تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{ٱلَّذِينَ يَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلۡمَغۡفِرَةِۚ هُوَ أَعۡلَمُ بِكُمۡ إِذۡ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَإِذۡ أَنتُمۡ أَجِنَّةٞ فِي بُطُونِ أُمَّهَٰتِكُمۡۖ فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ} (32)

الآية 32 ثم نعت { الذين أحسنوا بالحسنى } وهو التوحيد ، فقال : { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللّمم } ثم يحتمل أن تكون الكبائر ما يعرفها كل أحد أنها [ كبيرة والفواحش{[20092]} ما يعرفها كل أحد أنها ]{[20093]} فاحشة ، واللّمم على هذا يجيء أن تكون [ من ]{[20094]} تلك الكبائر والفواحش لأنه استثناها [ منها ]{[20095]} فيجب أن تكون من جنسها ، لكنه استثناها ، وعفا عنها ، لما يقعون فيها عن غفلة وسهو أو عن غلبة شهوة ونحوها ، وهو الأشبه بتأويل الآية .

وقال أهل التأويل : الكبائر والفواحش هي التي ذُكر لها الحدّ في الدنيا والعقوبة في الآخرة ، واللّمم [ هي ]{[20096]} التي لم يُذكر لها حدّ ولا عقوبة في الآخرة .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ( زنى العين النظر ، وزنى الشّفتين التقبيل ، وزِنى اليدين البطش ، وزنى الرجلين المشي ، ويصدّق ذلك ويكذّبه الفرج ، فإن تقدم فهو زنى ، وإلا فهو اللّمم ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره : 27/65 ] وفي رواية : ( إن تقدم كان زنى ، وإن تأخّر كان لَمَمًا ] .

وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[20097]} قال : ما رأيت باللّمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كتب على ابن آدم حظّه من الزنى ، أدرك ذلك ، لا محالة ، فزنى العينين النظر ، وزنى اللسان النطق ، والنفس تتمنّى ، وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك ، أو يكذّبه ) [ مسلم 2657/21 ] .

وعن أبي هريرة أنه [ قال : ( هي ]{[20098]} النّظرة والغَمْزة والقُبلة والمباشَرة ) [ ابن جرير الطبري في تفسيره 27/66 ] وعنه [ أنه قال : ]{[20099]} ( إن اللّمم النكاح ) [ الطبري 27/67 ] وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( اللّمم لَمَمُ الجاهلية ) [ الطبري 27/64 ] وعنه [ وهو قوله ]{[20100]} تعالى : { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } [ النساء : 23 ] .

وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه قال : ]{[20101]} ( هو أن يلُمّ المرّة ) [ الطبري27/67 ] . وقيل : اللّمم بالخطيئة من جهة حديث الشيء من غير عزم . وقيل : إن اللّمم هو مقاربة الشيء من غير دخول فيه .

وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[20102]} قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :

إن تغفِر اللهم تغفر جمًّا وأي عبد لك لا ألَمّا{[20103]} ؟

[ الترمذي 3284 ] وقيل : اللّمم : الصغير من الذنوب لقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تُنهَون عنه } الآية [ النساء : 31 ] .

وقال القتبيّ : اللّمم الصغائر من الذنوب ، وهي من ألمّ بالشيء ، إذا لم يتعمّق فيه ، ولم يلزمه .

وقال بعضهم : اللّمم ما بين الحدّين : حدّ الدنيا وحدّ الآخرة ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وذلك يحتمل ، والأول أقرب .

وقال أبو بكر الأصمّ : اللّمم التي يتوب عنها ؛ فإنهم إن تابوا عنها يتجاوز عنهم ، فهو يجعل اللّمم من تلك الكبائر والفواحش ، لكنه يقول إنما استثنى لما يتوب عنها ، لما يقعون فيها على السّهو والغفلة أو لغلبة شهوة على حسن الظن بربه ، فيغفر لهن أو يتوب عنها ، فيعفو عنها .

وعلى تأويل أهل التأويل : اللّمم ما دون الكبائر والفواحش [ وجائز أن تكون الكبائر والفواحش ]{[20104]} التي ذكر كبائر الشرك وفواحشه كقوله عز وجل : { والذين إذا فعلوا فاحشة } الآية [ آل عمران : 135 ] وقوله تعالى : { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرّمنا من دونه من شيء } [ النحل : 35 ] فتكون اللّمم على هذا ما دون الشرك ، فهي في مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنها ، وإن شاء عذّب عليها كقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يُشرَك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] .

وقوله تعالى : { إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض } أي هو أعلم بكم وبأحوالكم ووقوعكم فيها على السّهو والغفلة ، عفا عنكم أي عن اللّمم .

وعلى قول أبي بكر : إنّ ربك واسع المغفرة لمن تاب عنها ، وهو أعلم بكم بأنكم تتوبون عنها .

وعندنا ما ذكر : هو واسع المغفرة لمن شاء تاب عنها ، أو لم يتُب . ثم إن كانت المغفرة هي السّتر ، فهي تعمّ المؤمن والكافر في الدنيا ، وإن كانت التجاوز فهي للمؤمنين خاصة ، والله الموفّق .

وقوله تعالى : { هو أعلم بكم } عندنا هو أعلم بكم بأنكم تعملون ، وتقعون فيها على السّهو والغفلة ، أو هو أعلم بأحوالكم وأفعالكم وما يكون منكم ، وهو { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجِنّة في بطون أمهاتكم } ما لو اجتمع حكماء البشر ما أدركوا معنى الإنشاء{[20105]} في ذلك ، ولا أدركوا معنى تصوير اليدين والعينين وغيرها من الجوارح وقت ما كنتم أجِنّة في بطون أمهاتكم .

ثم نسبتنا إلى الأرض بقوله تعالى : { من الأرض } يحتمل وجهين : إما لخلق أصلنا من الأرض كقوله تعالى : { خَلَقكُم من تراب } [ الروم : 20 ] ونحوه ، وإما{[20106]} لجعل أقواتنا منها لقوله تعالى : { وقدّر فيها أقواتا } [ فصلت : 10 ] إذ لا قوام لنا إلا بذلك الغداء والقوت الذي يخرُج من الأرض ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فلا تُزكّوا أنفسكم } [ يحتمل وجهين :

أحدهما : ]{[20107]} في ظاهر الآية نهى عن التزكية ، وأمر في آية أخرى بالتزكية ورغّب فيها /537-ب/ حين{[20108]} قال : { ويُزكّيكم ويُعلّمكم الكتاب والحكمة } [ البقرة : 151 ] لكن في ما أمر بالتزكية أمر بإصلاح أنفسهم بأنفسهم وتزكيتها فعلا ، وفي ما نهى عن التزكية نهى عن أن يصِفوا أنفسهم بالتزكية والصلاح والتُّقى والبراءة ، لعل ذلك ليس بتزكية في الحقيقة ، أو يكون فيهم من الفساد ما لا يستحق التزكية والوصف بالبراءة ، والله أعلم .

فإن قيل : إن الله تعالى لما نهانا عن التزكية فكيف جاز لنا أن نقول لأنفسنا : إنا مؤمنون ومسلمون ، إن ذلك مدح وتزكية ؟

قيل : إنه{[20109]} أمرنا بقول الإيمان والإسلام ابتداءً حين{[20110]} قال : { قولوا آمنا بالله } الآية [ البقرة : 136 ] وقال{[20111]} : { وأسلِموا له } [ الزمر : 54 ] ونحو ذلك ، ولم يأمر بمثله ابتداءً في الصلاح ؛ ونحوه بأن نقول : نحن صُلحاء أتقياء ، فجاز ألا يمنع في الإيمان ، ويمنع في غيره من الطاعات .

والثاني : أن ليس في نفس الإيمان تزكية لأن كل أهل الأديان مؤمنون بشيء كافرون بشيء كقوله{[20112]} تعالى : { فمن يكفُر بالطاغوت ويؤمن بالله } [ البقرة : 256 ] وقول أولئك : { نؤمن ببعض ونكفر ببعض } [ النساء : 150 ] [ وقوله تعالى ]{[20113]} : { يؤمنون بالجِبت والطاغوت } [ النساء : 51 ] وفي نفس التُّقى والصلاح تزكية .

وقيل : { فلا تُزكّوا أنفسكم } أي لا تُزكّوا أهل دينكم ومذهبكم ، وذلك متعارف في الناس أنهم يُزكّون أهل مذهبهم ، وإن كانوا لا يعرفون منهم الشر وما به تجب المذمّة . وذلك مُحتمل . ويحتمل ما ذكرنا أنه نهى كلاًّ في نفسه أن يزكّي ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { هو أعلم بمن اتّقى } أي اتقى محارم الله ومناهيه ، ويحتمل أي اتّقى الكفر بالله والشرك به .


[20092]:في م، والفاحشة.
[20093]:من م، ساقطة من الأصل.
[20094]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[20095]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[20096]:ساقطة من الأصل وم.
[20097]:ساقطة من الأصل وم.
[20098]:ساقطة من الأصل وم.
[20099]:ساقطة من الأصل وم.
[20100]:في الأصل وم: كقوله.
[20101]:ساقطة من الأصل وم.
[20102]:ساقطة من الأصل وم.
[20103]:اضطربت نسبة هذا البيت بين أبي خراش الهذلي وبين أمية بن أبي الصلت، انظر ديوان ابن أبي الصلت ص/161 و/491.
[20104]:من نسخة الحرم المكي، ساقطة من الأصل وم.
[20105]:في الأصل وم: الإنسان.
[20106]:في الأصل وم: أو.
[20107]:ساقطة من الأصل وم.
[20108]:في الأصل وم: حيث.
[20109]:في الأصل وم: إنا.
[20110]:في الأصل وم: حيث.
[20111]:في الأصل وم: وقوله.
[20112]:في الأصل وم: بقوله.
[20113]:في الأصل وم: وقولهم.