم كبيرة ، ولولا فضل الله لكان الاشتغال بالأكل والشرب والإعراض عن عبادته سيئة ، ولكن الله غفر بعض السيئات وخفف بعضها .

المسألة الثالثة : إذا ذكر الكبائر فما الفواحش بعدها ؟ نقول : الكبائر إشارة إلى ما فيها من مقدار السيئة ، والفواحش إشارة إلى ما فيها من وصف القبح كأنه قال : عظيمة المقادير قبيحة الصور ، والفاحش في اللغة مختص بالقبيح الخارج قبحه عن حد الخفاء وتركيب الحروف في التقاليب يدل عليه فإنك إذا قلبتها وقلت : حشف كان فيه معنى الرداءة الخارجة عن الحد ، ويقال : فشحت الناقة إذا وقفت على هيئة مخصوصة للبول فالفحش يلازمه القبح ، ولهذا لم يقل : الفواحش من الإثم وقال في الكبائر : { كبائر الإثم } لأن الكبائر إن لم يميزها بالإضافة إلى الإثم لما حصل المقصود بخلاف الفواحش .

المسألة الرابعة : كثرت الأقاويل في الكبائر والفواحش ، فقيل : الكبائر ما أوعد الله عليه بالنار صريحا وظاهرا ، والفواحش ما أوجب عليه حدا في الدنيا ، وقيل : الكبائر ما يكفر مستحله ، وقيل : الكبائر مالا يغفر الله لفاعله إلا بعد التوبة وهو على مذهب المعتزلة ، وكل هذه التعريفات تعريف الشيء بما هو مثله في الخفاء أو فوقه ، وقد ذكرنا أن الكبائر هي التي مقدارها عظيم ، والفواحش هي التي قبحها واضح فالكبيرة صفة عائدة إلى المقدار ، والفاحشة صفة عائدة إلى الكيفية ، كما يقال مثلا : في الأبرص علته بياض لطخة كبيرة ظاهرة اللون فالكبيرة لبيان الكمية والظهور لبيان الكيفية وعلى هذا فنقول على ما قلنا : إن الأصل في كل معصية أن تكون كبيرة ، لأن نعم الله كثيرة ومخالفة المنعم سيئة عظيمة ، غير أن الله تعالى حط عن عباده الخطأ والنسيان لأنهما لا يدلان على ترك التعظيم ، إما لعمومه في العباد أو لكثرة وجوده منهم كالكذبة والغيبة مرة أو مرتين والنظرة والقبائح التي فيها شبهة ، فإن المجتنب عنها قليل في جميع الأعصار ، ولهذا قال أصحابنا : إن استماع الغناء الذي مع الأوتار يفسق به ، وإن استمعه من أهل بلدة لا يعتدون أمر ذلك لا يفسق فعادت الصغيرة إلى ما ذكرنا من أن العقلاء إن لم يعدوه تاركا للتعظيم لا يكون مرتكبا للكبيرة ، وعلى هذا تختلف الأمور باختلاف الأوقات والأشخاص فالعالم المتقي إذا كان يتبع النساء أو يكثر من اللعب يكون مرتكبا للكبيرة ، والدلال والباعة والمتفرغ الذي لا شغل له لا يكون كذلك ، وكذلك اللعب وقت الصلاة ، واللعب في غير ذلك الوقت ، وعلى هذا كل ذنب كبيرة إلا ما علم المكلف أو ظن خروجه بفضل الله وعفوه عن الكبائر .

المسألة الخامسة : في اللمم وفيه أقوال : ( أحدها ) ما يقصده المؤمن ولا يحققه وهو على هذا القول من لم يلم إذا جمع فكأنه جمع عزمه وأجمع عليه( وثانيها ) : ما يأتي به المؤمن ويندم في الحال وهو من اللمم الذي هو مس من الجنون كأنه مسه وفارقه ويؤيد هذا قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } ( ثالثها ) : اللمم الصغير من الذنب من ألم إذا نزل نزولا من غير لبث طويل ، ويقال : ألم بالطعام إذا قلل من أكله ، وعلى هذا فقوله : { إلا اللمم } يحتمل وجوها : ( أحدها ) أن يكون ذلك استثناء من الفواحش وحينئذ فيه وجهان : ( أحدهما ) استثناء منقطع لأن اللمم ليس من الفواحش ( وثانيهما ) : غير منقطع لما بينا أن كل معصية إذا نظرت إلى جانب الله تعالى وما يجب أن يكون عليه فهي كبيرة وفاحشة ، ولهذا قال الله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة } غير أن الله تعالى استثنى منها أمورا يقال : الفواحش كل معصية إلا ما استثناه الله تعالى منها ووعدنا بالعفو عنه ( ثانيها ) : { إلا } بمعنى غير وتقديره والفواحش غير اللمم وهذا للوصف إن كان للتمييز كما يقال : الرجال غير أولي الإربة فاللمم عين الفاحشة ، وإن كان لغيره كما يقال الرجال غير النساء جاؤوني لتأكيد وبيان فلا ( وثالثها ) : هو استثناء من الفعل الذي يدل عليه قوله تعالى : { الذين يجتنبون } لأن ذلك يدل على أنهم لا يقربونه فكأنه قال : لا يقربونه إلا مقاربة من غير مواقعة وهو اللمم .

ثم قال تعالى : { إن ربك واسع المغفرة } وذلك على قولنا : { الذين يجتنبون } ابتداء الكلام في غاية الظهور ، لأن المحسن مجزى وذنبه مغفور ، ومجتنب الكبائر كذلك ذنبه الصغير مغفور ، والمقدم على الكبائر إذا تاب مغفور الذنب ، فلم يبق ممن لم تصل إليهم مغفرة إلا الذين أساؤوا وأصروا عليها ، فالمغفرة واسعة وفيه معنى آخر لطيف ، وهو أنه تعالى لما أخرج المسيء عن المغفرة بين أن ذلك ليس لضيق فيها ، بل ذلك بمشيئة الله تعالى ، ولو أراد الله مغفرة كل من أحسن وأساء لفعل ، وما كان يضيق عنهم مغفرته ، والمغفرة من الستر ، وهو لا يكون إلا على قبيح ، وكل من خلقه الله إذا نظرت في فعله ، ونسبته إلى نعم الله تجده مقصرا مسيئا ، فإن من جازى المنعم بنعم لا تحصى مع استغنائه الظاهر ، وعظمته الواضحة بدرهم أو أقل منه يحتاج إلى ستر ما فعله .

ثم قال تعالى : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } وفي المناسبة وجوه ( أحدها ) : هو تقرير لما مر من قوله : { هو أعلم بمن ضل } كأن العامل من الكفار يقول : نحن نعمل أمورا في جوف الليل المظلم ، وفي البيت الخالي فكيف يعلمه الله تعالى ؟ فقال : ليس عملكم أخفى من أحوالكم وأنتم أجنة في بطون أمهاتكم ، والله عالم بتلك الأحوال ( ثانيها ) : هو إشارة إلى الضال والمهتدي حصلا على ما هما عليه بتقدير الله ، فإن الحق علم أحوالهم وهم في بطون الأمهات ، فكتب على البعض أنه ضال ، والبعض أنه مهتد ( ثالثها ) : تأكيد وبيان للجزاء ، وذلك لأنه لما قال : { ليجزى الذين أساءوا بما عملوا } قال الكافرون : هذا الجزاء لا يتحقق إلا بالحشر ، وجمع الأجزاء بعد تفرقها وإعادة ما كان لزيد من الأجزاء في بدنه من غير اختلاط غير ممكن ، فقال تعالى : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم } فيجمعها بقدرته على وفق علمه كما أنشأكم ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : العامل في : { إذ } يحتمل أن يكون ما يدل عليه : { أعلم } أي علمكم وقت الإنشاء ، ويحتمل أن يكون اذكروا فيكون تقريرا لكونه عالما ويكون تقديره : { هو أعلم بكم } وقد تم الكلام ، ثم يقول : إن كنتم في شك من علمه بكم فاذكروا حال إنشائكم من التراب .

المسألة الثانية : ذكرنا مرارا أن قوله : { من الأرض } من الناس من قال آدم فإنه من تراب ، وقررنا أن كل أحد أصله من التراب ، فإنه يصير غذاء ، ثم يصير نطفة .

المسألة الثالثة : لو قال قائل : لا بد من صرف { إذ أنشأكم من الأرض } إلى آدم ، لأن { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } عائد إلى غيره ، فإنه لم يكن جنينا ، ولو قلت بأن قوله تعالى { إذ أنشأكم } عائد إلى جميع الناس ، فينبغي أن يكون جميع الناس أجنة في بطون الأمهات ، وهو قول الفلاسفة ؟ نقول ليس كذلك ، لأنا نقول : الخطاب مع الموجودين حالة الخطاب ، وقوله تعالى : { هو أعلم بكم } خطاب مع كل من بعد الإنزال على قول ، ومع من حضر وقت الإنزال على قول ، ولا شك أن كل هؤلاء من الأرض وهم كانوا أجنة .

المسألة الرابعة : الأجنة هم الذين في بطون الأمهات ، وبعد الخروج لا يسمى إلا ولدا أو سقطا ، فما فائدة قوله تعالى : { في بطون أمهاتكم } ؟ نقول : التنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد .

المسألة الخامسة : لقائل أن يقول : إذا قلنا إن قوله { هو أعلم بكم } تقرير لكونه عالما بمن ضل ، فقوله تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } تعلقه به ظاهر ، وأما إن قلنا إنه تأكيد وبيان للجزاء ، فإنه يعلم الأجزاء فيعيدها إلى أبدان أشخاصها ، فكيف يتعلق به { فلا تزكوا أنفسكم } ؟ نقول : معناه حينئذ فلا تبرئوا أنفسكم من العذاب ، ولا تقولوا تفرقت الأجزاء فلا يقع العذاب ، لأن العالم بكم عند الإنشاء عالم بكم عند الإعادة ، وعلى هذا قوله : { أعلم بمن اتقى } أي يعلم أجزاءه فيعيدها إليه ، ويثيبه بما أقدم عليه .

المسألة السادسة : الخطاب مع من ؟ فيه ثلاثة احتمالات ( الأول ) : مع الكفار ، وهذا على قولنا إنهم قالوا كيف يعلمه الله ، فرد عليهم قولهم ( الثاني ) كل من كان زمان الخطاب وبعده من المؤمنين والكفار ( الثالث ) هو مع المؤمنين ، وتقريره : هو أن الله تعالى لما قال : { فأعرض عن من تولى عن ذكرنا } قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قد علم كونك ومن معك على الحق ، وكون المشركين على الباطل ، فأعرض عنهم ولا تقولوا : نحن على الحق وأنتم على الضلال ، لأنهم يقابلونكم بمثل ذلك ، وفوض الأمر إلى الله تعالى ، فهو أعلم بمن اتقى ومن طغى ، وعلى هذا فقول من قال : { فأعرض } منسوخ أظهر ، وهو كقوله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } والله أعلم بجملة الأمور ، ويحتمل أن يقال : على هذا الوجه الثالث إنه إرشاد للمؤمنين ، فخاطبهم الله وقال : هو أعلم بكم أيها المؤمنون ، علم ما لكم من أول خلقكم إلى آخر يومكم ، فلا تزكوا أنفسكم رياء وخيلاء ، ولا تقولوا لآخر أنا خير منك وأنا أزكى منك وأتقى ، فإن الأمر عند الله ، ووجه آخر وهو إشارة إلى وجوب الخوف من العاقبة ، أي لا تقطعوا بخلاصكم أيها المؤمنون ، فإن الله يعلم عاقبة من يكون على التقي ، وهذا يؤيد قول من يقول : أنا مؤمن إن شاء الله للصرف إلى العاقبة .

 
المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

32- الذين يجتنبون ما يكبر عقابه من الذنوب وما يعظم قبحه منها ، لكن الصغائر من الذنوب يعفو الله عنها ، إن ربك عظيم المغفرة ، هو أعلم بأحوالكم ، إذ خلقكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم في أطواركم المختلفة ، فلا تصفوا أنفسكم بالتزكي مدحاً وتفاخراً ، هو أعلم بمن اتقى ، فزكت نفسه حقيقة بتقواه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم يحدد الذين أحسنوا هؤلاء ، والذين يجزيهم بالحسنى . . فهم :

( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا اللمم ) . .

وكبائر الإثم هي كبار المعاصي . والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش . واللمم تختلف الأقوال فيه . فابن كثير يقول : وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال . قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالرزاق ، أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] قال : " إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة . فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن ثور ، حدثنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال : زنا العين النظر ، وزنا الشفتين التقبيل ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين المشي . ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه . فإن تقدم بفرجه كان زانيا وإلا فهو اللمم . وكذا قال مسروق والشعبي .

وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي ، قال : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم قال : القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة . فإذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل . وهو الزنا .

فهذه أقوال متقاربة في تعريف اللمم .

وهناك أقوال أخرى :

قال علي بن طلحة عن ابن عباس : إلا اللمم إلا ما سلف . وكذا قال زيد بن أسلم .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن منصور ، عن مجاهد ، أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .

وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار : حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . . قال : هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب . وقال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ]

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ?

وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل . ثم قال : هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق . وكذا قال البزار لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبدالله بن يزيع . حدثنا يزيد بن زريع . حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - [ اراه رفعه ] في ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) . قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود . واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود . واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود . قال : فذلك الإلمام . .

وروي مثل هذا موقوفا على الحسن .

فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدا غير الأول .

والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبا مع قوله تعالى بعد ذلك : ( إن ربك واسع المغفرة ) . . فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش ، ثم التوبة . ويكون الاستثناء غير منقطع . ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش . إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعا ولا يلجوا ولا يصروا . كما قال الله سبحانه : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) . . وسمى هؤلاء [ المتقين ] ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض . . فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة .

وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوءى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها .

( هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض ، وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم ) . .

فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم . العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة ، التي لا يعلمونها هم ، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم . علم كان وهو ينشيء أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب . وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد . علم بالحقيقة قبل الظاهر . وبالطبيعة قبل العمل .

ومن كانت هذه طبيعة علمه يكون من اللغو - بل من سوء الأدب - أن يعرفه إنسان بنفسه ، وأن يعلمه - سبحانه - بحقيقته ! وأن يثني على نفسه أمامه يقول له : أنا كذا وأنا كذا :

( فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) . .

فما هو بحاجة إلى أن تدلوه على أنفسكم ، ولا أن تزنوا له أعمالكم ؛ فعنده العلم الكامل . وعنده الميزان الدقيق . وجزاؤه العدل . وقوله الفصل . وإليه يرجع الأمر كله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

{ الذين يجتنبون كبائر الإثم } ما يكبر عقابه من الذنوب وهو ما رتب عليه الوعيد بخصوصه . وقيل ما أوجب الحد . وقرأ حمزة والكسائي وخلف كبير الإثم على إرادة الجنس أو الشرك . { والفواحش } ما فحش من الكبائر خصوصا . { إلا اللمم } إلا ما قل وصغر فإنه مغفور من مجتنبي الكبائر ، والاستثناء منقطع ومحل { الذين } النصب على الصفة أو المدح أو الرفع على أنه خبر محذوف . { إن ربك واسع المغفرة } حيث يغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، أو له أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها وكبيرها ، ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى . { هو أعلم بكم } أعلم بأحوالكم منكم . { إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } علم أحوالكم ومصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم وحينما صوركم في الأرحام . { فلا تزكوا أنفسكم } فلا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير ، أو بالطهارة عن المعاصي والرذائل . { هو أعلم بمن اتقى } فإنه يعلم التقي وغيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم عليه السلام .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

31

المفردات :

الذين يجتنبون : ( الذين ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يجتنبون . . . ، والجملة بيان لمن اهتدى .

كبائر الإثم : ما عظم من الذنوب ، وما كبر عقابه .

الفواحش : جمع فاحشة ، وهي ما فحش من الكبائر ، يقال : فحش يفحش فحشا ، أي : قبح أشد القبح ، مثل : الزنا والسرقة والقتل .

إلا اللمم : إلا ما قلَّ وصغر من الذنوب ، وأصله : ما قل قدره ، ومنه : لمة الشعر ، لأنها دون الوفرة .

فلا تزكوا أنفسكم : فلا تصفوها بالطهارة .

أجنّة : جمع جنين ، وهو الولد ما دام في بطن أمه .

التفسير :

32- { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .

من سعة رحمة الله وفضله أن يمدح عباده المتقين ، وأن يصفهم باجتناب كبائر الذنوب ، مثل : السحر واليمين الغموس ، والتولّي يوم الزحف ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، وهم يبتعدون عن الفواحش – جمع فاحشة – وهي ما تناهى قبحها عقلا وشرعا ، كالزنا والسرقة والقتل .

إلا ما قل وصغر من الذنوب .

قال القرطبي :

وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله ، كالقبلة والغمزة والنظرة .

وقال ابن كثير : اللمم : صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال .

وعن ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " xii . رواه الشيخان ، وأحمد .

وقال عبد الرحمن بن نافع : سألت أبا هريرة عن قول الله : إلا اللمم . فقال : القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل وهو الزنا .

وروى ابن جرير ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : إلا اللمم ، قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه .

قال الشاعر :

إن تغفر اللهم تغفر جمّا *** وأي عبد لك ما ألمّا ؟

وعن الحسن في قوله تعالى :

{ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ . . . }

قال : اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعودxiii . 1ه .

لقد فتح الله تعالى أبواب التوبة أمام التائبين ، وحث عباده على ذلك ، ودعاهم إلى التوبة في كل وقت ، وبذلك يتخلص الإنسان من الإحباط والإثم ، والشعور بالدّونية ، حيث يتطهر ويصلي ركعتين بنية التوبة ، ويسأل الله تعالى أن يغفر له ، وأن يتوب عليه ، فيجيبه الغفور الرحيم .

قال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . } ( الزمر : 53 )

وقال سبحانه وتعالى : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } . ( طه : 82 )

وهذه الآية الكريمة تتحدث عن فضل الله ورحمته ، فتقول : إن ربك واسع المغفرة . . . فرحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها .

قال البيضاوي : ولعله عقّب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين ، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته ، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى .

{ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ . . . }

حيث خلق أبانا آدم من الأرض ، فقد خلقه من التراب ، واختلط التراب بالماء فصار طينا ، وترك الطين فترة حتى تغيّر فأصبح حمأ مسنونا ، وبعد فترة أصبح كالفخار ، فهي مراحل مرّ بها الإنسان .

وقال بعض المفسرين :

الإنسان مكون من النطفة ، وهي خلاصة الدم ، والدم خلاصة الغذاء ، والغذاء يأتي من الأرض .

{ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ . . . }

أي : وهو أعلم بكم وقت كونكم في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة بعضها يلي بعضا ، وهو سبحانه عليم بما في الأرحام ، وما ينتظر الجنين من رزق ، وسعادة أو شقاوة .

والإله العليم ينبغي أن نعتمد عليه ، وأن نتذكر نعماءه ، وأنه سبحانه يرى ويطّلع ، ويحاسب ويجازي .

{ فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } .

لا تمدحوا أنفسكم على سبيل الإعجاب ، ولا تشهدوا لها بالكمال والتقى ، فإن النفس خسيسة ، إذا مُدحت اغترّت وتكبّرت .

أو الزموا الإخلاص وصدق المراقبة لله ، والخوف من غضب الجبار ، ومن سوء الخاتمة ، فإن الله مطلع على عبيده ، وهو عليم بمن أخلص العمل واتقى من ربّه في السر والعلن .

والآية دعوة إلى التوبة ، والمسارعة إلى رحمة الله وفضله ، وفيها دعوة إلى الإخلاص ، مع الخوف من الله ، والرجاء في رحمته ، واليقين بسعة علمه ومراقبته ، واطلاعه على الظاهر والباطن سبحانه وتعالى .

قال المفسرون :

نهى القرآن عن تزكية المرء نفسه وعن مدحها والثناء عليها ، أو ادعاء العصمة من الصغائر ، أو الطهارة من المعاصي ، لأن العاقبة مجهولة ، وعلينا أن نحمد الله على الطاعة ، وأن نحذر المعصية ، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي ، وعلينا ألا نمدح الآخرين في وجوههم .

روى الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، قال : مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويلك ، قطعت عنق صاحبك – مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ، ولا أزكّي على الله أحدا ، أحسبه كذا وكذا ، إن كان يعلم ذلك " . xiv

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

ثم وصف المحسنين بقوله : { الذين يجتنبون كبائر الإثم } ما كبر عقابه من الذنوب . { والفواحش } ما عظم قبحه من الكبائر . { إلا اللمم } ما صغر من الذنوب ؛ كالنظرة والغمزة والقبلة ؛ من قولهم : ألمّ بالمكان ، إذا قل لبثه فيه . وألمّ بالطعام : إذا قل أكله منه . وقيل : هو مقاربة الذنب من غير مواقعته ؛ فهو الهم به دون أن يفعله . من قولهم : ألم الشيء : قرب . وألم بكذا : قاربه ولم يخالطه . والجمهور على أن الذنوب منقسمة إلى كبائر وضغائر . وضابط الكبيرة : ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد في الكتاب أو السنة . وقيل : كل جريمة تؤذن بقلة اكثرات مرتكبها بالدين ورقة الديانة . وقيل غير ذلك . واعتمد الواحدي أنه لا حد لها يحصرها ويعرفها العباد به . وقد أخفى الله أمرها ليجتهدوا في اجتناب المنهى عنه رجاء أن تجتنب الكبائر . وعرفها بعضهم بالعد ، ومنها الموبقات السبع [ تراجع الزواجر لابن حجر ] .

{ هو أعلم بكم . . . } أي يعلم أحوالكم ، إذا أنشأكم في ضمن إنشاء أبيكم آدم من تراب . { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } فيعلم أطواركم فيها ، وحاجتكم إلى الغداء ، ويعلم العدد والذكورة والأنوثة ، ووقت الانفصال عن الأم ، ومدة المكث في الرحم ، وغير ذلك من شئونها . { فلا تزكوا أنفسكم } أي إذا كان عدم المؤاخذة باللمم مع كونه من الذنوب ، إنما هي لمحض مغفرته تعالى مع علمه بصدوره منكم : فلا تمدحوا أنفسكم بالطهارة من الذنوب بالكلية ، بل اشكروه تعالى على فضله وواسع مغفرته .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

شرح الكلمات :

{ الذي يجتبون كبائر الإِثم } : أي يتجنبون كبائر الذنوب وهو كل ذنب وُضع له حد أو لعن فاعله أو تُوعد عليه بالعذاب في الآخرة .

{ والفواحش إلا اللمم } : أي الذنوب القبيحة كالزنا واللواط وقذف المحصنات والبخل واللمم صغائر الذنوب التي تكفر باجتناب كبائرها .

{ هو أعلم بكم إذا أنشأكم من الأرض } : أي خلق أباكم آدم من تراب الأرض .

{ وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } : أي وأنتم في أرحام أمهاتكم لم تولدوا بعد .

{ فلا تزكوا أنفسكم } : أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإِعجاب .

{ هو أعلم بمن اتقى } : أي منكم بمن اتقى منكم وبمن فجر فلا حاجة إلى ذكر ذلك منكم .

المعنى :

وقوله { الذي يجتنبون كبائر الإِثم والفواحش } بيّن فيه وجه إحسان المحسنين إلى أنفسهم حين طهروها بالإِيمان وصالح الأعمال ولم يلوثوها بأوضار كبائر الإِثم من كل ما تُوعد فاعله بالنار أو بلَعْنٍ أو إقامة حدٍ ، أو غضب الرب .

والفواحش من زنا ولواط وبخل وقوله { إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة } أي لكن اللمم يتجاوز عنه وهو ما ألم به المرء وتاب منه أو فعله في الجاهلية ثم أسلم ، وما كان من صغائر الذنوب كالنظرة والكلمة والتمرة . وقد فسر بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه . فمغفرة الله واسعة تشمل كل ذنب تاب منه فاعله كما تشمل كل ذنب من الصغائر " .

وقوله تعالى { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } أعلم بضعفنا وغرائزنا وحاجاتنا وعجزنا مِنّا نحن بأنفسنا ولذا تجاوز لنا عن اللمم الذي نُلِمُّ به بحكم العجز والضعف ، فله الحمد والمنة ، وقوله : { فلا تزكوا أنفسكم } ينهى الرب تعالى عباده المؤمنين عن تزكية المرء نفسه بإدعاء الكمال والطهر الأمر الذي كون فخراً وإعجاباً والإِعجاب بالنفس محبط للعمل كالرياء والشرك فقوله { فلا تزكوا أنفسكم } أي لا تشهدوا عليها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي وقوله { هو أعلم بمن اتقى } أي أن الله أعلم بمن اتقى منكم ربه فخاف عقابه فأدى الفرائض واجتنب المحرمات منا ومن المتقى نفسه فلذا لا تمدحوا أنفسكم له فإنه أعلم بكم من أنفسكم .

الهداية

من الهداية :

- تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر .

- حرمة تزكية النفس وهى مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال التفوق .