البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

اللمم : ما قل وصغر ، ومنه اللمم : المسمن الجنون ، وألمّ بالمكان : قل لبثه فيه ، وألمّ بالطعام : قل أكله منه . وقال المبرد : أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يركبه ، يقال : ألم بكذا ، إذا قاربه ولم يخالطه . وقال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو ، يقال : ألم يفعل كذا ، بمعنى : كاد يفعل . قال جرير :

بنفسي من تجنيه عزيز *** عليّ ومن زيارته لمام

وقال آخر :

لقاء أخلاء الصفا لمام

الأجنة : جمع جنين ، وهو الولد في البطن ، سمي بذلك لاستتاره ، والاجتنان : الاستتار .

وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } في سورة النساء .

والذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر ، والفواحش معطوف على كبائر ، وهي ما فحش من الكبائر ، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها .

وقال الزمخشري : والكبائر : الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة .

انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال .

{ إلا اللمم } : استثناء منقطع ، لأنه لم يدخل تحت ما قبله ، وهو صغار الذنوب ، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم ، كقوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله } ، أي غير الله { لفسدتا } وقيل : يصح أن يكون استثناء متصلاً ، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو ، وقد اختلفوا فيه اختلافاً ، فقال الخدري : هو النظرة والغمزة والقبلة .

وقال السدي : الخطرة من الذنب .

وقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي والكلبي : كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً ولا عذاباً .

وقال ابن عباس أيضاً وابن زيد : ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام .

وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه : أن سبب الآية قول الكفار للمسلمين : قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا ، فنزلت ، وهي مثل قوله : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } وقيل : نزلت في نبهان التمار ، وحديثه مشهور .

وقال ابن عباس وغيره : العلقة والسقطة دون دوام ، ثم يتوب منه .

وقال الحسن : والزنا والسرقة والخمر ، ثم لا يعود .

وقال ابن المسيب : ما خطر على القلب .

وقال نفطويه : ما ليس بمعتاد .

وقال الرماني : الهم بالذنب ، وحديث النفس دون أن يواقع .

وقيل : نظرة الفجأة .

{ إن ربك واسع المغفرة } ، حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر .

وقال الزمخشري : والكبائر بالتوبة .

انتهى ، وفيه نزعة الاعتزال .

{ هو أعلم بكم } : قيل نزلت في قوم من اليهود عظموا أنفسهم ، وإذا مات طفل لهم قالوا : هذا صديق عند الله .

وقيل : في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم ، والظاهر أنه خطاب عام ، وأعلم على بابها من التفضيل .

وقال مكي : بمعنى عالم بكم ، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصل موضوعها .

كان مكياً راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو : { إذ أنشأكم من الأرض } ، والظاهر أن المراد بأنشأكم : أنشأ أصلكم ، وهو آدم .

ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض ، { فلا تزكوا أنفسكم } : أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها ، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم ، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم .

وكثيراً ما ترى من المتصلحين ، إذا حدثوا ، كان وردنا البارحة كذا ، وفاتنا من وردنا البارحة ، أو فاتنا وردنا ، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل .

وترى لبعضه في جبينه سواداً يوهم أنه من كثرة السجود ، ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام ، فيحرك يديه مراراً ، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه ، وكأنه يخطف شيئاً بيديه وقت التحريكة الأخيرة ، يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية .

وبعضهم يقول في حلفه : وحق البيت الذي زرت ، يعلم أنه حاج ، وإذا لاح له فلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة ، ولا يلحقه شيء من الواسوس ، ولا من إحضار النية في أخذه ، وتراه يحب الثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها .

وقيل : المعنى لا يزكي بعضكم بعضاً تزكية السمعة أو المدح للدنيا ، أو تزكية بالقطع .

وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة .

والجنين : ما كان في البطن ، فإذا خرج سمي ولداً أو سقطاً .

وقوله : { في بطون أمهاتكم } تنبيه على كمال العلم والقدرة ، فإن بطن الأم في غاية الظلمة ، ومن علم حاله وهو مجنّ ، لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر .

{ بمن اتقى } : قيل الشرك .

وقال علي : عمل حسنة وارعوى عن معصية .